العدد 206 -

السنة الثامنة عشرة ربيع الأول 1425هـ – أيار 2004م

مشروع الخلافة العظيم مشروع ثبات وعمل

مشروع الخلافة العظيم

مشروع ثبات وعمل

          الحمد لله الذي عزّ فارتفع، وعلا فامتنع، وذلً كلُّ شيء لعظمته وخضع … وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رفع الله به أقواما، ووضع به آخرين، أزكى البشرية، وأتقاها، وأعظمها إيماناً برب العالمين، سنتنا سنته، وهدينا هديه، وطريقتنا طريقته، فنسأل الله تعالى مجاورته في جنات النعيم … اللهم صلّ وسلم عليه وآله وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه الغرّ الميامين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ــــــــــ

أيها الإخوة في الله،

          لقد أصبحت عودة حكم الإسلام وسلطانه هاجس المسلمين وأملهم، إلا بعض نفر ممن رضع الثقافة الغربية الكافرة، فشبّ على أفكارها ومفاهيمها، ثم شاب على ذلك، فجعل من نفسه حامياً لها، بعد أن اتخذ وجهة النظر الغربية، القائمة على فصل الدين عن الحياة ‎والدولة، وجهة نظر له في الحياة. وقد نعى الله على الذين يريدون أن يتحاكموا إلى أحكام الكفر والطاغوت بدل أحكام الإسلام فقال جلّ وعلا: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ).

أيها الإخوة في الله،

          إن عودة الإسلام إلى الدولة والحياة والمجتمع لايكون بترويس دستور الكفر بالنص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ولا بتضمينه مادة تنص على أن الإسلام هو مصدر الدستور والقوانين؛ لأن هذه الإجراءات الشكلية لا قيمة لها أبداً في ميزان الشرع، بل هي حيلة لجأ إليها الحكام نفاقاً، وخداعاً، ومصانعةً، لجماهير المسلمين، دون وجود أي نية عندهم لإجراء أي تغيير يذكر، فهم قد أبقوا، مذ أن جيء بهم إلى السلطة، علىكل أشكال الحكم القائمة، بل عملوا على تكريسها إرثاً، في تسليط أبنائهم على الأمة من بعدهم، وتنافسوا في ذلك ملوكاً ورؤساء،‎ فكُرست الأنظمة العلمانية ودساتيرها الكافرة في كل بلد من بلاد المسلمين، جنباً إلى جنب مع تكريس التجزئة الاستعمارية فيها،‎ مع أن ذلك كله يتناقض مع الإسلام وأحكامه، جملةً وتفصيلاً.‎

          إن عودة الإسلام إلى الدولة والحياة والمجتمع، لا يكون إلا بجعل العقيدة الإسلامية أساساً للدستور وسائر القوانين، الأمر الذي يعني إلغاء جميع أشكال الحكم القائمة في العالم الإسلامي، ملكية كانت أم جمهورية، برلمانية كانت أم عسكرية، وإعادة نظام الخلافة محلها؛ لأن نظام الخلافة هو شكل الحكم الوحيد في الإسلام، ثم إلغاء جميع الدساتير والقوانين القائمة، وأخذ دستورٍ وقوانينَ بدلاً منها، مبنية على العقيدة الإسلامية، ومأخوذة من كتاب الله، وسنة رسوله، وما أرشدا إليه من قياس وإجماع، وبدون ذلك، لن تكون عودةٌ للإسلام وأحكامه إلى الدولة والحياة والمجتمع.‎

إخوة الإيمان،

          وبعد خرط القتاد خرطاً على أيدي شباب حزب التحرير، عبر عقود من الكدّ المرير، في نشر هذا الفكر السياسي الإسلامي، بين العمل على قطع الأعناق، وقطع الأرزاق، على أيدي أدوات الكافر وأزلامه، في بلاد المسلمين، هذا الفكر الذي أعاد للإسلام حركيته، وقدرته على الفعل والتأثير على نفوذ الكفر، ومراكز ثقله، هذا الفكر الذي نجح بإعادة ربط الإسلام بالسياسة، وربط السياسة بالإسلام، عندما أنزل قضية إقامة الخلافة الإسلامية منزلة القضية المصيرية، التي يتخذ حيالها إجراء الحياة أو الموت. بعد ذلك كله … منّ الله على هذه الدعوة، وعلى هذه الأمة، بنعمة تحويل الرأي العام في الشارع إلى رأي يؤيد إقامة الخلافة، فأصبح ذكرها على كل لسان، بعد أن كانت عودة الخلافة في روع الناس، إبّان الموجة القومية الناصرية، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أقربَ إلى الخرافة. فاليوم أصبح عرض مسألة: هل إقامة الدولة الإسلامية فرض أو ليس فرضاً؟ يقبع منكسراً في منطقة قد تجاوزها الزمن، وتجاوزتها الأحداث، وتجاوزتها الأمة، وتجاوزها العمل الإسلامي، منذ عقود طويلة، فلا يوجد جدال ولا نقاش بين المسلمين، ولا العاملين للإسلام، في هذه الأيام حول وجوب إقامة الخلافة الإسلامية، ووجوب تحكيم أحكام الشرع في بلاد المسلمين، من خلال تحويل الأحكام الشرعية إلى قوانين نافذة المفعول، تتحكم في كل شؤون الحياة والدولة والمجتمع، بحيث يحكم بها في كلتا السياستين الداخلية والخارجية للدولة الإسلامية، فيطبق في الناحية الاقتصادية النظام الاقتصادي في الإسلام، وفي الناحية الاجتماعية النظام الاجتماعي في الإسلام، وفي الناحية الدستورية نظام الحكم في الإسلام، وفي الناحية التعليمية النظام التعليمي في الإسلام، وفي الناحية القضائية والجنائية أحكام البينات، ونظام العقوبات في الإسلام، وفي حالة الحرب أحكام السياسة الحربية في الإسلام، وفي العلاقات الدولية أحكام حمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، باعتبار أن الدولة الإسلامية هي الموكول بها حمل رسالة الأمة الإسلامية إلى العالم، لإخراجه من الظلمات إلى النور بإذن الله. نعم، أيها الاخوة، أصبح مدار البحث والنقاش يدورحول طريقة إقامة الخلافة، وحول كيفية صمودها، وسبل التعامل مع ظروف داخلية وخارجية كبيرة، ستنشأ في العالم بُعَيْدَ إقامتها، بعد أخذ العبر من دراسة أسباب سقوط حكم طالبان في أفغانستان، وحكم البعث في العراق، وسبل تفاديها. إن هذا البحث والنقاش بين أبناء الأمة، بقيادة العاملين، يعتبر، في حدّ ذاته، مؤشراً مهمّاً يشير إلى التقدم إلى الأمام نحو إقامة هذه الدولة، وهو أيضاً، في حدّ ذاته، مؤشر خطير يقرع نواقيس الخطر في عواصم الكفر بشدة، وما الحرب التي أعلنتها أميركا على الإرهاب، في جوهرها وحقيقتها، إلا حرباً على مشروع إعادة الإسلام إلى الحياة، والدولة، والمجتمع، بإقامة دولته وسلطانه، وحرباً على عودته منافساً، لا قبل لأحد به في الساحة الدولية.

أيها الإخوة في الله،

          لا بد لنا، ونحن نحيي هذه الذكرى الأليمة لهدم الخلافة، من تصور حقيقة لا مراء فيها، حقيقة أصبحت في هذه الأيام أجلى من الشمس في رابعة النهار، حقيقة مفادها وجوب وأولوية العمل الذي يتلبس به حملة الدعوة اليوم، من العاملين على استئناف الحياة الإسلامية، بإقامة الخلافة الإسلامية، على منهاج النبوة. هذا المشروع الضخم، والعمل الكبير، يعني فيما يعنيه، إعلان حربٍ تحريريةٍ شاملةٍ على كل أعداء الأمة، القريب منهم والبعيد، المكشوف منهم والخفيّ، إنها المعركة الأضنى، التي ستدفع بكل مقدرات الأمة المادية والمعنوية، في أتون الجهاد الشامل، الذي سيدكّ أركان الكفر والظلم، ويطيح بعروش البغي، ويحْطِم هامات المستكبرين. إنها معركة النفس الطويل، إنها المعركة المصيرية الكبرى، والمستمرة، والطويلة بعزيمة الأسياد، إنها المعركة التي لا مكان فيها للعبيد …

فالحُرُّ لا يُلقي القِيادَ لِكُلِّ كَفَّارٍ وعاصِ
وبغيرِ نضحِ الدمِ لا     يُمحى الهوانُ عن النواصي

أيها الإخوة الأحباب،

          إن الإسلام دين ليس أيَّ دين، بل دين الهدى والحق الذي وعد الله بإظهاره على الدين كله. ولأنه دين ليس أي دين، فلن يطبقه في الدنيا، أو يقيمه في الأرض، أي حُكام، أو كيان، أو دولة، عداك عن دولة تابعة عميلة، بل لا يمكن ذلك إلا بدولة هذا الدين نفسه، دولة الإسلام، دولة الخلافة. ولأن دولة الإسلام، دولةَ الخلافة، ليست أي دولة، فلن تقيمها مجرد أعمال، أيُّ أعمال، بل لن تقيمها إلا أعمال تضحية عظيمة، خالصةٌ لله، موافقه للشرع، فاهمة للقضية، منصبَّةٌ على الأهداف، مؤثّرة في الواقع، لا متأثرة بضغوطه المَرَضية الفاسدة. ولأن تلك الاعمال ليست أي أعمال، فهي تحتاج إلى كتلة وأشخاص، باستعداداتٍ فوق العادة، لمهمة فوق العادة، استعدادات أقلها الإخلاص الخالص لله، والوعي السياسي، وعقائديةٌ من فولاذ لا يلين، وطول نَفَس وجَلَد على طول السفر والمسير.

أيها الإخوة في الله،

          لقد أصبح الناس، أمام أميركا وجرائمها، جماعتين: جماعةَ (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) … جماعةَ (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ )… جماعةَ (إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ).

          وجماعةَ الإيمان واليقين الأخرى في الفسطاط الآخر، إنها جماعةُ … (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء).

شتَّانَ، شتَّانَ بين الذين              لربهم باعوا النفوسا

الباسمين إلى الردى          والسيفُ يرمُقُهم عبوسا

الناصبين صدورهم          من دون دعوتهم تروسا

          نعم، أيها الأخوة، هذه هي فئة الإسلام التي ينبغي الانحياز اليها، في حالات انعدام الوزن، التي تصيب البغاثَ عند اشتداد عواصفِ الكفر.

فيا أيها الأمريكان لا يأخذْكُمُ الغرورْ
عقاربُ الساعات إنْ توقّفتْ لا بُدَّ أن تدورْ
إنَّ اغتصابَ الأرض لا يخيفُنا
فالريشُ قد يَسقُطُ عن أجنحة النسورْ
هزمتُمُ الجيوشَ إلاّ أنَّكمْ لم تهزموا الشعور
قطعتُمُ الأشجارَ من رؤوسها وظلَّتِ الجذور

إخوة الايمان،

          إنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فأنّى للهابطين واليائسين أن يرفعوا الهمم، وأنّى للمزعزعين أن يثبتوا الصفوف، وأنّى لأصحاب القلوب الخاوية أن يبثوا البشرى بين الناس …..

الحور تهتِف بهجةً: زُفّ الشهيد                والحور تأبى أن تُزفّ إلى البليد
وجنانُ عدنٍ لا ينال رحابها           إلا شهيدٌ طاب مسعاه الحميد
بالروحِ نفدي دينَنَا ورسولَه           والدينُ يُنصرُ بالدماءِ وبالحديد
لن نستكينَ ولن نلينَ لحاكمٍ                   بالكفرِ يحكمُ شعبنا حكمَ العبيد

فاللهم يا من عزً فارتفع، وعلا فامتنع، وذلً كلًّ شيء لعظمته وخضع.

          اللهم يا مجيب السائلين، يا مجيب المضطرين، يا مغيث المستغيثين، يا أمان الخائفين.

          سبحانك يا ربي يا الله … لا إله إلا أنت إنا كنا من الظالمين.

          اللهم عجّل بإقامة خلافة راشدة على منهاج النبوة، يُعزّ فيها أهل طاعتك، ويَذِل فيها أهل معصيتك، ويؤمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر…

          اللهم إنا نسألك، لحَمَلَة الدعوة، العاملين لإقامة حكمك، نصرًا مبينًا، وعزًا مكينًا…

          اللهم احقن دماء المسلمين، واحْمِ نساءهم، وأطفالهم، وشيوخهم، وبلادهم، وأموالهم…

          اللهم أقم لنا علم الجهاد، واقمع أهل الشرك، والكفر، والزيغ، والعناد، وانشر رحمتك على العباد،

          اللهم واجعلنا هادين مهديين، غير ضالين ولا مضلين، حربا على أعدائك، سِلْما لأوليائك،

          إنك يا ربنا ومولانا ومليكنا وليّ ذلك والقادر عليه.

          وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

          وبارك الله فيكم على حضوركم، وحسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

(كلمة ألقيت في ندوة عقدت في بيت المقدس، في ذكرى هدم الخلافة).

منصور العكاري (المقدسي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *