العدد 217 -

السنة التاسعة عشرة صفر 1426هـ – آذار 2005م

الحضارة الغربية: يجب القضاء عليها للتخلص من شرورها

الحضارة الغربية:

يجب القضاء عليها للتخلص من شرورها


شاهد الناس أثناء العدوان الأميركي على الفلوجة، والمستمر حتى الآن، صورة ذلك الجندي الأميركي وهو يطلق النار على جريح عراقي أعزل من السلاح في مسجد في الفلوجة، فكان انتقاد معظم الناس موجهاً إلى ذلك الجندي أو إلى من أصدر له الأوامر من قادته، أو إلى الإدارة الأميركية باعتبارها المسؤول عن كل ما يحصل. وكذلك فعل غالبية الناس حين شاهدوا القليل مما حصل في سجن أبو غريب وغيره من سجون الاحتلال الأميركي في العراق. وهو الموقف نفسه حين ألقت أميركا القنبلة النووية على اليابان عام 1945، وهذا هو الموقف نفسه الذي يتخذ في كل مرة تظهر فيه بشاعة الوجه الغربي.

إن الواجب في كل تلك الأعمال التي تقوم بها الدول الغربية أو المؤسسات التابعة لها أن يتركز الهجوم والنقض للحضارة الغربية العفنة؛ لأنها المسؤولة عن كل ما نراه من شقاء ودمار وهلاك حاق بجميع أهل الأرض.

ولعل المضبوعين بالحضارة الغربية سيجدون في هذا الاتجاه مبالغةً وتطرفاً، وسيشرعون في ذكر قيم الحضارة الغربية وأفكارها، وسيعتبرون المشكلة في سياسات الدول الغربية أو في بعضها. ولعل الذين درسوا الإسلام متأثرين بالحضارة الغربية، فكان ديدنهم التوفيق بين الحق والباطل، سيعتبرون الهجوم على تلك الحضارة هجوماً على الإسلام، على اعتبار أن تلك الحضارة من الإسلام، أو هي الإسلام بعينه على حد زعمهم.

إن الناظر إلى العالم منذ أن قامت دول على أساس الحضارة الغربية، ومنذ أن تمكنت هذه الدول من السيطرة على العالم سيجده عالماً مليئاً بالشقاء والتعاسة والحروب الطاحنة التي لا تبقي ولا تذر، علاوةً على ما أفرزته تلك الحضارة من نفي للقيم الروحية، وهبوط في السلوك، وذهاب للأخلاق. وعندما يدرك واقع الحضارة الغربية لن تحصل المفاجأة حين يرى ما أنتجته؛ وذلك لأن تلك الحضارة حضارة نفعية، فهي تصور الحياة بأنها المنفعة، وتجعل المنفعة هي المقياس للأعمال، فما ينفع يعمل بغض النظر عن الشعارات التي ترفع من مثل الديمقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان، والعدالة، والمساواة، وغير ذلك. فالنفعية هي المفهوم الأبرز في الحضارة الغربية وإن تم خداع الناس بتسليط الأضواء على شعارات كاذبة. ولإزالة أي غموض حول هذه النقطة، أزيد الأمر توضيحاً فأقول: إن الإسلام قد جاء بأنظمة، وأمر الإنسان بالسير بحسبها في الحياة. وهذه الأنظمة هي مجموع الأحكام الشرعية التي تشكل المقياس الشرعي لأعمال الإنسان في هذه الحياة. فالحلال يعمل والحرام يترك بغض النظر عن المنافع. فلا يوجد في الإسلام مقياس غير تلك الأحكام، فالأحكام هي نفسها المقياس. فمثلاً الخيانة حرام شرعاً، فعندما يكون هناك معاهدة بين دولة الخلافة ودولة أخرى لا يجوز شرعاً لدولة الخلافة أن تخون المعاهدة، بغض النظر عن المنافع المتوخاة من وراء ذلك، حتى ولو غلب على الظن أن الدولة الأخرى تخطط لنقض المعاهدة، فحينها تعلم دولة الخلافة الدولة الأخرى أن المعاهدة قد انتهت حتى يتساوى الطرفان بالعلم بانتهائها. قال تعـالى: ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ) [الأنفال]. أما في الحضارة الغربية فالأمر مختلف، فالأنظمة التي جاءت بها الحضارة الغربية ليست هي المقياس للأعمال، بل المقياس هو المنفعة. فمثلا فكرة حقوق الإنسان وما تفرع عنها ليست هي المقياس للأعمال؛ ولذلك فإن كان هناك منفعة من وراء سلب الإنسان لحقوقه فلا مانع من القيام بذلك، فتصبح فكرة حقوق الإنسان وسائر أفكار الحضارة الغربية تابعة للمنفعة، توجد حيث توجد المنفعة، وتنعدم بانعدام المنفعة. وحين تكون المنفعة هي التي تتحكم في العلاقات، فإنها ستحول الناس إلى وحوش كاسرة، لا هم لهم إلا تحقيق المنافع، ولو كان ذلك بالكذب، والخداع، والتضليل، والحروب، وممارسة أسوأ الأعمال. وحين تصور الحضارة الغربية السعادة بأنها نيل الإنسان أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية، فإن ذلك سيدفع الناس إلى القيام بكل ما هو مستطاع من أجل إشباع الشهوات بغض النظر عما سيحصل للآخرين من جراء ذلك الإشباع، فموت الآخرين جوعاً أو قتلاً من أجل نهب ثرواتهم وخيراتهم مشروع إن كان في ذلك تحقيق المنافع وإشباع الشهوات. وغني عن البيان أن تصوير الحياة بأنها المنفعة يدفع باتجاه الحصول على القوة اللازمة لذلك، وهذا يعني حصول سباق في التسلح، الغاية منه امتلاك القوة التي تمكن من استعمار الآخرين ونهب ثرواتهم، وهذا يعني تحويل العالم إلى ساحات للحروب الطاحنة، وتحويله إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، ويذيقه شتى صنوف العذاب والذل والهوان.

إن الناظر إلى الدول التي قامت على أساس الحضارة الغربية يجد أنها قد أصبحت دولاً مستعمرة ما إن سمحت لها قوتها بذلك. وما استعمار الشعوب من قبل بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وغيرهم ومن بعدهم أميركا بخافٍ على أحد. وليس خافياً أيضا ما فعلته تلك الدول المستعمرة، ولا زالت تفعله، من نهب للثروات والخيرات وإشعال للحروب كي تسهل سيطرتها على تلك الشعوب؛ ولذلك فإنه على الرغم من وفرة الثروات والخيرات والمواد الأولية في البلاد التي استعمرتها الدول الغربية، فإننا لا نجد في تلك البلاد إلا الفقر والحاجة والديون التي بلغت حداً جعلتها خاضعةً في رسم سياساتها للدول المستعمرة. علاوة على ما فعلته الدول المستعمرة من تنصيب حكام عملاء لها في البلاد المستعمرة، يسومون أهل تلك البلاد سوء العذاب، ويسهلون لتلك الدول إخضاع الناس لسياساتهم الظالمة.

إن المتابع لسياسات الدول القائمة على أساس الحضارة الغربية يجد أن تلك الدول لا تقيم وزناً في سياساتها مع الدول الأخرى إلا للقيمة المادية. فأفكار الديمقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان، ومنها حقوق المرأة والعمال والطفل، والعدالة، والمساواة، ما هي إلا شعارات يرفعونها كأداة من الأدوات المهمة للسيطرة على الشعوب الأخرى واستعمارها. فها هي بريطانيا اقتضت مصلحتها إنشاء كيان ليهود في فلسطين وتشريد أهلها منها، فقامت بكل ما من شأنه تحقيق ذلك ولو عن طريق انتهاك حقوق الإنسان وغيرها من الأفكار التي يتغنون بها. وتبعتها في ذلك أميركا في تبنيها لكيان يهود ودعمها له بكل أسباب القوة، حتى بلغ الأمر بجورج بوش أن يقول عن شارون الجزار إنه رجل سلام، وإنه إنما يدافع عن نفسه حين يقوم بقتل أهل فلسطين، وتدمير بيوتهم، وتجريف مزروعاتهم، وإذا قام من أهل فلسطين من يدافع عن نفسه، ولو بصدر عارٍ، قالوا عنه إنه إرهابي وعقبة في وجه السلام، ومع ذلك لا زالت أميركا تدعي أنها حامية حقوق الإنسان ورافعة لوائها. وأما ما حصل في العراق، ومازال، فما هو إلا مثال صارخ على ما أنتجته الحضارة الغربية من دول لا تقيم وزناً في الحياة إلا للمنفعة، فأميركا وبريطانيا هما من دعم صدام حسين و أمده بالأسلحة الكيماوية وغيرها من الأسلحة الفتاكة لاستخدامها ضد شعبه، وعندما اقتضت مصلحة أميركا احتلال العراق، ادعت أنها تريد تخليص الشعب العراقي من ظلم صدام، وبظلمها الذي فاق كل حد لأهل العراق أصبح الناس يترحمون على ظلم صدام. وكم كذب أعضاء الإدارة الأميركية حين ادعوا أن العراق يمتلك أسلحة كيماوية، كل ذلك من أجل احتلال العراق ونهب ثرواته، ليس لمصلحة الشعب الأميركي، وإنما لمصلحة كبريات الشركات الرأسمالية، صاحبة الرأي الفصل في إيصال من تريد من المرشحين للرئاسة الأميركية إلى البيت الأبيض، يفعلون كل ذلك ولو أدى إلى قتل الملايين من الشعب العراقي، الذي قتلت منه أميركا مئات الآلاف حين فرضت على العراق حصاراً لم يشهد التاريخ حصاراً مثله. وفي الوقت الذي تدعي فيه أميركا أنها تريد تحقيق الديمقراطية في العراق، وتمكين الشعب العراقي من انتخاب حكامه، تعتبر برويز مشرف حاكم باكستان حليفاً استراتيجياً على الرغم من أنه قد جاء إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري، وليس عن طريق الانتخابات التي تروج لها أميركا في العراق، والتي تقصد منها إيجاد فتنة بين أهل العراق تسهل من إحكام سيطرتها عليه. وإن ما قامت به أميركا مؤخراً في الفلوجة ليدل على أن هذه الدولة لا تقيم وزناً في سياساتها لأية قيمة إلا القيمة المادية. فهي قد اتبعت في الفلوجة سياسة الأرض المحروقة والتدمير الكامل، فقتلت الكثيرين ممن كانوا في بيوتهم، وتركت الجرحى ينـزفون حتى الموت، إن لم يجهزوا هم عليهم، وقامت بمنع دخول المواد الطبية والغذائية، وقد مهدت لجريمتها التي قل نظيرها بمنع بقاء الصحافيين في الفلوجة، إلا من أذنت لهم ممن هم من أتباعها، كي لا يشاهد العالم ما تفعله بأهل الفلوجة الذين أصبحوا مفخرةً للمسلمين.

إن الأمثلة على الظلم الواقع على البشر من وراء تحكم دول الحضارة الغربية في العالم كثيرة جداً، وليس المقصود هنا ذكر جميع الأمثلة، فوالله إن المجلدات لتقصر عن احتواء ما أنتجته الدول الغربية من ظلم وشقاء، وإنما المقصود أن يعلم الناس كافة، والمسلمون بخاصة، أن الحضارة الغربية هي التي أنتجت دولاً لا تقيم وزناً في الحياة إلا للمنفعة، فسامت الناس سوء العذاب وأشقتهم، وجعلت العلاقة بين الناس علاقة قتال وحروب دائمة؛ من أجل تحصيل المنافع وإشباع الشهوات. ومن الخطأ والتضليل أن تصور المشكلة أنها في بعض سياسات الدول الغربية، فهذه السياسات النفعية ما هي إلا نتاج حضارة نفعية، صورت الحياة بأنها المنفعة، وصورت السعادة بأنها نيل أكبر قدر من المتع الجسدية؛ لذلك يجب التركيز على بيان فساد تلك الحضارة ونقضها، سواء في الأساس الذي قامت عليه وهو فصل الدين عن الحياة، أم في نظرتها للحياة بأنها المنفعة، أم في تصويرها لمعنى السعادة لدى الإنسان بأنها نيل أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية. قال تعالى: ( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك].

وإن الحل الوحيد لكل المشاكل والأزمات، التي أحاطت بالعالم نتيجة تحكم الحضارة الغربية، إنما يكمن في تطبيق الإسلام في جميع نواحي الحياة، وفي جميع بقاع الأرض. فالإسلام هو دين الله تعالى الذي خلق الإنسان، والعليم بما يصلح للإنسان وما يسعده، الرحيم بعباده، الذي أرسل سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وهذا الحل يقتضي إيجاد دولة الخلافة، الطريقة الشرعية الوحيدة لتطبيق الإسلام وحمله للناس كافة، حتى إذا وجدت وطبقت الإسلام في المكان الذي قامت فيه، أصبح عملها ضم باقي الأقطار الإسلامية إليها، وحمل رسالة الإسلام إلى الناس كافة، بتطبيقه عليهم، وإقصاء الحضارة الغربية عن التحكم في شؤون الحياة. وهذا الحل الذي نطرحه ليس بالأمر الجديد، فقد سبق وأن تحكمت الحضارة الإسلامية في العالم لقرون عديدة، فنشرت الهدى والطمأنينة في العالم، وحققت العدل بين البشر، وشملتهم بالرحمة. وأنقل في هذا المقام كلاماً نفيساً للعالم الشيخ تقي الدين النبهاني، رحمه الله، حيث قال في كتاب نظام الإسلام ص63: «ونظرة إلى الحضارة الإسلامية التي تحكمت في العالم منذ القرن السابع الميلادي حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ترينا أنها لم تكن مستعمِرة، وليس من طبعها الاستعمار؛ لأنها لم تفرق بين المسلمين وغيرهم، فضمنت العدالة لجميع الشعوب التي دانت لها طوال فترة حكمها؛ لأنها حضارة تقوم على الأساس الروحي الذي يحقق القيم جميعها من مادية، وروحية، وأخلاقية، وإنسانية. وتجعل الوزن كله للعقيدة. وتصور الحياة بأنها مسيَّـرة بأوامر الله ونواهيه، وتجعل معنى السعادة بأنها نيل رضوان الله، وحين تسود هذه الحضارة الإسلامية كما سادت من قبل، فإنها ستكفل معالجة أزمات العالم، وتضمن الرفاهية للإنسانية جمعاء».

فهلا أدرك المسلمون حجم الكارثة التي حلت بالبشرية جمعاء من وراء تحكم الحضارة الغربية، وهلا أدركوا عظم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، فيقوموا بما أوجبه الله عليهم من عمل دؤوب مع العاملين من أجل إقامة دولة الخلافة؛ ليقوموا من خلالها بوظيفتهم التي حددها الله تعالى لهم وهي تعبيد الناس له سبحانه. قال تعالى: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران 110] وقال أيضاً: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )[البقرة 143] 

أبو مصطفى – لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *