العدد 219 -

السنة التاسعة عشرة ربيع الأول 1426هـ – أيار 2005م

الواقع السياسي للعالم الإسلامي

الواقع السياسي للعالم الإسلامي


ينتاب العالم الإسلامي في جميع أقطاره اليوم حالة عجيبة غريبة يسودها الغليان الشديد الذي أدّى إلى جعل مختلف الأقطار الإسلامية تعيش في وضع دائم من عدم الاستقرار، بحيث أصبح الحديث عن الواقع السياسي لهذا العالم يتطلب الوقوف طويلاً على خبايا الواقع الدولي وتعقيداته، وعلى الاعتبارات الإقليمية وتقلباتها، وعلى حقائق الجغرافيا السياسية لكل قطر من أقطار العالم الإسلامي. ويدخل في بحث الواقع السياسي للعالم الإسلامي مجموعة لا بأس بها من التناقضات الفكرية والصراعات الحضارية التي تتفاعل داخل الأوساط السياسية الفاعلة، وتشارك فيها حكومات ونخب وشخصيات عاملة في الميادين السياسية والفكرية المختلفة.

 

ويتربع الفكر السياسي الإسلامي بثبات في مركز الأحداث، ويراقب جميع هذه المعطيات؛ فيرصد وينقض ويحاكم ويتفاعل ويتداخل في قلب الحياة السياسية والفكرية للناس، فيفرض حضوراً ملموساً، ويترك آثاراً بارزة وتداعيات هائلة على جميع اللاعبين، سواء وافقوا على هذا الدور المركزي الذي يلعبه هذا الفكر في حياتهم أم احتجوا عليه وحاولوا دفعه أو احتواءه.

وبالتدقيق في هذا الواقع السياسي المعقد لهذا العالم الإسلامي، نجد أن هناك أموراً مشتركة تطغى على هذا العالم، وتتناغم في جميع أقطاره، بحيث تتجلى معاني الوحدة السياسية من خلالها تجلياً منطقياً، يفضي بالضرورة  إلى إيجاد الدولة الواحدة التي تجمع جميع هذه الأقطار في منظومتها، بسهولة وانسجام في يوم ليس ببعيد.

وتتلخص هذه الأمور بخمس نقاط:

الأولى: وجود الميل الجارف لدى شعوب العالم الإسلامي قاطبة نحو الإسلام السياسي، بحيث أصبح من المستحيل نجاح أية محاولات لاحتوائه واستيعابه، وبات من الصعوبة بمكان حرفه عن مساره. وعجزت الحكومات تماماً عن التصدي له ومواجهته، واعترفت أميركا ودول الغرب بخطورته، وجنَّدت كل قواها لمحاربته تحت مسمى مكافحة الإرهاب.

وقد بدأ الغرب يستشعر هذا الميل الجارف لدى المسلمين باتجاه الإسلام السياسي بعد سقوط الشيوعية واندثار الاتحاد السوفياتي، ووضع استراتيجية واضحة وصريحة لمحاربة الإسلام منذ ذلك الوقت، وكثيرة هي تصريحات السياسيين الغربيين التي تحدثت عن هذا الخطر نقتبس منها:

l كلام للرئيس الأميركي نيكسون في آخر مؤلف له بعنوان “الفرصة السانحة” يقول فيه: «إن الإسلام والغرب على تضاد، وإن المسلمين ينظرون إلى العالم على أنه يتألف من معسكرين لا يمكن الجمع بينهما، دار الإسلام ودار الحرب».

l قول كيسنجر: «إن الجبهة الجديدة التي يتحتم على الغرب مواجهتها هي العالم العربي الإسلامي، باعتبار أن هذا العالم هو العدو الجديد للغرب».

l قول ويلي كلايس أمين عام حلف الناتو في بداية التسعينات من القرن الماضي: «لقد حان الوقت الذي يجب علينا أن نتخلى فيه عن خلافاتنا وخصوماتنا السابقة، وأن نواجه العدو الحقيقي لنا جميعاً وهو الإسلام».

l قول الجنرال جون كالفان القائد الأعلى لقوات حلف الناتو في العام 1994م: «لقد ربحنا الحرب الباردة، وها نحن نعود بعد 70 عاماً من الصراعات الضالة إلى محور الصراع القائم منذ 1300 سنة، إنه صراع المجابهة الكبيرة مع الإسلام».

هذا غيض من فيض لأقوال وتصريحات زعماء الغرب التي تعبر عن حقيقة شعورهم تجاه الخطر الإسلامي المتنامي ضدهم، والذي يتمثل في نمو تيار شديد يسود المسلمين باتجاه الإسلام السياسي.

الثانية: استنفاذ الأنظمة الحاكمة القائمة في بلدان العالم الإسلامي لكل ما تملك من مخزون شعاراتها الزائفة وأطروحاتها الفاسدة، بحيث لم تعد قادرة على إشغال المسلمين بأي شيء جديد يمكنها من تثبيت وجودها في الحكم، فلقد سقطت شعارات القومية، والاشتراكية، والبعثية، والناصرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، فكل هذه الدعاوى قد استهلكت واستنفذت ولا يوجد لديها شيء جديد تقنع به سواد الناس.

الثالثة: انكشاف تبعية وعمالة الحكام والحكومات للدول الكبرى بشكل لافت لا مجال لإخفائه عن الناس، بحيث صار الحكام في البلدان الإسلامية يرددون ما يسمعون من أقوال وتصريحات المسؤولين في الدول الكبرى ترداد الببغاوات، فلم يعد المواطن العادي يفرق بين تصريحات المسؤولين الأجانب والمسؤولين في البلدان الإسلامية، فكلها تسير بنفس الإيقاع، وكلها تدعو لمحاربة الإسلام تحت مسميات الأصولية والتطرف والإرهاب.

والذي ساهم أيضاً في كشف تبعية الحكام وعمالتهم وخنوعهم لأميركا، هو ما يُشاهد على حكام العرب بالذات في هذه الأيام من هرولة غير طبيعية مع الدولة اليهودية، وذلك حتى قبل أن تقوم هذه الدولة بتقديم أية تنازلات للفلسطينيين، بحيث يتسابق هؤلاء الحكام على إقامة علاقات مع الكيان اليهودي، فمصر والأردن سارعتا إلى إرسال السفراء، ودول الخليج فتحت المكاتب التجارية للدولة اليهودية، وقطر استضافت نائب وزير التعليم اليهودي، وتونس أرسلت دعوة لشارون لحضور مؤتمر تونس، وباقي الدول سائرة في نفس الاتجاه وتقف في طابور الانتظار حتى يأتيها الدور والخافي أدهى وأعظم.

الرابعة: زيادة عداء الشعوب الإسلامية لأميركا، خاصة بعد ممارساتها الوحشية ضد المسلمين في أفغانستان والعراق، وممارسات اليهود الهمجية في فلسطين، وهذا ما جعل المبادرات الأميركية والغربية المشبوهة كمبادرة الشرق الأوسط الكبير لا تحظى بأي قبول لدى عامة المسلمين.

وزاد من هذا العداء نجاح المقاومة الجهادية في العراق، وتمكنها من إلحاق أكبر الخسائر في القوات الأميركية، لدرجة أن ريتشارد مايرز رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة اعترف بأن القضاء على المقاومة في العراق ربما يحتاج إلى أكثر من عشر سنوات، فأعطى ذلك زخماً جديداً لهذه الحالة العدائية.

وزاد أيضاً من هذا العداء تصرفات اليهود الأنذال في فلسطين، واستمرار مماطلاتهم في تنفيذ الالتزامات المطلوبة منهم وفقاً للمشاريع السلمية في فلسطين، التي فرضتها أميركا والدول الكبرى على المنطقة، من مثل خطة خارطة الطريق، بحيث أدرك العامة المراوغة اليهودية في بحث مواضيع الأسرى، والحواجز، والانسحاب من المدن، وكيف أن اليهود قد عادوا إلى نفس لعبة المفاوضات التي يتقنونها كما كانت أيام اتفاق أوسلو، في نفس الوقت الذي يستمرون فيه بمصادرة الأراضي، وبناء آلاف المساكن في المستوطنات، وعدم تقديم أي شيء مقنع للقيادة الفلسطينية الجديدة.

الخامسة: عودة تأجج الصراع بين القوى العظمى بعد فشل سياسة التفرد الأميركية في الأعوام الأربعة الماضية، مما أتاح للمسلمين فرصة جديدة للنفاذ من خلال تخاصم هذه القوى للولوج إلى مركز دولي، دون التعرض للخطر الناجم عن الموقف الدولي الأحادي القطبية، وظهر هذا الصراع جلياً في لبنان ودارفور وغيرهما من بلدان العالم الإسلامي.

هذه خمس نقاط أظهرت أموراً تشترك فيها أقطار العالم الإسلامي، وجعلت من تلك الأقطار تعيش في نفس الهموم وفي نفس الأوضاع، حيث الأخطار واحدة والعدو واحد، وهذا أوجد شعوراً حسِّياً لدى الشعوب الإسلامية في هذه الأقطار بأن الخلاص من هذه الأوضاع أصبح يتبلور من خلال فكرة الوحدة السياسية للمسلمين وإقامة دولة الخلافة الواحدة، بحيث تحوَّل مطلب الخلافة من مطلب حركي وحزبي إلى مطلب شعبي واسع تنادي به كل شعوب الأمة الإسلامية الواحدة.

ولقد أدرك الأعداء الأميركيون وحلفاؤهم تحسس الأمة الإسلامية لهذا الحل، وتحدث به باحثون وسياسيون واستراتيجيون أميركيون وغربيون كثيرون. وقد صدر مؤخراً تقرير لخبراء في المجلس القومي للبحوث والدراسات الاستراتيجية التابع للاستخبارات المركزية الأميركية (سي. أي. آي) والذي شارك في إعداده 1000 خبير خلال 30 مؤتمر في خمس قارات، راسماً أربعة سيناريوهات محتملة للنظام العالمي في عام 2020م ومن هذه السناريوهات الأربعة واحد يتوقع قيام خلافة جديدة تجتاح العالم الإسلامي، وتحاول صهره في دولة واحدة بعد أن تنجح في إسقاط العديد من أنظمته الحاكمة، بخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وتتخلى شعوب تلك البلدان عن ولاءاتهم الوطنية لصالح ولائهم للخلافة.

وبناءً على ما تقدم تحاول أميركا إفشال قيام دولة الخلافة بإعلان حربها على الإسلام تحت مسمى حربها على الإرهاب، وقد وضعت استراتيجية جديدة بالإضافة إلى تدخلها العسكري تعتمد فيها على بندين:

الأول: تحصين أنظمة الحكم القائمة بالتعددية الديمقراطية آملةً أن تعمل هذه التعددية على منع سقوط الأنظمة الدكتاتورية القائمة حالياً، ودلَّ على ذلك الانتخابات التي أجرتها أميركا في أفغانستان والعراق وفلسطين، والضغوطات التي تمارسها على الأنظمة الموالية لها في مصر والسعودية وسوريا وغيرها من البلدان الإسلامية لإدخال ما يسمى بالإصلاحات الديمقراطية على تلك الأنظمة، والسماح بإشراك القوى السياسية المعارضة في الحكم. ومبرر هذه الرؤية الأميركية أن سقوط أي نظام دكتاتوري يحدث فراغاً سياسياً هائلاً يُخشى أن يملأه نظام إسلامي جاهز، بينما تحويل الأنظمة الدكتاتورية إلى أنظمة ديمقراطية يجعل من الصعب على أية قوة إسلامية أن تستفرد بالسلطة على حد تقديرها.

الثاني: عزل المجموعات السكانية الإسلامية الكبيرة عن بعضها البعض، علماً بأن هناك أربع مجموعات كبيرة وتوابع على نطاق أصغر وهي:

المجموعة الأولى: المنطقة المالاوية وتتضمن إندونيسيا وماليزيا ويقطنها أكثر من 250 مليون نسمة.

المجموعة الثانية: شبه القارة الهندية وتحديداً الباكستان وأفغانستان ويقطنها حوالي 150 مليون نسمة.

المجموعة الثالثة: منطقة آسيا الوسطى وتشمل دول أوزبيكستان وكازاخستان وطاجيكستان وقرقيزستان وتركمانستان ويقطنها حوالي 60 مليون نسمة.

المجموعة الرابعة: منطقة الشرق الأوسط بما فيها الدول العربية وتركيا ويقطنها حوالي 400 مليون نسمة.

ويضاف إلى هذه المجموعات الأربع الكبيرة توابع معزولة أصغر منها كبنغلادش والتي يقطنها حوالي 120 مليون نسمة ونيجيريا وما حولها ويقطنها حوالي 120 مليون نسمة أيضاً.

وخطة أميركا تقضي بعزل هذه المجموعات، لاسيما الكبيرة منها، عن بعضها البعض، وإشغالها بأمور جانبية ومحلية وثانوية، وإبعادها عن الإسلام السياسي، وذلك على النحو التالي:

بالنسبة للمجموعة الأولى فإن أميركا تستغل الوضع الجغرافي الذي يساهم طبيعياً في عزل إندونيسيا وماليزيا عن سائر أنحاء العالم الإسلامي، حيث يحيط بالمنطقة المالاوية هذه قوى كبرى كالصين واليابان والهند وأستراليا، بحيث تجعل هذه القوى الضخمة الكافرة من القوة الإسلامية المالاوية قوة صغيرة ومحاصرة.

ولذلك نجد أن أميركا تعمل على محاصرة المسلمين في تلك المنطقة بهذه القوى، إضافة إلى تفتيت الدولة الرئيسية (إندونيسيا) التي فيها مظنة إمكانية قيام دولة الخلافة، من خلال إثارة النعرات الانفصالية في مناطق آتشه وجزر الملوك وأريانا، إضافة إلى تيمور الشرقية التي كانت أميركا قد نجحت في بترها عن إندونيسيا قبل فترة وجيزة.

وأما المجموعة الثانية فإن أميركا تسعى في أن تسلط الهند على الباكستان، وتحويل وجه الباكستان عن دول آسيا الوسطى المسلمة صوب الشرق؛ لتكون مع الهند في حالة تكامل؛ لتقف أمام التنين الصيني المتعملق.

وأما بالنسبة للمجموعة الثالثة، فتتشارك أميركا مع روسيا في عزل مناطق آسيا الوسطى عزلاً تاماً عن الباكستان وأفغانستان من ناحية، وعن تركيا من ناحـية ثانية، لتبقى المنطـقة حبيسـة بين الروس والصينيين والأميركيين، مفصولين تماماً عن المركز الإسلامي الباكستاني أو الشرق أوسطي.

وأما المجموعة الرابعة وهي بلدان العرب وتركيا أو ما يسمى بالشرق الأوسط، فهي المجموعة الأكبر والأخطر على أميركا والغرب؛ لذلك تسعى أميركا إلى تركيز جميع الضغوط عليها من ناحية سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وذلك من خلال العملاء والمشاريع المشبوهة، ومن خلال الغزو والقهر، ومن خلال تمكين الكيان اليهودي من التمدد في طول البلاد وعرضها، ومن خلال المؤتمرات والاجتماعات  المشبوهة والمشاريع المميتة للاقتصاد، ومن خلال زيادة المديونية على هذه الدول عن طريق المؤسسات المالية العالمية لإعناتها.

هذه باختصار هي الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي وضعت لعزل وقهر العالم الإسلامي، وذلك من خلال محاولات استباقية لمنع قيام الدولة الإسلامية. إلا أن هذه الاستراتيجية لن تنجح أبداً في تحقيق أهدافها، خاصة وأن المد الإسلامي ما زال في حالة متنامية، بالرغم من كل هذه الهجمات الشرسة على المسلمين. ولن تستطيع أميركا إيقاف هذا المد بخططها الماكرة هذه، فالناحية العقائدية والحضارية لا يوجد أي حل أميركي غربي لمعالجتها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. يقول الرئيس الأميركي نيكسون في كتابه (ما وراء الإسلام): «ما يهدد العالم فعلاً هو أن بلدنا قد يكون غنياً بالبضائع، ولكننا فقراء في الروح. فالتربية والتعليم الرديئان، والجرائم المتزايدة، والعنف المتصاعد، والانقسامات العرقية النامية، والفقر المستشري، وآفة المخدرات، والثقافة المنهارة في وسائل التسلية، والانحدار في تأدية الواجب المدني والمسؤولية، وانتشار الفراغ الروحي، ساهمت جميعاً بفض الأميركيين وتغريبهم عن بلادهم ودينهم وعن بعضهم بعضاً». ويقول زبغينو بريجنسكي وهو مستشار سابق للأمن القومي الأميركي: «إن المجتمع المنغمس في الشهوات (المجتمع الأميركي) لا يستطيع أن يسن قانونا أخلاقياً للعالم، وإن أي حضارة لا تستطيع أن تقدم قيادة أخلاقية سوف تتلاشى».

هذه هي الحضارة الأميركية والغربية باعتراف الأميركيين أنفسهم، إنها حضارة لا أخلاقية، حضارة تستشري فيها الآفات الاجتماعية، حضارة خواء فكري، إنها حضارة خاوية على عروشها.

فحضارة كهذه لا تملك قطعاً أن تقف أمام الإعصار الإسلامي القادم المتمثل في دولة الخلافة الإسلامية الراشدة الموعود بها المسلمون، إن شاء الله، ونسأل الله أن يجعلها قبل سنة 2020م .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *