العدد 303-304 -

العدد 303- 304 – السنة السادسة والعشرون، ربيع الثاني وجمادى الأولى 1433هـ، الموافق آذار ونيسان 2012م

مشروع الوحدة الأوروبية والمعوقات..

مشروع الوحدة الأوروبية والمعوقات..

 

حمد طبيب  – فلسطين

تمتاز أوروبا بكثرة الدول والعرقيات الموجودة في هذه الدول، كما تمتاز بكثرة الصراعات السياسية والعسكرية منذ زمن بعيد؛ أي منذ عهد الكنيسة ورجال الدين في العصور الوسطى وقبلها، وهناك ميزة أخرى في أوروبا هي حب السيطرة على الغير وأخذ قيادة باقي الدول، كما حصل في عهد نابليون بونابرت أو في عهد هتلر، أي هناك حب سيادة العرق على العرق الآخر ..

والحقيقة أن وحدة أوروبا بهذا المعنى المحدّد لم تتم عبر التاريخ، لأنها لم تجتمع تحت قيادة سياسية ولا حتى عسكرية واحدة، ولم يحصل بين أقطارها المختلفة اندماج يشكل في مجموعه وحدة سياسية، وإنما كانت تجتمع عدة دول في فترة تاريخية محددة من أجل مصلحة مشتركة أو هدف مشترك، ثم سرعان ما ينتهي هذا الاجتماع ويزول بانتهاء الغاية والهدف؛ كما حصل في عهد الحروب الصليبية في العصور الوسطى، أو كما حصل في الحرب العالمية الأولى وفي الثانية عندما اجتمعت عدة دول في مواجهة الخطر النازي والفاشي القادم من ألمانيا وإيطاليا ..

ويمكن القول إن مقومات الوحدة بين دول أوروبا هي أضعف بكثير من مقومات الفرقة والتشرذم. وحتى نقف على هذا الموضوع بشيء من البيان والتفصيل فإننا سنتناوله من عدة زوايا:

1- مقومات الوحدة بين الدول، ومقومات الوحدة الصحيحة المتينة القابلة للاستمرارية:

أما مقومات الوحدة بشكل عام فهي أولاً: وجود هدف مشترك بين دولة أو مجموعة دول يدفعها نحو الوحدة؛ مثل مصلحة مشتركة اقتصادية أو سياسية أو غيرها، فإذا وجدت هذه المصلحة تفكر الشعوب في دولة أو أكثر في مشروع وحدة بينها بشكل يحقق الغرض المراد؛ مثل إيجاد سوق مشتركة بين أقطارها. ثانياً: هو وجود عدوّ مشترك يهدد كيان دولة أو أكثر، ولا يمكن تلافي هذا الخطر إلا من خلال الوحدة بين هذه الأقطار، وأقرب مثال على ذلك ما حصل من وحدة عسكرية بين مجموعة دول أوروبية في مواجهة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. ثالثاً: هو وجود الناحية المبدئية التي توحّد الدولة، وهذه تنقسم إلى قسمين: وحدة على أساس مبدأ صحيح وتتصف بالديمومة والقوة، ووحدة على أساس مبدأ سقيم وتتصف بالضعف وعدم الديمومة..

فالوحدة الصحيحة القوية الدائمة هي ما كانت نابعة من مبدأ صحيح آمن أفراده به إيماناً يقينياً، وأصبحت الآصرة بين الشعوب متعددة الأعراق تقوم على أساسه، وهذا الأمر لم يتحقق في التاريخ الإنساني إلا في الإسلام والشعوب التي اعتنقته، حيث جمع عدة أعراق في عدة دول على أساس الإسلام في ظل دولة الإسلام من إندونيسيا حتى الأندلس على الطرف الآخر من المحيط، وغير ذلك من ألوان الوحدة الدينية أو المبدئية فإنها لم تتحقق بهذا المعنى عبر التاريخ؛ لا في عهد الفرس والرومان، ولا في عهد اليونان من قبل، ولا في عهد غيرهم من ممالك واتحادات ..

فالدين النصراني على سبيل المثال لم يجمع أوروبا في وحدة، وإنما ظلت متشرذمة متناحرة بين عدة طوائف، ودولة فارس انتهت وحدتها بزوال قوة الدولة المتمثلة بكسرى، والمبدأ الرأسمالي لم يستطع أن يجمع حتى بين أبناء العرق الواحد في أوروبا، فظلت أوروبا منقسمة بين مبدئين (رأسمالي واشتراكي) لنفس العرق والشعب الواحد، ولا توجد وحدة تقوم على المبدأ الرأسمالي بل فرقة وتطاحن وتنافس وحروب بين الدول..

والمبدأ الاشتراكي كذلك كانت وحدته في منظومة حلف وارسو وحدة قسرية بقوة السلاح أكثر منها قوة مبدئية، لذلك سرعان ما انهارت قبل أن يمضي عليها قرن واحد من الزمان، وحتى داخل إطار روسيا أو «الاتحاد الروسي» توجد هناك قوميات تريد الانفلات من هذا الاتحاد ..

2- دوافع أوروبا نحو الوحدة:

وهي قطعاً ليست مبدئية ولا دينية؛ لأن هذه الدوافع – كما رأينا – كانت سبب الفرقة والتناحر وما زالت، ويبقى الأمر الآخر وهو (المصالح المشتركة) لهذه الوحدة، فما هي مصالح أوروبا من الوحدة ؟!

وقبل أن نذكر المصالح المشتركة نقول: إن أوروبا -عبر التاريخ الطويل- سعت وما زالت تسعى لأن يكون لها مكانة مرموقة بين دول العالم، وكانت تسعى لقيادة العالم سواء في عهد نابليون فرنسا أم عهد بريطانيا العظمى أو في عهد هتلر ألمانيا…

وقد شعرت أوروبا- في العصر الحديث- بوزنها الضعيف في ظل العملاقين: أميركا وروسيا، وخاصّة بعد الحرب العالمية الثانية، شعرت بذلك من ناحيتين: الاقتصادية في عملية إعمار أوروبا وحاجتها إلى مساعدة الولايات المتحدة في مشروع مارشال الشهير، وشعرت أيضاً بوزنها الضعيف عندما بدأ التهديد الروسي لدول أوروبا، حيث بدأ بمد جناحيه على بعض الدول الأوروبية في أوروبا الشرقية، ومن ثم أخذ يهدد الدول في أوروبا الغربية نفسها، لذلك وضعت نفسها تحت جناح الولايات المتحدة للمساعدة في إيقاف هذا المدّ الأحمر ..

من هنا صارت أوروبا تفكر جدياً وعملياً في الوحدة وخاصّة في ظل تنامي قوة الولايات المتحدة وهيمنتها الاقتصادية على العالم، فكان الدافع لهذه الغاية يتمثل في ثلاثة أمور؛ الأول: السعي لمكان مرموق في العالم يضاهي أو يقارب العملاقين، وخاصة أن عدد السكان يقارب نصف مليار نسمة، وحجم الاقتصاد مجتمعاً يوازي أيضاً ثلث الاقتصاد العالمي، الثاني: التخلص من الخطر الشيوعي عن طريق الوحدة، أي إنجاز قوة قادرة على الوقوف والدفاع في وجه الأخطار، والثالث: التخلص من هيمنة الولايات المتحدة وابتزازها الاقتصادي عن طريق الأسواق والنفط والنقد والبورصات.. وغير ذلك من أدوات اقتصادية ..

معوقات وسدود أمام مشروع الوحدة يجب تجاوزها:

لكن هذه الوحدة -كمشروع اقتصادي أو سياسي- تقف في طريقه عدة معوقات وعقبات وسدود كبيرة يجب تجاوزها في الطريق نحو هذا المشروع الكبير، وأول هذه العقبات هي الولايات المتحدة؛ التي تسعى بكلّ ما أوتيت من قوة سياسية وعسكرية للسعي من أجل عدم تحقق هذه الوحدة، وذلك لئلا تنافسها أوروبا كقوة اقتصادية عملاقة وكتجمع سكاني ضخم، ولئلا تسعى في المستقبل لتنفيذ أحلامها وطموحاتها بالانعتاق من عبودية الدولار الأميركي. فأميركا تسعى بجدّ من أجل عدم تحقق هذه الوحدة، وقامت بخطوات عملية في سبيل ذلك، منها على سبيل المثال: إيجاد تحالفات مع عديد من الدول الأوروبية، ومنها إنشاء حلف الأطلسي وإدخال عدة دول في منظومته، والوقوف في وجه مشروع القوة الأوروبية المشتركة الذي تسعى لإيجاده ألمانيا وفرنسا، ومنها تشجيع الدول على عدم الانضمام لمنطقة اليورو، والقيام بمحاولات عملية لضرب اليورو عن طريق إيجاد الأزمات الاقتصادية له، وقد كان بارزاً ما قامت به الولايات المتحدة كمقدمات في إيجاد الأزمة الأخيرة لليورو وخاصة مطالبة البنوك الأميركية بالديون المستحقة على اليونان ..

أما العقبة الثانية فهي وجود التفاوت الاقتصادي بين الدول، وهذا يضرب موضوع الوحدة الاقتصادية، وهي أهم الأسس نحو الوحدة السياسية،وقد ظهر هذا الأمر بشكل جليّ في أزمة اليورو الأخيرة في اليونان وايطاليا وغيرها، والعقبة الثالثة هي وجود عرقيات مختلفة لم تستطع أن تتوحد قديماً حتى في عصر الكنيسة ورجال الدين، ولا في حملات الحروب الصليبية ..وهناك أمر طارئ جديد يعرقل الوحدة بين الدول الأوروبية؛ هو ما جرى ويجري حالياً من اهتزازات في ظل الأزمة المالية العالمية ومن تخلّ عن كثير من مبادئ السوق الحرة والحرية الاقتصادية، مما دفع كل دولة في دول الاتحاد الأوروبي للتفكير بطريقة للصمود في وجه الهزات دون تحمل أعباء الآخرين، فهذه عقبات كل منها أكبر من أختها تصدع بل وتهدم حلم أوروبا نحو الوحدة..

سير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية على خطوات بارزة وملموسة في طريق الوحدة السياسية تمثلت في الأمور التالية:

إنشاء السوق الأوروبية المشتركة، وإنشاء منظومة الاتحاد الأوروبي والتي تضم الآن حوالى 27 دولة، والقيام بإنشاء نواة القوة الأوروبية المشتركة كمقدمة لإنشاء قوة أوروبية كبيرة على طريقة حلف وارسو وحلف الأطلسي، ولكن هذا المشروع ما زال في بداياته ولم يكتمل بعد، وقامت بعض دول الاتحاد الأوروبي بإنشاء مشروع الوحدة النقدية ( اليورو ) على طريق دعم الوحدة الأوروبية والتي تضم في عضويتها حوالى (17) دولة.

ولكن رغم هذه الخطوات الجريئة والفعّالة من قبل الدول الأوروبية لم يكتمل بعد مشروع الوحدة الأوروبية السياسية، بل إنه لم يتجاوز بعد مرحلة البناء الأولية على هذا الطريق الضخم الكبير ..

 تأثير المبدأ الرأسمالي الذي تدين به الدول الأوروبية في هذا المشروع الكبير، فهل لهذا المبدأ أثر يذكر في دعم ودفع مشروع الوحدة الأوروبية؟!

والحقيقة أن المبدأ الرأسمالي هو أداة فرقة بين دول هذا الاتحاد، وليس أداة تدفع نحو الوحدة، والسبب أنه مبدأ قائم على المصالح والمنافع، فإذا رأت بعض الدول أن الفرقة أنفع لها سارت على طريق الفرقة؛ كما هو حال بريطانيا حيث إنها لا تشجع هذه الوحدة رغم أنها تتقوّى بها أحياناً في وجه بعض المشاريع الأميركية، والسبب أن بريطانيا ترى أنه في مصلحتها أن تبقى بعيدة عن أي اتحاد أوروبي؛ لأنه عندها نظرية تقول: إن بقاء بريطانيا وحدها أقوى من وجودها داخل الاتحاد الأوروبي؛ تماماً كما أن الشجرة الكبيرة حتى تبقى وتستمر كبيرة وقوية فإنه يجب أن تكون بعيدة عن غابة الأشجار، وإذا اقتربت من الغابة ضعفت واضمحلت؛ (هذه إحدى مقولات «تشرتشل» أحد وزراء بريطانيا السابقين)، وقد كان المبدأ الرأسمالي بالفعل سبباً في فرقة أوروبا وما زال حتى الآن؛ لأنه مبدأ نفعيٌّ مصلحي ليس له ثوابت تقف عليها الدول وتتمسك بها، وأكبر مثل على ذلك – كما ذكرنا – هو الحروب الطاحنة التي حصلت بين دول أوروبا وأشعلت الحرب العالمية الأولى، ثم الحروب التي أعقبتها عبر خمسة عشر عاماً متتابعة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية!!..

فالصراع على المصالح والمنافع المتمثلة بدعم أصحاب رؤوس الأموال في أوروبا وأميركا، سواء أكان ذلك بالبحث عن الأسواق للصناعات أم بالبحث عن المواد الخام، كل ذلك يجلب الحروب المتتالية بين هذه الدول ..

أما إمكانية توحد أوروبا في ظل هذا النظام مستقبلاً فإنه أمر صعب، بل يمكن أن يكون مستحيلاً؛ بسبب تعدّد الأهواء والولاءات السياسية، والمنافع والمصالح والارتباطات مع الأحلاف الدولية الكبرى، وبسبب عدم قناعة بعض الدول ابتداءً بمثل هذه الفكرة كبريطانيا رغم أنها داخلة في الاتحاد الأوروبي، ويمكن القول إنه قد يوجد اتحاد أوروبي كما هو الحال بين مجموعة دول، إلا أنه لن يصمد طويلاً أمام الهزات وخاصة الاقتصادية، وسيكون مصيره كمصير الاتحاد السوفياتي السابق عندما تعرض للهزّات الاقتصادية فاضطر إلى تفكيك منظومة هذا الاتحاد، ويمكن أن يحصل نفس الأمر مستقبلاً بين مجموعة الدول الداخلة في الاتحاد الأوروبي، ويكون السبب هو عدم صمودها اقتصادياً مع باقي دول الاتحاد، فتخرج على سبيل المثال اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وأيرلندا ثم تتبعها دول أخرى لنفس الأسباب، ويبقى الأمر محصوراً في بعض الدول الغنية الكبرى كألمانيا وفرنسا وهولندا ومن هي على شاكلتها ..

ويمكن أن تكون مشكلة اليورو الحالية هي القشة التي تقصم ظهر هذا الاتحاد فلا ينهض من مكانه !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *