العدد 219 -

السنة التاسعة عشرة ربيع الأول 1426هـ – أيار 2005م

من الهداية إلى الشهادة (قصة شهيد) (3)

من الهداية إلى الشهادة (قصة شهيد) (3)


      هذه قصة واقعية… قصة شهيد من أوزبكستان تُـروى بلسان حاله… منذ الهداية إلى الإسلام، وعمله مع حـزب التحـرير، إلى اعتقاله وإدخاله سجون الظالمين… سجون الطاغية كريموف حاكم أوزبكستان… ثم التعذيب المفضي إلى الاستشهاد… أسكنه الله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

و«الـوعــي» تنشر هذه القصة على صفحاتها مبيِّـنة سيرة أولئك الرجال الرجال، الذين لا يخشون في الله لومة لائم، قلوبهم عامرة بالإيمان، ألسنتهم رطبة بذكر الله، تردد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند ذي سلطان جائر».

رحم الله رشيداً، ونصر إخوانه من بعده بإقامة الخـلافة الراشدة، وحينها سيعلم الطاغية كريموف، وكل الطغاة الظالمين أمثاله، أي منقلب ينقلبون.

وكان ظلم الكفر على الإسلام يتزايد في السجن يوماً بعد يوم، وانقسم السجناء إلى قسمين: الدينيين وغيرهم. من سجن لدينه وإيمانه سمي دينيّ. وكل سجان كان له الحق بتعذيب الديني وتحقيره كيف يشاء. وانقسم الدينيون أيضاً إلى قسمين: المستميتين، وغير المستميتين. من قال بقلبه أو بلسانه إني رجعت عن طريقي، فهو غير مستميت. ومن قال لن أرجع عن طريقي حتى الشهادة فهو مستميت. ووقع التحاور بين مستميتين وبين غير مستميتين.

قال المستميتون: لن نرجع حتى الشهادة.

قال غير المستميتين: بل نتوب بلساننا لنيل الحرية من السجن، فنستمر بعملنا في الخارج.

قال المستميتون: لا، إن هذا إلا التنازل.

قال غير المستميتين: وجائز شرعاً.

قال المستميتون: لكن العدو يفشي البهت بأن الحزبيين قد رجعوا عن طريقهم من تلقاء أنفسهم انتفاعاً بذلك.

فتلا غير المستميتين: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [آل عمران].

وبالخلاصة أجمعوا على أن من يستميت فيرجى له من الله الصبر، ومن يرجع لنيل الحرية من السجن، يستمر بدعوته في الخارج، فلا يلام، فإنه ليس للعبد أن يمنع ما أجازه الله.

فتزايد التعذيب والتحقير بالنسبة للمستميتين بقدر ما تناقصا بالنسبة لغير المستميتين، فكأنما نصيب غير المستميتين من التعذيب والتحقير قد ألحق بالمستميتين.

وكان رشيد من المستميتين. كان يضرب بالعصا للصلاة خمس مرات، وللصوم كذلك. تفكرْ في ضرب سفيه يملك قوة مثل قوة الخنـزير على ظهرك مع إليتك، فبعد هذا الضرب لا تستطيع أن تضبط ظهرك طوال أسبوع، والصلاة خمس مرات في كل يوم وليلة. لقد ضرب رشيد بالعصا ضرباً لا يحصى. وفوق ذلك هناك أقوال مؤلمة ومثيرة مثل: “أنتم ملعونون، وآباؤكم وأمهاتكم بريئون منكم” ومثل: “أنت تفقد حياتك، ويتزوج شرطي زوجتك، وأولادك لا يذكرونك إلا بسوء” ومثل: “تركت زوجتك وأولادك عالة على أبويك وتحسب نفسك رجلاً” وكانوا يلزمونه على تنظيف دورة المياه تحقيراً له.

ورشيد كان لا يبالي بهذه الأمور -التحقير والتعذيب والتشريد- لا سيما عندما رأى زوجته ديلارام مهتدية، فأصبح يحسب هذه الأمور المكدرة ذرة بإزاء تلك النعمة الكبرى التي هي أضخم من الجبل، ويقول لإخوانه عندما رآهم يشكون إليه عن أحوالهم: صبراً أخي، فإنهم نجس نتن، ولا تنتظر منهم رائحة طيبة، فكأنما كان لرشيد منبعان لكسبه. أحدهما روحي والآخر بدني. فمن المنبع الروحي كان يكسب مليون وألف مليون، ومن المنبع البدني كان يخسر عدة قروش فقط، فالذي يكسب مليونا من جهة، لا يبالي بالقروش التي خسرها من جهة أخرى، فكذلك رشيد فقد غرق في اللذة الروحية، ولم يخطر بباله أنه معذب ومحقر ومشرد.

وروي أنه في آخر الزمان يخرج الدجال، ويقول إن من يؤمن بي أدخله جنتي، ومن يؤمن بالله أدخله جهنمي، وكأن السجان نفس الدجال، فمن كان يؤمن بالله، ويلتزم بالإسلام، ويصلي، ويصوم، فهو يعذب عذاباً شديداً، ومن كان يخون، ويكذب، فهو في أمان. وكان التعذيب تدريجياً، الضرب بالعصا، ثم السجن في غرفة الجزاء لمدة قصيرة، ثم  السجن فيها لمدة طويلة، ثم  الدرجة الأخيرة وهي استئناف الحكم على المحبوس، ومن استؤنف الحكم عليه يعدّ جانياً فحاشاً ويحرم من كل امتيازات السجناء.

وكان السجان الدجال يبغض رشيداً جداً لأن إيمانه بالله كان قوياً، ولذلك كان يعذبه ويحقره باستمرار. وإذا لم يجد العصا سجنه في غرفة الجزاء. عندما دخل رشيد في غرفة باردة ضيقة بثياب رقيقة تذكر قول ابن تيمية: «ماذا يريدون أن يفعلوا بي، فإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن أخرجوني فخروجي سياحة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فإن في قلبي كتاب الله وسنة رسوله». وما كان في استطاعته النوم لبرودة في الغرفة، وما غلبه النوم إلا أيقظه دق أسنانه، فيقوم ويتحرك لإيجاد الدفء في بدنه، ثم ينام، وبعد قليل تدق أسنانه من جديد، وتتكرر هذه الحال إلى الصباح عدة مرات، لقد كان رابط الإيمان بالله عند رشيد قوياً، وما أحس رشيد لذة الخلوة مع الله مثلما أحسها هناك، فكأن قلبه يضرب قائلاً الله الله، ونَفَسه يدخل ويخرج قائلاً الله الله.

وسجنوا رشيداً في غرفة الجزاء لمدة طويلة بعد أن رأو أن السجن لمدة قصيرة لا يؤثر عليه، ثم استأنفوا الحكم ضده وأرسلوه إلى «جسليق»، وهو المكان الذي يجري فيه أشد أنواع التعذيب الجسدي للمعتقلين، ويوصف بأن «من دخله فلن يخرج منه» أو بعبارة أخرى هو أسفل جهنم الدجال.

وقد فكر رشيد يوماً في قتل أحد الظلمة، وذلك عندما بلغ تعذيبه درجة لا تطاق، غير أنه يعلم أن هذا الطريق غير صحيح، وأن عليه أن يصبر، وأن يقلع عن تفكيره هذا. وكان يكرر باستمرار هذا الدعاء: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران].

إن ثمرة العمل الأخروية تواسي الرجل بقدر ما تواسيه الفائدة الدنيوية، أي إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وتذكر رشيد أن صاحبه محمداً قال له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:  بمعنى أن الله سيقوي هذا الدين بيد ظالم. ووجد مصداق هذا الحديث في الواقع كثمرة لعمله في هذه الدنيا، وذلك أنه سجن وحقر لسبب واحد، ولا يوجد هناك سبب آخر، وهو اختياره تحكيم كتاب الله وسنة رسوله في حياته كلها، فلما رأى أبواه وزوجته وأقاربه هذا الظلم بأعينهم، علموا أن المجتمع الموجود المتعفن خبيث غير قابل للبقاء، فميزوا بين الإسلام والكفر، فاهتدوا إلى الصراط المستقيم؛ ولذلك لا يخاف رشيد على نفسه، بل يتطلع إلى الشهادة؛ لأن شهادته يمكن أن تكون سبباً لاهتداء كثير من أصحابه وأقاربه. وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها» وما ألذه من حديث، وما أسرّه! وتذكر رشيد سرور صاحبه محمد عندما قال له علمني طريقك. ودعا له بخير.

واهتز السجن كله من خبر أندجان الذي تظاهرت النساء فيه طلباً لتحرير أبنائهن، وأزواجهن، وإخوانهن، فعاملهن الشرطيون معاملة غير إنسانية، حتى إن إحدهم قد انتهك حرمة امرأة منهن. فقال أحد الحزبيين فور سماعه هذا الخبر:

 هذا فوق الطاقة، ولابد من قتل أحد هؤلاء الظلمة حتى تهدأ نفسي.

 فقال رشيد: بل يجب أن نصبر.

 الصبر؟ وماذا بعد الصبر؟

 نعم، الصبر حتى يأذن الله لنا، وتقوم الدولة الإسلامية.

 آه، لو كنت في الخارج لكنت بحثت عن هذا الخبيث الذي انتهك حرمة تلك المرأة المسلمة، ولكنت وجدته وقتلته. ألا يوجد رجل في الخارج يجده ويقتله؟

 أخي العزيز أراك على أحرّ من الجمر لعرض أختك في الدين، وأنا أيضاً ما بقيت عندي من طاقة، ولكننا ما دمنا نسير على طريق قائدنا محمد صلى الله عليه وسلم:  فعلينا الصبر على كل حال. انظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم:  من جديد، هل اقتص من مشركي مكة، عندما عذبوا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم:  وحقروه وألقوا عليه القذر؟

 إن أوان القصاص قد اقترب بمشيئة الله، ولكن هذا لا يعني أن نغل أيدينا ونترك العمل. فإن السعادة لا تأتي إلينا بنفسها، بل نحن نأتيها. عندي اقتراح.

 أي اقتراح؟ (سأله عدد من الحزبيين كانوا قد أخذوا ينصتون إليه بكل اهتمام).

 أجابهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر» فلنسعَ إلى هذا الجهاد.

 فكيف؟

 نكتب إلى رئيس دائرة الأمن عنايتوف، ورئيس السجون قديروف، ندعوهما أن يحضرا إلى هنا، وبعد قدومهما نطلب منهما الامتناع عن التعدي على حرمة إخوتنا طلباً جازماً.

 قال أحدهم: وهل يثمر هذا العمل؟

 علينا السعي، وليس علينا النجاح، و النتيجة من الله.

 نعم، ولكن علينا أن ندرس هذا الأمر شرعاً وعقلاً. فمن المعلوم أن الجهاد لا يقوم إلا بالتضحية، ومن الطبيعي أن طلبنا هذا سيغضبهم، وسيحاولون أن ينتقموا منا، فهل يعدل هذا العمل الثمرة التي تنتج منه.

 فأجابه ذلك الحزبي المتحرق قلبه، والذي يريد أن ينتقم من ذلك الشرطي الخبيث الذي انتهك حرمة المرأة المسلمة: فليعتزلنا من يؤثر روحه على الجهاد، بل أفضل الجهاد.

 لا تستعجل علي، فإني أفدي روحي لهذه الغاية مثلك، إلا أني أريد أن أستيقن: هل هذا العمل مناسب لإفداء الروح أم لا؟

 إني أرى أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون عرضه فهو شهيد» مناسب جداً لهذا الواقع الذي حدث معنا.

 قال رشيد: وعندي مناسب أيضاً فإننا نطبق الحديث فقط، والمناسب فيه أن يكون القول الذي نريد قوله عند إمام جائر حقاً. وإذا أضيف إليه أنه يجري على العرض، فيصبح المناسب أنسب.

 قد اقتنعت من قولك وأعتذر منك لأني طرحت مسألة في غير محلها.

 كلا، لا تخجل، فإنه لا يذم من يطرح مسألة لاقتناع قلبه بها، بل يذم من يستبد برأيه.

لقد أخذ السهر رشيداً، فتذكر كيف أن أحد أصدقائه قبل اهتدائه لم يطلق زوجته، بعد أن تبين له أنها قد زنت بسائسه، خوفاً من العزل من منصبه، بينما الشباب هنا مستعدون لإفداء أرواحهم لحماية عرض أختهم التي لا يعرفونها، وتأكد له، من هذا الذي تذكره، أن صلة الدين خير من صلة النسل، ووقع في خاطره في أن الرجل يصبح بالدين غيوراً وبالجاهلية ديوثاً، وحمد الله على أنه قد أخرجه من عالم الديوثين وأدخله في عالم الغيورين، ثم دعا ربه لنفسه ولإخوانه، وسأله الصبر على هذه النعمة الكبرى.

كتب الحزبيون رسالةً طلبوا فيها حضور عنايتوف رئيس دائرة الأمن، وقديروف رئيس السجون، وأرسلوها بواسطة قلومبيتوف رئيس جسليق. وكان في الرسالة عدد من البنود، وأهمها مسألة الحرمة. وفي أحد البنود اشترطوا فيه حضورهما في الخامس عشر من تشرين الأول. فقبْـلَ يوم من انتهاء مدة هذا الشرط، أي في الرابع عشر، حضر قديروف رئيس السجون إلى السجن، وأمر قلومبيتوف أن يسـتفسر من الشـباب الذين طلبوا مقابلته عن مقصدهم، وقال له: من تجرأ علي بالقول، تمسـكه وتسجنه في غرفة الـجزاء. ولقد سـمع هذا الكـلام عدد من الدينيين بأنفسهم.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *