العدد 158 -

السنة الرابعة عشرة _ كانون الأول 1421هــ _ حزيران 2000م

الـرأي و الـرأي الآخـر

          تطرح، في هذه الآونة، بين المسلمين، فكرة ضرورة انفتاح المجتمعات على بعضها، وفكرة تقبل الرأي الآخر، وأن من عنده رأي يجب أن يسمع للرأي الآخر ويأخذه إن كان صحيحاً، ويتقبله إن حُكم به. ومن لا يفعل ذلك يتهم بأنه أصوليّ منغلق من أصحاب الرأي الأوحد، الذين يضيقون بالرأي الآخر، ويريدون أن يفرضوا آراءهم على الآخرين، والذين يتصرفون وكأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، ويوصف عملهم بأنه ضرب من ضروب الإرهاب الفكري…

          فما حقيقة هذا الطرح؟ ومن الذي يقف وراءه؟ وكيف يجب أن يتعامل معه المسلمون؟

          إن الغرب الكافر يحكم العالم اليوم بكفره. وحتى يتمكن من السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وحتى تستمرّ له هذه السيطرة، راح يعمل على تسويق فكره بين المسلمين حتى يكون رأيه هو الرأي السائد، وجنّد من أجل ذلك كل وسائل إعلامه. فهو يعلم أنه متى نجح في ذلك ضمن أن يسير المسلمون في ركابه وتأمين مصالحه. أما من خالف الغرب من المسلمين، فعليه أن يتقبل رأيه كرأي آخر، ويرضى بوجوده، ويخضع لحكمه. أما من رفض اعتباره رأياً آخر، ورفض الفكر الغربي من حيث الأساس، ولم يشغل نفسه بالفروع، ولم يتلمّس القواسم المشتركة، ولم يرضَ الالتقاء مع الفكر الغربي في منتصف الطريق..، فهؤلاء ألصق بهم مختلف الاتهامات الزائفة بقصد تنفير الناس منهم، وإبعاد تأثيرهم عليهم؛ فصور للناس أنهم أصوليون، متطرفون، إرهابيون فكرياً، يقفون في وجه التطور والحداثة..، ويعيشون خارج التاريخ والحياة…

          هذا هو واقع ما يطرح. والغرب الكافر هو الذي يقف وراءه. فكيف يجب أن يتعامل المسلمون مع الرأي الآخر؟

          إن المسلم يؤمن بأن الله سبحانه هو الخالق العليم القدير الذي بيده ملكوت كل شيء، ويؤمن بأن من بيده الخلق يكون الأمر بيده والتصرف له. فالله الذي خلق هو الذي يعلم ما خلق، وهو الذي ينظم حياة البشر. لذلك فإن كل مسلم يؤمن بالله لا يجوز له أن يأخذ النظام من عند غير الله.

          أما إيمان المسلم بالله فهو إيمان صادر عن قناعة عقلية ويقين جازم، ويتطلب إعمال الفكر والنظر في آيات الله المخلوقة والمنـزلة. ففي موضوع الإيمان بالله الخالق المدبر، يجب على المسلم أن يَسمع الرأي الآخر، ويُسمع رأيه للآخرين من أجل الدعوة إلى الإيمان بالله. فيجب عليه أن يناقش الرأسمالية والعلمانية والنصرانية واليهودية والكونفوشية والبوذية.. وكل من يخالفه في الرأي وأن يدعم كلامه بالحجة والبرهان. قال تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) وقال تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) وقال تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع للمشركين أولاً، ثم يعرض ما عنده فيتلو عليهم القرآن.

          أما النظام فإن المسلم لا يجوز له أن يناقش الآخرين فيه ليقنعهم. وتفصيل ذلك أن المسلم لم يأخذ شريعته عن قناعة عقلية بكل حكم من أحكامها، بل أخذها باعتبار أنها من عند الله العليم الخبير، فأخْذُها كان سمعياً نقلياً، وهي فوق العقل أن يناقش بها. فالمسلم يصوم ويصلي ويزكي لأن الله أمره بذلك، وحدّد له كيفية القيام بذلك. والمسلم يعتبر أن لكل من الرجل والمرأة عورة يجب سترها، وأنه لا يجوز لهما الاختلاط والخلوة… باعتبار واحد وهو أن الله سبحانه هو الذي حدد له ذلك. وأنه لا يجوز له أن يأكل لحم الخنـزير والميتة والدم وما أهل به لغير الله… من غير أن يلتمس العلل العقلية لذلك. والمسلم يجري معاملاته جميعها من بيع وشراء ورهن وإنشاء شركات، وتنمية ملك، وإنفاق مال… بحسب الأحكام الشرعية والمسلم عليه أن يقيم الإسلام في حياته كلها فيعيش في رحاب دولة إسلامية تطبق عليه أنظمة الحياة من اقتصاد واجتماع وسياسة وجهاد لأن الله أمره بذلك…

          فكل ما هو حكم شرعي لا يجوز للمسلم أن يناقش به غير المسلمين ليقنعهم به، أو ليقتنع بما عندهم. بل عليه أن يدعوهم إلى الإيمان بالله ويناقشهم ويناقشوه فيه، ويحاول جاهداً أن يقنعهم بما عنده. فإن قبلوا الإيمان بالله قبلوا نظامه، وإن رفضوا الإيمان بالله رفضوا نظامه. فالطريقة التي أخذ المسلم نظامه الإسلامي هي نفسها الطريقة التي يدعو بها. من هنا فإنه لا يجوز للمسلم أن يناقش الآخرين في النظام ولا أن يعتبر أن الرأي الآخر المتعلق بالنظام قابل للمناقشة. قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) وقال تعالى: (ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً  بعيداً).

          هذا كله فيما بين المسلمين وغير المسلمين.  أما فيما بين المسلمين أنفسهم فإن العقيدة الإسلامية ليست موضوع نقاش واختلاف بينهم لأن أحكامها قطعية، بل هي موضوع تفكّر وتدبّر وتعمّق وتزكية حتى تقوى الصلة بالله ويتم الالتزام بشكل قويّ.

          أما فيما يتعلق بمناقشة الأحكام الشرعية فيما بين المسلمين فهذا جائز، بل هو مطلوب. فالمسلم عندما يتعامل مع النصوص الشرعية المتعلقة بالنظام فقد يتعامل مع نصوص قطعية لا تحتمل إلا معنىً واحداً فهذه لا يجوز الاحتلاف فيها. والحكم فيها هو حكم الإسلام. وقد يتعامل مع نصوص ظنية تحتاج إلى اجتهاد وقياس لفهم المراد، فهذه يجوز للمجتهدين أن يختلفوا فيها، وتتعدد آراؤهم، شرط أن تكون منضبطة بالأصول والضوابط الشرعية. وأن يعتبر كل مجتهد منهم أن ما توصل إليه هو حكم الله في حقه عليه أن يلتزم به. وأن ما توصل إليه الآخرون هو حكم شرعي بحقهم وعليهم أن يلتزموا به. وهو ينظر إلى فهم غيره أنه فهم إسلامي، وغيره ينظر إليه على أن فهمه هو فهم إسلامي. وهكذا تطبق فكرة «الرأي.. والرأي الآخر» على أروع ما يمكن أن تطبق، بين المسلمين، فيما يتعلق باستنباط الأحكام الشرعية. وتشكل عامل إثراء وإغناء للفكر الإسلامي المتعلق بالتشريع.

          هكذا يجب أن يتعامل المسلمون مع فكرة «الرأي الآخر». وعلى المسلمين، وخاصة العلماء منهم، أن ينتبهوا من مثل هذه الطروحات، وأن لا يقبلوها، وأن لا يندفعوا بحكم غيرتهم على الإسلام فيدافعون عنه بشكل مغلوط. فمن عادة الغرب أن يعكس الطروحات ويلبس الحقائق. فالغرب لا يريد أن يجعل العقيدة هي محل البحث لأنه يتعامل معها على أنها علاقة محصورة بين الإنسان وخالقه ولا تعلق لها بالحياة. وإنما يريد أن يسوّق نظامه، وأن يكون نظامه هو المطبّق، ولو طُعّم بالإسلام أو غُلّف بالإسلام، أو لُبّس بالإسلام. والانزلاق إلى طروحاته انزلاق إلى ما يريد.

          فليتنبَّه المسلمون إلى هذا الأمر جيداً، وليتمسكوا بدينهم، ويعضوا عليه بالنواجذ، فهو الحق، والحق وحده، وسواه ضلال (فماذا بعد الحق إلا الضلال).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *