العدد 303-304 -

العدد 303- 304 – السنة السادسة والعشرون، ربيع الثاني وجمادى الأولى 1433هـ، الموافق آذار ونيسان 2012م

تناقض النظام الديمقراطي بين المؤسسات وشرعية الجماهير

تناقض النظام الديمقراطي بين المؤسسات وشرعية الجماهير

معز الدين مبين- باكستان

النظام الديمقراطي هو نظام مبني على فكرة أنّ السيادة للشعب، فهو في جوهره فكرة تقوم على أنّ السيادة للعقل البشري، وهو يتصور وجود نظام يحدد فيه العقل البشري القوانين واللوائح والنُّظم التي يجب أن تنظم وتحكم المجتمعات البشرية. إنّ هذا المفهوم «المثالي» للديمقراطية يتعارض مع بعض خواص المجتمعات البشرية؛ لأنّ العقل البشري يتصف بالفردية من جهة أنّ البشر يختلفون مع بعضهم حول تفسيرهم للأحداث والوقائع المختلفة، استناداً إلى الخبرات والأولويات وتصورات فردية مختلفة (للواقع)، وبالتالي فإنّ فكرة سيادة العقل البشري، تقودنا إلى سؤال حقيقي وهو، من الذي يحدد فيما يفكر به العقل البشري؟

 لقد شهد التاريخ البشري الكثير من المفكرين من الذين قدموا العديد من الأفكار حول التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات البشرية، فلأي من هذه الأفكار يجب أن تكون «السيادة»؟ ومَنْ مِنْ بين البشر يُقرّر لأي الأفكار يمكن أن تكون «السيادة»؟ وما هو الإطار العملي لمن يضع تلك الأفكار «السيادية»؟ إنّ هذه القيود العملية في تطبيق النظام الديمقراطي، قادت إلى إعادة تعريف فكرة السيادة للشعب وللعقل البشري، بسبب استحالة أخذ رأي كل فرد في وضع القوانين واللوائح، في بلد وُلدت فيه فكرة «التمثيل السيادي»، ما يعني أنّ فكرة «التمثيل» ستُمثل تفكير شريحة من الناس، وبالتالي تركيز إرادة الناس الجماعية وحصر التفكير في مجموعة من الأفراد. وفكرة «التمثيل السيادي» قادت أيضاً إلى خلق الإطار الذي سيُحدّد أي الأفكار والقوانين المبنية على هذه الأفكار ستكون أفكاراً ذات «سيادة» وتتمتع بالأغلبية. لذلك فإنّ فكرة «سيادة الأغلبية» نشأت من فكرة «التمثيل السيادي».

ومع أنّ النظام الديمقراطي يدّعي أنّ السيادة للشعب، إلا أنّ واقع المؤسسات الديمقراطية أنّها قائمة على فكرة «التمثيل السيادي»، وبالتالي فإنّ فكرة السيادة للشعب تترجم فعلاً أو تؤخذ على أنّها تعني «سيادة المجالس التشريعية». ففي «التمثيل السيادي» فإنّ النواب يشرّعون القوانين والسياسات وفقا لرغبات وأهواء الناس، وبذلك يحققون سيادة الشعب، وكأنّ بإمكان الشعب أن يقرر بأي القوانين يُحكم، ولكن هذا ما تقول به النظرية. أما في الواقع فإنّ النائب لا يمثل تفكير الشعب، لكنّه يُفكر نيابة عن الشعب؛ لذلك فإنّ المُشرّع الفعلي هو من يأتي بالأفكار والقوانين واللوائح التي يجب أن يُحكم بها الشعب وليس العكس. وبالتالي من الناحية العملية فإنّ «سيادة المجالس التشريعية» هي «سيادة النخبة السياسية»، وكل ما يقوم به المُشرّع هو سعيه للحصول على التصديق على أفكاره أو اقتراح قوانين ولوائح من قبل دائرته الانتخابية والادّعاء بأنّه يُمثل الشعب، وفي نظام الحكم الديمقراطي يتمتع الشعب بالسيادة غير المباشرة، بينما يتمتع النواب بالسيادة المباشرة، كما أنّ الشعب لا يلعب دوراً مباشراً في وضع القوانين واللوائح، بل يقتصر دوره على إضفاء الشرعية، وإنّه لمن الضروري إدراك مسألة أنّ النظام الديمقراطي لا يعمل من الأسفل إلى الأعلى كما يتصور البعض، بل يعمل من الأعلى إلى الأسفل، مع إجراء بعض التعديلات. تلك التعديلات هي أثر إضفاء الشرعية على التشريعات، فالنواب يُشرّعون القوانين، ويقومون بإقناع جمهور الناخبين بقبول ذلك، وفي حال رفض الناخبون رأي المُشرّع، وصوتوا على إخراجه من المجلس التشريعي، فإنّ السيادة تكون للناخبين. لكن الناخبين في هذه الحالة سيفضلون مُشرّعاً على أخر، وهذا لا يعني سوى أنّ الناخبين اختاروا الأفكار أو القوانين المقترحة من قِبَل مُشرع على الأفكار والقوانين المقترحة من قِبَل مشرع أخر. وفي جميع الأحوال لا يكون الناخبون قد شاركوا في عملية وضع القوانين، بالإضافة إلى الموارد الهائلة المتاحة للمشرعين، مثل الإعلام الإلكتروني والمقروء وبرامج الأحزاب والتجمعات السياسية، وكيف تنحاز هذه الوسائل لمصلحة النخبة السياسية في اقتراح أية أفكار للسيادة على الشعوب.

هذه الفجوة، خصوصاً بين سيادة الشعب وسيادة المجلس التشريعي، خلقت ما يمكن أن نسميه التناقض في النظام الديمقراطي. ففي نظام الحكم الديمقراطي تستمد المؤسسات الديمقراطية شرعيتها من المجلس التشريعي، ويتم تحديد شكل الجمهورية (أو الدولة) وجميع مؤسساتهما من قِبَل المجلس التشريعي. وسواء أكان شكل الحكومة في الدولة برلمانياً أم رئاسياً، فلمن تكون صلاحيات السلطة التنفيذية؟ ولمن سيكون اختصاص السلطة القضائية، ومن الذي سيجمع ويدير الشؤون المالية، ومن الذي يحدد عدد الوزارات والعلاقة بين السلطة المدنية والعسكرية وتصرفات كل منهما؟ ومن الذي يضع المبادئ التوجيهية وقواعد السياسة الخارجية والدفاع؟ ومن الجدير بالذكر أنّ جميع مؤسسات الدولة تستمد شرعيتها من المجلس التشريعي، وللمجالس التشريعية الحق في تعديل شكل مؤسسات الدولة وتقييد أو توسيع نطاقها القانوني، وإلغاء هذه المؤسسات وإقامة مؤسسات جديدة مكانها، وباختصار فإن شرعية المؤسسات وكل من يعمل فيها، سواء من كان في موقع الحكم أم كان موظفاً لدى الدولة، فإنّهم يستمدون شرعيتهم من المجالس التشريعية، وليس من الشعب مباشرة. وفي نظام الحكم الديمقراطي الحديث، فإنّ السيادة هي للدولة القومية، وتُعتبر جميع الإجراءات التي تقوم بها الدولة وأي من مؤسساتها إجراءات شرعية، إلا أنّ الدولة الديمقراطية الحديثة تدّعي أنّها تستمد سلطتها وسيادتها من الشعب، لكن كما قلنا سالفاً، إنّها تاخذ شرعيتها من المجلس التشريعي وليس من الشعب مباشرة. والتناقض في النظام الديمقراطي يظهر في جميع الدول الديمقراطية بين المؤسسات الشرعية وإرادة الشعوب. فماذا لو أنّ الدولة ومؤسساتها اتخذت قرارات تناقض إرادة الشعوب؟ فهل تكون تلك القرارات شرعية لأنّ السلطة الشرعية المختصة اتخذت تلك القرارات، أم تكون غير شرعية لأنّها ضد إرادة الشعب؟ وللمزيد من التوضيح، ماذا لو أنّ الدولة التي تدّعي السيادة باسم الشعب، اتخذت بعض الإجراءات أو أنّها تبنت بعض السياسات التي تتناقض مع إرادة الشعب؟ ففي مثل هذه الحالة، هل يجب الوقوف إلى جانب المؤسسات الشرعية، أم أنّ الشعب هو من يجب أن ينتصر؟ لقد كان قرار توني بلير في الذهاب إلى حرب العراق ضدّ إرادة الشعب البريطاني، وحُزَم الإنقاذ التي أعطيت للبنوك الأميركية كانت ضدّ توجهات الناس، وخطط التقشف التي يجري تنفيذها في اليونان وإيطاليا ضدّ إرادة الشعوب، وتراجع التأييد في استمرار الحرب من قبل الغرب على أفغانستان، ومتابعة عملية السلام بين الحكومة الديمقراطية الباكستانية والهند على الرغم من المقاومة الشعبية من قِبَل أهل باكستان، ومواصلة الحرب على الإرهاب في باكستان على الرغم من المعارضة الشعبية الشرسة لذلك، كل ذلك ما هو إلا أمثلة قليلة على سياسات وقرارات اتُّخذت من قبل دول ديمقراطية كانت فيها الدولة والشعوب على طرفي نقيض.

ولمناقشة الموضوع من زاوية أخرى، فإنّ القوى الغربية التي تقود العالم اليوم وتدّعي قيادتها الفكرية، تؤكّد على عالمية الديمقراطية كنظام حياة وعلى فصل الدين عن الدولة. وبعد الحرب العالمية الثانية بُني النظام العالمي على الأفكار الليبرالية التي تملكها هذه الدول وتروّج لها. فمن خلال المؤسسات المتعددة، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الكومنولث ودول حلف شمال الأطلسي، روّجت هذه الدول للديمقراطية على أنّها طريقة حياة. وهكذا تم الحفاظ على توافق عالمي، وفرض نظام ديمقراطي، من خلال النفوذ السياسي وتأثير الدول الغربية التي أصرّت على أن المجتمع الدولي مُلتزم بالأفكار والقيم الليبرالية. والدول في جميع أنحاء العالم تتبنى الديمقراطية كأساس لأنظمة حكمهم، ويتم استخدام هذا الإجماع الفكري القسري على المستوى العالمي، لدعم أولئك الذين يعتقدون أنّ شرعية المؤسسات مقدمة على إرادة الشعوب.

وبالنسبة للعالم الإسلامي، فإنّ هذا النقاش حول المؤسسات مقابل شرعية الشعوب يُعتبر مهماً جداً، لأنّه يتعلق بمسألة التغيير وكيفية الوصول إليه. فمنذ إلغاء نظام الخلافة على يد مصطفى كمال، تم إخضاع المجتمع إلى عملية حكم قسري عن طريق الطبقة الحاكمة التي اعتقدت أنّ تفوق المؤسسات مُقدم على الإرادة الشعبية، حيث كان شائعاً في ذلك الوقت أنّ المسلمين بشكل عام سُذّج ورجعيون وغارقون في تراث الخلافة ومتمسكون بفكرة المزج بين المادة والروح، لذلك لم يكن متوقعاً أن يعتمد المسلمون فكرة «الدولة القومية الحديثة» والمؤسسات الديمقراطية، ولم يكن من سبيل للتقدم سوى فرض المؤسسات الديمقراطية والأفكار الجمهورية عليهم، عن طريق اختيار نخبة ليبرالية، والتي عملت «كحزب طليعة» وقادت هذا الإصلاح من خلال سلطة الدولة. إن فكرة «الكمالية» نشأت، كأيديولوجية لما بعد نظام الخلافة ومثلت هذا النهج، وكانت بمثابة نموذج وسابقة لجميع العالم الإسلامي، حيث تم تطبيقها في جميع البلدان الإسلامية، وإن كان ذلك بأشكال مختلفة مثل المَلَكية والمَلَكية الدستورية والحكم الاستبدادي. إنّ فكرة الكمالية انبثقت كأيديولوجية سياسية من إسطنبول، مقرّ الخلافة العثمانية قبل هدمها، وبذلك كانت الرسالة للعالم الإسلامي أنّ عليه أن يتحول ليتجاوز نظام الخلافة نحو النظام الجمهوري ألا وهو «تركيا»، وقد اتَّخذ المركز الفكري والروحي للعالم الإسلامي زمام المبادرة في هذا الصدد، وكانت الستة مبادئ أو «الستة سهام» (كما يسمونها) للكمالية هي التي شكّلت حجر الزاوية للحكم الجمهوري الوحشي لمصطفى كمال، من حيث إجبار المسلمين في تركيا على تبني المُثُل العليا للعالم الجديد، والتي تمّت الدعوة لها من قِبَل لندن وباريس. وتضمنت الستة مبادئ لمصطفى كمال، النظام الجمهوري، الذي كانت غايته استبدال النظام السياسي العثماني، المتمثّل في نفوذ السلطان وبطانته، وإحلال النظام الجمهوري مكانه. والقومية، التي كان الهدف منها ترسيخ الهوية التركية المتميزة بين المسلمين في تركيا لتحلّ محل الدولة العثمانية. والنزعة الشعبية، التي كانت تهدف إلى تقديم القيم الديمقراطية في تركيا المسلمة. والثورية، وهي العقيدة التي تم استخدامها من قبل مصطفى كمال لتبرير التغيير الجذري في النظام العثماني. والعلمانية، التي كانت تهدف إلى تحقيق إصلاحات بعيدة المدى في النفوذ الديني في الدولة. والدولية، الشبيهة بالشيوعية والفاشية المعاصرة، التي سيطرت من خلالها الدولة على الاقتصاد والمجتمع.

ركز منهج مصطفى كمال، الذي تم اعتماده من قِبَل النُّخب الحاكمة في جميع أنحاء العالم الإسلامي على تفوق المؤسسات على الإرادة الشعبية، فهذا النّهج روّج لأهمية المؤسسات وتقديمها على تطلعات الجماهير. إذاً فشرعية الدولة ومؤسساتها في العالم الإسلامي لا تُستمدّ من جماهير المسلمين، بل إنّ هذه المؤسسات فُرضت على العالم الإسلامي من قِبَل النخبة الحاكمة التي ترى نفسها «كإصلاحيين» في محاولة لإصلاح أوضاع الشعوب في اعتماد القيم والمُثل الديمقراطية. لكن أساس المشكلة في إقامة مؤسسات ديمقراطية في العالم الإسلامي هي أنّ المسلمين غير مقتنعين بفكرة «سيادة العقل البشري».

إنّ إرادة شعوب العالم الإسلامي تؤمن بضرورة مزج المادة بالروح بينما تُصرّ الدولة ومؤسساتها على الفصل بينهما. لذلك فإنّ العالم الإسلامي يجد نفسه في معركة شرسة مع نفسه. فمن جهة تقف الدولة ومؤسساتها ومجموعة من الإصلاحيين «الليبراليين»، الذين استغلّوا نفوذ الدولة لمحاولة إصلاح العالم الإسلامي، وفي الجهة المقابلة تقف جماهير المسلمين والحركات السياسية الذين قاوموا هذا الإصلاح وتحدّوا سلطة الدولة والظلم ودعوا إلى بناء مؤسسات مختلفة تقوم على أساس الحكم الرباني. فكان هذا الصراع الشرس الذي استمر على مدى عقود في العالم الإسلامي، لينفجر على شكل ربيع عربي. الذي جاء بالإسلاميين إلى السلطة، في جميع الدول التي حصل فيها التغيير، وما زال مستمراً ليُظهر فشل نهج الكماليين في دعم الدولة للإصلاحات، وليكشف أنّ العالم الإسلامي يطمح للحكم بالإسلام.

لقد جلب الربيع العربي والثورات الشعبية إلى الواجهة قضية المؤسسات مقابل شرعية الشعوب في سياق التغيير بطريقة عملية، وجلبت طريقة انتقال السلطة بالقوة التي حدثت في مختلف البلدان العربية ضرورة تسوية هذه المسألة فكرياً. وبسبب تعاظم الثورات العربية وضخامتها في الشارع، أصبح دور الجيوش العربية رئيسياً في إزالة الطغمة الحاكمة القديمة. وبالتالي هل يجب على الجيش أو أهل القوة دعم المؤسسات والدولة ضدّ إرادة الشعوب؟ أم أنّه يجب على الجيوش دعم الراغبين في التغيير ويصبح أداة لإزالة الدول الموجودة مع مؤسساتها؟. في الوقت الذي اعتمد منهج «الكماليين» على نفوذ وقوة الدولة وفرض إصلاح على المجتمع مبني على قيم غريبة، فإنّ دعم الحركات السياسية الموجودة التي تدعو إلى قيم معينة والتي تتمتع بدعم جماهيري، تشكل نهجاً راديكالياً مختلفاً. إنّ الشيء الوحيد الذي يقف بين العالم الإسلامي وإعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها جذرياً، يرجع إلى قرار الجيوش الإسلامية التي يجب أن تحسم أمرها، فهل سيدعم الجيش الدولة القديمة ومؤسساتها، أم أنّه سيدعم إرادة الشعوب ويضع ثقله خلف دعوة إعادة المزج بين المادة والروح أي تسيير أعمال الدولة والفرد بأوامر الله ونواهيه عن طريق إعادة بناء الخلافة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *