العدد 303-304 -

العدد 303- 304 – السنة السادسة والعشرون، ربيع الثاني وجمادى الأولى 1433هـ، الموافق آذار ونيسان 2012م

من ثمرات العقيدة الإسلاميّة… حُسن الإمارة والطاعـــة

من ثمرات العقيدة الإسلاميّة… حُسن الإمارة والطاعـــة

 

عثمان بن رزق- تونس

جاء في المعجم الوسيط: (الطاعـــة): الانقياد والموافقة، وقيل لا تكون إلاّ عن أمرٍ. ويقال: اللّهم لا تطيعنّ بي شامتاً: أي لا تفعل ما يشتهيه ويحبه. وفلاناً طاعه: خضع له. و(الطوع) يقال: هو طوع يَدِكَ، أو إرادتك: منقادٌ لك. وفرس طوع العنانِ: سلس المقادة. وفلان طوعُ المكاره ونحوها: إذا كان معتاداً لتلقّيها وتحمّلها. (المُطاوعُ): المطيع ُ الموافقُ. و(المطواع): من يسارع إلى الطاعة، ويقال: هو مِطْوَاعَةٌ بالتاء لزيادة المبالغة والجمع مَطاويعُ. و(المُطَّوَّعُ): المتطَوِّع. وفي التنزيل العزيز: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) أي من يتطوّعون للجهاد. و(الطَيِّعُ): الطّائِعُ. ويقال رجل طيّع اللّسان: فصيح. و(تطوَّعَ): أي قام بالعبادة طائعاً مختاراً دون أن تكون فرضاً لله. وفي التنزيل العزيز: ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ). ويقال: اطّوعَ -بالقلب والإدغام- وأصله تطوّعَ. و(طوّعَ): مبالغة في طاع. وفي التنزيل العزيز: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ )، أي زينته وشجعته عليه. و(انطاع) له: خضع وانقاد. و(استطاع) الشيءَ: أطاقه وقدَرَ عليه وأَمكنه. وفلاناً ونحوه: استدعى طاعتَةُ وإجابته…

هذه الاشتقاقات لفعل طاع يطيع طاعة الواردة بالمعجم تعني: الموافقة والتمكن والانقياد والخضوع والخنوع والتسليم والولاء والتمكين والإجلال والإكبار والاتباع والامتثال والإخلاص. وقوامه الائتمار بأمر وليّ الأمور وصاحبها.                                                                                                                                         وطاعة المطيع للمطاع لا تحصل إلا بوجود محل الطاعة، كأن يطيع الابن والده في القيام على إنفاذ أمر ما، وعليه كانت طاعة الابن لأبيه في ذلك الأمر بمعنى القيام على نفاذه وقضائه. فالأمير هو آمرٌ بأمر معين، والمطيع هو المنفذ لأمر الأمير؛ ولكن التنفيذ هاهنا مكيف بمفاهيم الرضا والولاء والانقياد للقائد الآمر، على عكس صفة المأمور غير المطيع الذي يُنفّذ الأمر رغماً وغصباً عنه، في حين أن المطيع ينفّذ أمر الأمير وهو قابل منصاعٌ وخاضعٌ مطمئنٌ دائماً، بل راغب في التنفيذ. فالعبرة هنا بالقبول والرضا والانصياع والانقياد والخضوع والاطمئنان لأمر الآمر، ومرده انصهار سلوك المطيع بمفهوم الطاعة. إذاً فكل طائع مأمور وليس كل مأمور طائع. فالطاعة تكون لجهة معينة في أمر ما، وبالتالي لا طاعة لجهة دون ثبوت صفة الإمارة، ولا طاعة لأَمْرٍ دون ثبوت الجهة الآمرة، فالجهة والأمر متلازمان، لذلك سميت بالجهة الآمرة لأن الطاعة للأمر ابتداء، وكون الأمر لا يصدر إلا عن الجهة كانت الطاعة ضمنياً باعتبار أن أصل الطاعة ثبتت بثبوت الأمر المطاع. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». تفيد بأن أصل الطاعة هي لجهة الخالق، وأن طاعة الأمير الذي يُطيع الخالق هي طاعة للخالق، بل ومعصية الأمير الذي يعصي الخالق هي طاعة للخالق كذلك، فمحل الطاعة هو أمر الخالق.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر». ولقد جاء في المعجم في تفسير كلمة صَفَقَ التي وردت بالحديث الشريف بمعنى  ضربه ضرباً يُسمع له صوتٌ، والريح والثوب والشجر والماء: ضربته وحركته، والطائر بجناحيه حركهما، وصفق العود ضرب أوتاره، والباب ردّه، والشراب مجّه ـ والقدح ملأه، والبيع أمضاه، وكانت العرب إذا أردوا إنفاذ البيع ضرب أحدهما يده على يد صاحبه. فقالوا صفق يده أو على يده. وصَفْق اليد المحدث لصوت في هذا الباب يدل على الرضى والقبول والتشهير بالبهجة والسرور.

كما جاء بالحديث الشريف كلمة ثمرة قلبه، والثمر من الشيء فائدته، وحمل الشجر. فالشجر يثمر بثمر طيّب لذة للآكلين، ويقال خصني فُلان بثمرة قلبه: أي بمودته. فالأصل في الطاعة أن تكون عن ولاء وودّ، وأمّا الإجبار على الطاعة والإخضاع على الاتباع، هو إكراه، وعليه فالطاعة تعنى الطواعية والرضى والقبول. وقد قيل:

تعصي الإِلَهَ وأَنْتَ تَزْعَمُ حُبَّهُ ؟        هَذَا لَعَمْرِي فيِ القِيَاسِ شَنِيعُ

لَوْ كُنْتَ تَصْدُقُ حُبَهُ لأَطَعْتَهُ         إنَّ  الُمحِبَّ  لمن  يُحِبُّ  مُطيعُ

ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الطاعة تكون حسب الاستطاعة، فالطاعة تنتفي مع العجز على إنفاذ الأمر. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا إذا بايَعْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا:  فيما استطعت». وروى البخاري عن جرير بن عبد الله قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، على السمع والطاعة، فلقنني فيما استطعت، والنصح لكل مسلم».

والطاعة تكون لآمر مُحدد، فإن جاء آخر ينازع الآمر فيجب استئصاله، فالمنازع هو من يريد النزع والقلع والتنحية. ونازِعُ اليد من الطاعة هو خارج عن مولاه وعاصٍ له. ومنازعة المريض هو الضجر، والنزاع الخصام والغلاب، والتنازع الاختلاف والصراع. فالآخر المنازع الوارد في الحديث الشريف هو مفرّق بين المتوادين ـ أي بين الطائع والمطيع ـ والمنازع كالجسم الدخيل على البدن -أي كالشوكة في الجسم-  فهي تحدث قلقاً وضجراً. وعليه لابد من قلع ومصارعة المنازع والتغلب عليه وهزمه باعتباره مخالفاً ومتخلّفاً عن الامتثال والطاعة وخارجاً عن الولاء والاتباع. فالمطيع كالمريض الذي ينتظر وصفة الطبيب ليتناول الدواء حسب مقادير معينة ونظام دقيق، والحاجة للأمر هي نفسها الحاجة للآمر… نعم إن النظرة الصحيحة للأمير تؤكد أنه مطلب لا تقرّ العيون إلا بوجوده، ومن الخطأ إدراج فهم الدكتاتورية والإقصاء والاستبداد بالرأي في الموضوع… فالأصل في الأمير أنه لا يأمر إلا بما يصلح للمأمور، وأصل أمر الأمير أنه رحمة للمأمور وخير له، كأن نقول الأصل في المرأة أنها ربة بيت، والأصل في المرأة أنها أمّ… فمادام الأصل في الإمارة حُسن الرعاية، نتساءل كيف يثير ذلك المأمور وينتفض تنصلاً من الأمر وصاحب الأمر (فالخطأ في الفهم هنا مكمنه الفكر الأساسي)… إن الأمر المطاع يتضمن خصوصية القبول والرضا، وينتج عنه الاطمئنان والسعادة والهناء، ولقد ورد عن الأنصار عند استقبالهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنوّرة قولهم: «طلع البدر علينا… جئت بالأمر المطاع…«، يفيد بأنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر هذا الأمر الذي يكمن فيه الحل الوافي والبلسم الشافي. إن الأمير المطاع يأمر بما يطاع، أي يأمر بالأمر المطاع، فيطيع الطائعون ويثنون على الأمير تبجيلاً وتهليلاً. لأن الأمير أمر المأمور بأمر أقرّ هذا الأخير (أي المأمور) ضمنياً أنه قابل به  وراضٍ عنه وذلك من خلال تأمير الأمير، فالأصل في الأمير أن يتأمر أي يتولى أمور الإمارة بطلب من المأمور وقبوله والرضى بأمره. فالأمير ولاه المأمور على نفسه، وعليه لا يصح أن يتسلط على إمارة المأمور غصباً وكرهاً، وإلا فلا واقع للتأمير إذا كان الأمير متسلطاً على الرقاب، فلا يوصف حينها بأصل واقع الإمارة من حيث كونها تفويض لرعاية الأمر…

ونظرة الإسلام للأمير تختلف عن نظرة الرأسمالي أو الاشتراكي، فالمسلم يطيع أميره  ويبرّه ويدعو له، والرأسمالي والاشتراكي يذمّ أميره ويتنصل من استبداده وسطوته ويُكِن له مشاعر البغض والكره… فمثلاً دفع أموال الزكاة، فإن المسلم يندفع في إخراج الزكاة بدافع تقوى الله، مع عدم وجود الدولة الإسلامية التي تقوم على جبيها، بينما يتهرب الناس من دفع الضرائب بشتى الوسائل دون أن يوجد أي شعور بوجوب أدائها، بل يرفضها شاعراً بالاستياء والتذمر والظلم.  ومفهوم الطاعة أنه قناعة مبنية على قاعدة فكرية معينة، وهو ثمرة لقيادة فكرية تؤكد رسوخ المفهوم المنتج لقناعة النضج والحنكة. إن تأمير أمير على النفس أو الجمع  كإمارة الرجل على زوجه وبنيه، يستدعي أن يَأْتَمِر الجَمْع بأمر واحد منهم وإلا تعطلت الحياة وتوقفت، ولا يستقيم الأمر البتة بتأمير أميرين لأنه سيختلف كل واحد عن الآخر في الفهم والرأي والقرار، وعليه يضيع النظام ويعم الاختلاف والفرقة والفوضى، وتتفشى حياة الغاب، ويخيم الظلم والقهر والاستبداد، ويأكل القوي الضعيف. وكون الطاعة مفهوم له تمثّل في الذهن ونتاج إحساس فكري  مصدق به تصديقاً جازماً، ومصحوباً بشعور فكري مكيفاً ومجسداً ومنتجاً لسلوك راقٍ، يفيد ذلك بأنه قناعة راسخة رسوخ شجرة ضاربة جذورها في الأذهان، قناعة طابقت المسلمات العقلية فأقنعت العقل. فأساس فكرة الطاعة هي الفكرة الأساسية، بل إنها تضمنت في كنهها الطاعة بما تكتنفه من التزام وانقياد وانصياع، ففكرة فصل الدين عن الحياة تفرض على حامليها عدم الخضوع للدين، وأن لا علاقة له بالحياة، وفكرة المادية تفرض على حامليها إنكار وجود الخالق، واعتبار المادّة أزلية وأصل الفكر. وفكرة أن الإنسان والحياة والكون مخلوقة لخالق مُدبّر تفرض على معتنقيها في هذه الحياة الدنيا التقيّد بأوامر الله ونواهيه، فَرِفْعَتُهِمْ وعُلُوُ شَأْنِهِمْ وتَشْرِيِفُهُمْ كَوْنُهمْ عَبِيداً للمعبود، وكانت عبادتهم قناعة بطاعة وتلبُّس بأمر المتولي لجميع الأمور، فله الأمر من قبل ومن بعد سبحانه عمّا يصفون. إذاً فالفكرة الأساسية تتضمن الانقياد والانصياع، وإلا لَمَا كانت قيادة فكرية فقوام الفكرة الأساسية انبثاق الطريقة المتضمنة لأوامر الآمر، فكان واقع الإيمان بالخالق المدبّر، يفيد بطاعة الخالق في كل ما دبّر من نظام لنحيا به حياة حقة، ونحتسب عنده سبحانه طاعتنا لأمره فنفوز برضوانه وننجو من سخطه. وإن طاعته سبحانه تضمنت طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وطاعة رسوله تضمنت طاعة الوليّ القائم على أمر الله.

ووجوب الطاعة والانقياد للأمير ثبت في القرآن والسنة. قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) وروى البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» وفي رواية أخرى: «وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» (متفق عليه)  وكلمة الأمير وأميري في الحديث تشمل الأمير الحاكم، وتشمل الأمير غير الحاكم… وقد جاءت آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تأمر بالطاعة،  وتحث عليها حتى تصبح الطاعة عند المسلمين سجيّة من السجايا، لأنّ الطاعة والانقياد أمر أساسي وجوهري لوجود الانضباط وحفظ الكيان في الدولة والأمّة، وبدون الطاعة والانقياد ينعدم الانضباط،  وتعمّ الفوضى،  ويتمزّق الكيان وينهار.  روى البخاري من طريق ابن عباس رضي الله عنه قال:  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ» (مسلم) وقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب الطاعة للأمراء حتى جعل من يخرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه، وجعل من يخلع يداً من طاعة يلقى الله يوم القيامة لا حجة له، في ما روى مسلم والحاكم من طريق ابن عمر.

و حيث إن أصل الطاعة هي لأمر الله، وما الإمام المتولي الأمر إلا مطيع لأمر الله؛ وعليه فالإمام الآمر مطيع والمأمور هو الآخر مطيع؛ لذا سنلقي الضوء على واقع الآمر.

فالأمر في اللّغة استعمال صيغة دالة على طلب المخاطب على طريق الاستعلاء. والنهي في اللّغة، هو الجزر عن الشيء بالفعل أو القول أو كلاهما. وجاء في المعجم الوسيط: الأمر منه مُرْ. ويقال: فلاناً أشار عليه بأمر. ويقال: (آمَرَ) فلاناً في الأَمْرِ مُؤامرة: شَاوَرَهُ. ويقال: أمرتُه فأْتمره والقومُ تَأمَّرُوا أي تشاوروا. و(استأْمرَهُ) استشاره. ويقال: استأمرتك في كتابة بيانات خاصة بمطبوعة أي استشرتك وطلبت عونك وإرشادك. فالإمارة قوامها الرشد والرشاد، والإرشاد والمرشد للخير هو مسترشِد مرشَّد رشيد ابتداءً. وإنّه وإن كانت طبيعة الأمر تتضمن الاستعلاء فلا يفيد ذلك التعالي والتكبر والرياء، بل يعني الاستعلاء هنا جديّة الأمر وأهميته وقُوّته، وصرامة الآمر وتلبسه بالإمارة التي هي قيادة وريادة توجب الاتباع والامتثال. وإن تضمن الاستعلاء التكبر والتعالي والتفاخر والرياء يكون قد حاد الآمر عن إمارته، ويمكن أن يتنصل المأمور من الأمر ويتمرد؛ فتثبت شخصنة الآمر لنفسه، وعليه لا بد من أن تتمثل الفكرة في الآمر وذلك بتقيده هو ابتداء بها، وليتذكر قول: إن رتعت رتعوا…  ويضع نُصْبَ عينيه أنه أئتمن على أمر ليؤديه كما أُمِرَ به، كما أنه سيحاسب حساباً. وعليه فليخشَ إن قصر أو حاف أو أفرط أو أجحف قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين )

والأمر بالنهي يختلف في حدة استعلائه عن طلب الفعل، فالنهي يتضمن استعلاؤه العتاب الخفيف والجزر والتخويف والتهديد والوعيد، وذلك بحسب الواقع، ويظهر الأسلوب القرآني في الجزر الشديد والتهديد والوعيد لمن يجحد الحق ويكفر به، في قوله تعالى: ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) وجاء في باب العتاب الخفيف قوله تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى   )

وعليه كان من دماثة الأخلاق وحسن التأتي، أن يكون أمر المسلم لأخيه في قالب رجاء ونصح كما علّمنا القرآن الكريم في آياته حيث قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ) وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين )

و عن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏ ‏قال ‏: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» صحيح مسلم. فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ابتدأ بذكر محبة المأمور للآمر لأنه هو الذي أمّره على نفسه ورضي به، ونبذ صلى الله عليه وسلم الآمر المبغوض ونعته بالشرّ. والأصل أن لا يتسلط الآمر على المأمور، وأصل الطاعة لأمر الله صاحب الأمر كونها مبنية على ودّ ورحمة وألفة بين الآمر والمأمور، المتحابَّين في الله والمتوادَّين فيه سبحانه وتعالى… وعليه لا يجب أن يكتنف أمر الآمر التسلّط والعجرفة وقهر المأمور…  ولا يجعل من الطاعة عصاً أو سيفاً يضرب به المأمور ويتسلط على الرقاب ليقع الامتثال له. فالإمارة اتباع بالمعروف، ولا تعني التزمت والإسراف والغطرسة والتعالي على المأمور قال تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )، بما يفيد أن الأصل في الأمر أنه رحمة من الله. والأصل في الآمر أنه رحيم رقيق القلب عطوف طَيّب. وكلمة الفَظّ تعني الغليظ  ـ من الفظاظة، والأصل أن العقيدة هي المرجع والفيصل، قال تعالى: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ    )فالطاعة تزيد في القرب وتقوي الودّ بين الآمر والمأمور، ولا تعمق هوة البُعْد والشقاق والضغينة بينهما، حتّى ينقلب الحال من مُطَاع ومُطِيع إلى غالب ومغلوب، فتحل القطيعة عوض اللّحمة والانسجام، وتغلب العصبية لينتصر كلٌ لنفسه، قال تعالى: ( الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )  أي الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ولم يخلطوا إيمانهم بشرك, أولئك لهم الطمأنينة والسلامة, وهم الموفقون إلى طريق الحق.

إن النرجسيّة (الإعجاب بالنفس) تجعل من الآمر متباهياً بين الأمراء فلا تكون إمارته خالصة لوجه الله تعالى، ويشوبها التميّز  والتفاضل والعُجب. ويقع الآمر في مستنقع التكبر عن التوجيه والنصح، فالاستبداد مذموم في شرعنا، والمشورة محمودة لربنا. وأذكر الحجاج الذي لم تشفع له كثرة الفتوحات خلال فترة إمارته عن تبرير سوء رعايته وظلمه الرعيّة. فرعاية الحجاج بن يوسف الثقفيّ فيها تسلّط وتنطع رغم وضوح الفكرة الإسلامية عنده… فكان عالماً بالأحكام الشرعية، وصنوف الكلام والشعر، حتى إنّه قال في آخر أيامه:

ياَ رَبِّ قدْ حَلِفَ الأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا                   بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ

أيَحْلِفُونَ   عَلَى   عَمْياَءَ؟   وَيْحَهُمُ                   مَا عِلْمُهُمْ بِكريمِ العَفو غَفَّارِ

لقد فَتَحَ الحجّاج باب الجِهَاد على مِصْرَاعَيه، فكانت أكثر الفتوحات في  زمن ولايته… ولكن عمله على اتساع سلطان الإسلام لم يشفع له تسلطه على الرقاب وإساءة تطبيق المبدأ… فقوام الإمارة حسن الرعاية، وقوام حسن الرعاية محبة الراعي لرعيته… وإن الفتوحات الإسلامية تقرب بين الفاتح والمفتوح. وأما الاستعمار فيباعد بين الغالب والمغلوب، في حين أن المسلم الفاتح يتولى الأمور وتفتح له القلوب فينشر الخير ليعم ّالعالم. وحبّ البروز الذي مأتاه مظهر في غريزة حبّ البقاء، إذا لم يربط بالمفاهيم الصحيحة يقع الآمر في الاستبداد؛ فيستعظم عوض أن يجعل العظمة للمبدأ، ويتذرع بالمبدأ حتى يستأسد على المأمور وذلك بأمر نفاذ الطاعة. فلا يصح أن يتعالى الأب على أبنائه، وبالمقابل لا يصح أن يتعالى وليّ الأمر على الرعيّة، فالتعالي ينفي الودّ ولو جزئياً، وتُعد تلك ثغرة في نفسية المسلم المتولي لأمور الناس. فالطائع طاعته ابتداءً وبالأساس هي لأمر الله صاحب الأمر.

وإن كان الحديث عن ثغرات في النفسيّة وشوائب في العقيدة فلا يعني ذلك البتة فساد عقيدة المسلم، بل القصد منه بيان جوانب ضعف في بشر يمكن أن يرد عليه الخطأ لأنه ليس ملاكاً، فيسارع بالتوبة والاستغفار ومزيد التقرب لله.

و لقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر الغفاري رضي الله عنه حين طلب الإمارة وقال له صلى الله عليه وسلم: “إنك عبد ضعيف”، فأدرك رضي الله عنه الفكرة ووضع الأمر في مكانه، من حيث إنه لن يقدر على القيام بالتكليف وأنه سيضيّعه ويُسأل عنه يوم القيامة، فلم يتحسر من قرار الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم أن قراره صلى الله عليه وسلم رحمة، وفي الرحمة ودّ وطمأنينة… ولم يُقعد ذلك أبا ذر عن التلبس بالمبدأ فكرة وطريقة، فحمل العقيدة وما انبثق عنها من أفكار وأنظمة في كنف الطاعة والانضباط والولاء حتى باهى الرسول صلى الله عليه وسلم به. ولم يكن طلبه التكليف حباً لسلطة السيادة وإرضاء لهوى النفس بل تقرباً لله تعالى.

وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه. وابن عبد البرّ في التمهيد، عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله«. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فنهاه وأمره فقتله.«

فعدم قبوله النصح من أبرز صفات الجور، نسأل الله أن نكون ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. إن النصيحة هي قول الحق وأمانة الطاعة، والمضيّع لها هو مضيّع لحق الإمارة والولاية.

لقد فهم المسلمون الأوائل حقهم في النصيحة وإبداء الرأي، فلقد وقف الصحابي الحَباَبُ بن المنذر رضي الله عنه في غزوة بدر ليدلي برأيه الذي كان على خلاف رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال دون أن يخشى مُتقعراً ينهاه عن مناقشة المصطفى صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله: أرأيتَ هذا المنزل ، أمنزلاً أَنْزَلَكَهُ الله ليس لنا أن نتقدَّم ولا أن نتأخَّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟» نظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة حانية وهو يحثه على أن يصدح برأيه علانية أمام جموع المسلمين: «بل هو الحرب والرأي والمكيدة»… فقال الحباَبُ بعد أن فهم تشجيع المصطفى صلى الله عليه وسلم له: «فإن هذا ليس بمنزلٍ« يا لها من كلمة جريئة في حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كان في مَكْنَة الحبَاب أن يُغَلِّف كلماته بطبقات من الرقة، وكان في إمكانه أن يُسِر في أُذن الرسول صلى الله عليه وسلم برأيه، ولكنّه جهر بكلماته الحادة .. «هذا ليس بمنزل»، ثم قال مُكملاً رأيه: «فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فَنَنْزِلَه، ثم نُغَوِّر ما وَراَءه من الآبار، ثم نَبْنِي عليه حَوْضاً فَنَمْلَؤه ماءً ، ثُمّ نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون ..» كان في مقدور الرسول صلى الله عليه وسلم أن يترك رأي الحبَاب، ولكنه نهض على الفور وتحوَّل إلى المكان والرأي اللذين أشار بهما الحبَاب.

وهذا أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عندما استلم الحكم: «فإن أحسنت فأعينوني؛ وإن أسأت فقوموني، وأطيعوني ما أطعت الله ورسوله» (جامع الأحاديث). ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «من رأى منكم فيَّ إعوجاجا فليقومه»، وقال رجل لعمر: اتقِ الله يا عمر، فأجابه أحد الحاضرين بقوله: أتقولون هذا لأمير المؤمنين؟ ولكن عمر نهره بتلك الكلمة: «لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها».

فالاعوجاج قد يراه المأمور في أمر الآمر، ويمكن أن لا يتفطن له الآمر، فَيُقَوِّم المأمور الآمر بالنُصح  وإبداء الرأي. ولكن بمجرد ترفّع الآمر وإنكار وقوعه في الخطأ  يكون قد حاف عن الحق. فالأصل أنه من البشر وأن لا يَتَنَزَّه عن الخطأ، وإن نزّه نفسه يكون قد وقع في الظُلم. وإِنَّ إِقرار الآمر وُرود الخَطأ عليه يُؤكِد وجوب التزامه قبول النصح والتقويم.

إنّ التعالي عن النصح يُفيد وجود ثغرة في العقيدة، فتنزيه النفس وتزكيتها بالتبرير والتملّق والتسويف فيه توصيف لها بصفات الكمال، وفي ذلك مدخل من مداخل الشيطان والعياذ بالله.

وأعود للحديث إلى قول أبي بكر: فقّوموني؛ أي بمعنى أعينوني وأرشدوني، فالحال قوامه التناصح والتعاون على الخير. وجحود النصيحة والإرشاد للخير بسفور وتعنت مرده دفع غريزي وهو حبّ السيادة، فيندفع بفكر ضيّق لصراع سُلطوي بَاهِت يتضمن كُتلة مِن مشاعر البُغض والغِلّ المَقِيت.

ويروى أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا الناس ذات مرة، ووقف على المنبر قائلاً لهم أتذكرون “عمرُ” عندما كان “عميراً” يرعى على إبل فلان فى شعب كذا؟ فعجب الناس وسأله بعضهم: لماذا قلت ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أحسست في نفسي بشيء من العجب فأردت تأديبها، ثم قال: ما تفعلون بي لو ملت برأسي هكذا وهكذا، فرد عليه أحد المسلمين: نفعل لك بحد السيف هكذا وهكذا. و ما يزيد في بيان حسن إمارته وجميل تواضعه بديع قوله رضي الله عنه وأرضاه: «أصابت امرأة وأخطأ عمر«. وقوله رضي الله عنه «رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي« لقد وعى رضي الله عنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم »الدين النصيحة«.

وروي أن عمر بن الخطاب صعد إلى المنبر درجة، دون الدرجة التي كان يقوم أبو بكر عليها، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر وفضله، ثم قال: «أيها الناس ما أنا إلا رجل منكم، ولولا إني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله ما تقلدت أمركم». ثم توجه بنظره  إلى السماء، وجعل يقول «اللهم إني غليظ فَلَيِّني، اللهم إني ضعيف فقوّني، اللهم إني بخيل فسخّني» ثم أمسك هنيهة. ثم قال »إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم»…

ويحفظ لنا التاريخ ما قاله أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله: قال «.. وما سُلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أَعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن أَخَوان وقَوَّامٌ بأمر الله عز وجل، وما يضير الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ودنياه، بل يعلم الوَالِي أنّه يكاد يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما تعرض من الهلكة إلا من عصم الله عز وجل».

وعندما طلب أبو عبيدة من خالد أن ينفذ مهمّة قتالية تحت إمرته، أجابه خالد قائلاً: «أنا لها إن شاء الله تعالى، وما كنت أنتظر إلا أن تأمرني»، فقال أبو عبيدة: «استحييت منك يا أبا سليمان». فقال خالد: «والله لو أُمِّرَ عَلَيَّ طفل صغير لأطيعن له».  الله الله، من إجابة تحاكي نضج وورع وإخلاص خالص لله رب العالمين، إنهم رجال الرجال، ونجوم النجوم، استناروا بنور الإسلام، فأناروا الدربَ، وكانوا أعلاماً للاقتداء والاتباع، وكيف بمسلمي آخر الزمان، ونرجو الله أن نكون أهلاً لذلك، وأن نمتلك مثل إخلاصهم لله ربّ العالمين. إن رعايتهم لم تكن عبارات رنانة منمقة فضفاضة، ولكن كانت مفاهيم وقناعات راسخة لا تتتعتع ولا تتزعزع في الأذهان. وإن نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل آخر الزمان الذين يؤمنون به أنهم أحبابه يوجد في النفس بهجة من حيث إنها بُشرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فعلى المسلمين أن يقلعوا عن حرصهم على متاع الدنيا الفانية، وألا يتَلُكؤوا عن الاحتذاء واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. إن الشرف والرفعة وعلو مقام أحباب حبيب الله يُكرّس الحرص والاتباع، ويقلع العصبيات من جذورها قلعاً. عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأنّ رأسه زبيبة« رواه البخاري… لقد قام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً على المنبر فخطبَ الناسَ فقال: «أيها الناس اسمعوا وأطيعوا!« فقال له سَلْمَان الفارسي رضي الله عنه : «لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة يا عمر!»، فقال رضي الله عنه: «وَلِمَه؟!» قال سلمان: «حتى تبين لنا منْ أين لك هذا الثوب الذي ائتزرت به، وأنت رجل طويل لا يكفيك برد واحد كما نال بقية المسلمين!»، فلمّا بيّن له عمر رضي الله عنه أن البرد الذي ائتزر به هو برده مع برد ابنه عبد الله، قال سلمان: «الآن مُر نسمع ونطع».

إن الشورى حق الرعية على الراعي. وعدم اعتناء الدولة الإسلامية بمجلس الأمة بعد الخلافة الراشدة كان من جملة أسباب الضعف وإساءة التطبيق، فغصب مطلق حق الأمّة في المحاسبة والشورى يُعد نوع من الترفع ودرجة من الكبر، ففي ذلك استقواء واستضعاف وامتهان للمأمور باستئساد واستعظام لواقع الإمارة السيئة. فرفض الآمر سماع مشورة المأمور فيه استنقاص واستصغار واحتقار لرأي المأمور، وبالتالي يَنُم عن استعلاء، فالحديث السالف ذكره يحذر من أمراء يبغضون رعاياهم ويصفهم بالشرية. وإن الدولة الإسلامية تطبق الشرع بناء على أمور منها تعاون الدولة مع الأمّة، وما يحمله هذا التعاون من تناصح ومشورة.

وإنه وإن كانت المشورة من المندوبات في جوانب، فهذا يؤكد على الأخذ بها لا تركها. فالمسلم لا يستغني أبداً عن ثوابها، والآمر سيسأل عن أمانة الإمارة. وإن أمر الله مسؤولية الجميع آمراً ومأموراً. إن مسؤولية الآمر أمام الله أكبر من مسؤولية المأمور، فهي أمانة الأمانات… فهل يليق بالآمر المطيع لرَبِّه أن يجُور على المأمور عَبْد خالقه؟؟؟

ونحن لسنا هنا بصدد تسليط الضوء على حكم الشورى من كونها واجبة في نواحٍ وغير واجبة في نواحٍ أخرى، بل القصد هو بيان مسألة عدم أخذ الأمير مطلق الرأي ومطلق الشورى ومطلق النصيحة، فتم بحث المسألة من ناحية عقائدية وليس من ناحية حُكميّة، فلو نظرنا لفترة الحكم العَضوض لتبينا أن الإسلام طُبق عملياً، ولم يثبت أن المسلمين طبقوا غيره من الأنظمة والأحكام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى سقوط الخلافة العثمانية. ولم يحصل أن أيّ شعب من الشعوب التي اعتنقَتِ الإسلامَ ارْتَدَّ عن الإسلامِ. بل إن إساءة التطبيق للمبدأ ظهرت في الحكم العَضوض أي بعد فترة الخلافة الراشدة، وكان من بين ظواهر إساءة تطبيق المبدأ عدم العناية بمجلس الأمّة،  أي تقصير الحكام في أخذ الرأي، من باب إنكار الراعي لحق من حقوق الرعية عَلَيْهِ. جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، منهم  إمام عادل». أسأل الله أن يظلنا يوم لا ظلّ إلا ظلّه. وفي الختام أخلص للقول: إنّ  الطاعة هي من أهمّ ثمرات العقيدة الإسلاميّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *