العدد 217 -

السنة التاسعة عشرة صفر 1426هـ – آذار 2005م

( أيحسب الإنسان أن يترك سدى )

( أيحسب الإنسان أن يترك سدى )

 

            قـال تعـالـى: ( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى*  أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *  فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى*  أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى) [ القيامة].

 

ذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات: وقوله: ( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) قال السدى يعني لا يبعث. وقال مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني لا يؤمر ولا ينهى. والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة… وقال مســـتدلاً على الإعـــادة بالبـــداءة (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى) أي أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين يمنى يراق من الأصلاب في الأرحام؟ (§ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) أي فصار علقة، ثم مضغة، ثم شكل فنفخ فيه الروح فصار خلقاً آخر سوياً سليم الأعضاء، ذكراً أو أنثى، بإذن الله وتقديره؟ ولهذا قال تعالى: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ) ثم قال تعالى: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى) أي أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه. وقال أبو داود عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)، فانتهى إلى آخرها (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) فليقل بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فانتــهى إلى قـــوله: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى  ) فليقـــل بلــى. ومن قــرأ ( Ïوَالْمُرْسَلاتِ) فبلـــغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فليقل: آمنا بالله».

وذكر سيد قطب في الظلال: «( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) فقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علة لها، ولا هدف، ولاغاية… أرحام تدفع وقبور تبلع… وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب من متاع الحيوان…

والذي يميز الإنسان عن الحيوان، هو شعوره باتصال الزمان والأحداث والغايات، وبوجود الهدف والغاية من وجوده الإنساني، ومن الوجود كله من حوله. وارتقاؤه في سلم الإنسانية يتبع نمو شعوره هذا وسعته، ودقة تصوره لوجود الناموس، وارتباط الأحداث والأشياء بهذا الناموس. فلا يعيش عمره لحظة لحظة، ولا حادثة حادثة، بل يرتبط هذا كله بإرادة عليا خالقة مدبرة، لا تخلق الناس عبثاً، ولا تتركهم سدى.

وفي غير تعقـــيد، ولا غمــــــــوض، يأتي بالدلائل الواقعة البسـيطة التي تشهد بأن الإنسان لــن يتــرك ســـدى.. إنــها دلائــل نشــأته الأولى: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *  فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى) ألم يك نطفة صغيرة من مني يمنى ويراق؟ ألم تتحول هذه النطفة من خلية واحدة صغيرة إلى علقة في الرحم، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء؟.. من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنيناً معتدلاً منسق الأعضاء… ثم في النهاية من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة الذكر والأنثى؟.. إنه لا مفر من الإحساس بالله الخالق المدبر… وأمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضاً على الحس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى) بلى، سبحانه، فإنه القادر على أن يحيي الموتى... القادر على النشأة الأخرى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *