العدد 158 -

السنة الرابعة عشرة _ كانون الأول 1421هــ _ حزيران 2000م

الصراع الدائر في سيراليون

          لقد كان الاستعمار الأوروبي هو المنتشر في إفريقيا، ولم تكن أميركا تتطلع باهتمام كبير للمشاركة في استعمار القارة، واستمر ذلك حتى نهاية الحرب الباردة، فبدأت أميركا، ليس فقط بمزاحمة الاستعمار الأوروبي أو مشاركته فيها، بل بإزالة النفوذ الأوروبي من القارة وأن يحل النفوذ الأميركي مكانه. وقد اتخذت لهذا الغرض أشكالاً متعددة من الأساليب العسكرية والسياسية، وما الصراع الدائر الآن في سيراليون إلا شكلاً من أشكال المزاحمة واستبدال المواقع. ومما جعل هذا الصراع في سيراليون يبرز بقوة، هو غنى هذه المستعمرة البريطانية السابقة، بالمصادر المعدنية الثمينة (الماس، خام التيتانيوم، البوكسيت، خام الحديد، الذهب، والكروم).

          وبِتَدَبُّر ما يجري، والتدقيق فيه، يظهر أن ما يجري ليس صراعاً محلياً بين حكومة الرئيس المنتخب أحمد تيجان كابا، والجبهة الثورية الموحدة بزعامة سنكوح، بل هي أبعد من ذلك، تبدأ وتنتهي في دوائر السياسة الأميركية والبريطانية، فالحكومة البريطانية تدعم الرئيس كابا وتعمل على القضاء على الجبهة وتقويض اتفاقية لومي للسلام التي كانت قد عقدت بين حكومة سيراليون والجبهة الثورية، ومن ثم ضرب النفوذ الأميركي في سيراليون، وتثبيت النفوذ البريطاني وتقويته.

          والمؤشرات التالية تدل على ذلك:

          1ـ  لقد خرقت بريطانيا الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على تزويد الأطراف المتنازعة في سيراليون بالسلاح، وقامت بريطانيا بتزويد الحكومة بالسلاح. وقد اعترف كابا باستلام شحنة من الأسلحة وقال إنها من طريق طرف ثالث تم ترتيبها مع شركة أسلحة بريطانية، واعترافه هذا أقوى من نفي الحكومة فيما بعد أنها لم تتلق أية أسلحة.

          2ـ  خلال الصراع السابق في سيراليون، والذي تدخلت فيه المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، بإرسال قوات تعدادها اثنا عشر ألفاً، أوكلت بريطانيا لعميلتها نيجريا الاشتراك بأكبر قوة عسكرية من هذه القوات، ليكون لها الدور الفاعل والمؤثر في ضبط الأمور في سيراليون بالشكل الذي تريده بريطانيا، وقد تم بالفعل إعادة الرئيس كابا للحكم ثانية بعد أن كان قد أطيح به في انقلاب كوروما سنة 1997.

          3ـ  وفي خطوة مفاجئة لأميركا، قامت بريطانيا، ومن طرف واحد، بإرسال قواتها إلى سيراليون، وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية ادعت أن مهمة قواتها هي إجلاء الرعايا البريطانيين ومواطني دول الكومنولث، وتقديم دعم لوجستي لقوات الأمم المتحدة، إلا أن ما يقوم به الجنود البريطانيون في سيراليون، قد كشف نواياهم الحقيقية المتمثلة في ضرب الجبهة ودعم حكومة الرئيس كابا، وقد ألمح لهذا الأمر، البريغادير دافيد ريشارد في مقابلة مع إذاعة سيراليون الديمقراطية بتاريخ 09/05/2000، وذلك عندما سئل عن التفويض المعطى من الأمم المتحدة للحكومة البريطانية في إرسال قواتها، فقال (هناك مباحثات حول ذلك، ولكن كوني شخصياً أحمل عاطفة قوية تجاه سيراليون وشعبها، وهكذا حكومتي، عليه فإن موضوع التفويض ليس أمراً بالغ الأهمية ويمكن التساهل فيه كما يمكن فهم تحركنا قبل الانتهاء من بحثه) وعلى كل حال، فإن بريطانيا اغتنمت فرصة انهيار قوات الأمم المتحدة نتيجة خطف عدد من عناصرها من قبل الثوار، ثم أرسلت قواتها، وهي سيكون لها موقف عسكري تجاه الجبهة الثورية يؤدي للاشتباك وتقويض اتفاقية لومي للسلام، وهذا يفسر زيارة رئيس هيئة الدفاع البريطاني شارلس كثري إلى سيراليون التي سيتم من خلالها تقوييم الوضع ودعم القتال ضد الجبهة الثورية.

          هذه هي سياسة بريطانيا في الصراع الدائر، دعم حكومة الرئيس كابا، وضرب الجبهة وإضعافها، وتقويض اتفاقية لومي للسلام، وبالتالي تثبيت نفوذ بريطانيا وتقويته في سيراليون.

          أما سياسة أميركا فهي غير ذلك تماماً، إنها تقوية الجبهة وإظهارها كشريك فعلي للسلطة مع الحكومة، وتطبيق اتفاقية لومي لأنها نصت على المشاركة في السلطة. ومن خلال ذلك، الهيمنة الفعلية الأميركية على النفوذ في سيراليون وإزالة النفوذ البريطاني منها.

          والمؤشرات التالية تدل على ذلك:

          1ـ  إن الجبهة تُدعم بشكل واضح من قبل ليبريا، كما أن رئيس ليبريا شارلس تايلور، الذي قاد سابقاً حرب السبع سنين الليبرية والتي انتهت بانتخابات 1997، هذا الرئيس معروف بعلاقته الجيدة مع قيادة الجبهة، وبدعمه المتواصل لها، كما أن رئيس ليبريا على علاقة متينة بأميركا وقد ربط ليبريا بالعمالة لأميركا، وكل دعم الجبهة اللوجستي والعسكري هو من هذه الدولة المجاورة، ليبريا، ولقد استطاعت أميركا وعميلتها ليبريا أن تجند أعداداً من جيش سيراليون، وقد انكشف ذلك بوضوح عندما نجح ضابط مغمور اسمه كوروما في عمل انقلاب أطاح بحكومة الرئيس المنتخب أحمد تيجان كوبا، ثم استولى كوروما على السلطة في 1997 وكوَّن مجلساً سياسياً حاكماً لسيراليون، بالتحالف مع جبهة سنكوح الثورية الموحدة بالإضافة إلى بعض الضباط العسكريين الآخرين، واستمر ذلك المجلس حاكماً مدة عشرة شهور إلى أن استطاعت قوات التدخل لدول غرب إفريقيا المعروفة بمجموعة المراقبة العسكرية للمنظومة الاقتصادية، والتي كانت نيجيريا مساهمة بحصة الأسد فيها، استطاعت أن تطيح بنظام كوروما في 1998 وإعادة كابا إلى السلطة.

          2ـ  لقد دعمت أميركا اتفاقية السلام التي عقدت بين كابا بعد رجوعه للسلطة وبين سنكوح، في 7 تموز 99، وقد عقدت الاتفاقية في لومي، عاصمة توغو، وقد أنهت رسمياً الحرب الأهلية التي دارت ثماني سنوات وقد نصت الاتفاقية على تقاسم للسلطة بين الحكومة والجبهة، وتضمنت شروطاً مثيرة للجدل كما تضمنت عفواً عن جرائم الحرب. وقد صممت الاتفاقية بطريقة تجعل النـزاع حول المصالح والصلاحيات والمنافع، قابلاً للاشتعال في أي وقت. وهذا ما نشهده الآن. فقد نصت على بقاء كابا رئيساً لسيراليون، وأن يكون سنكوح رئيس اللجنة الوطنية للمعادن برتبة نائب رئيس. ومعنى ذلك أن تكون السلطة على الثروة المعدنية للبلد في يد الجبهة، وهذا ما كانت تخطط له أميركا، ليتيح لها ذلك، استثمار هذه الثروة وبناء جذور راسخة تؤدي إلى إزالة النفوذ البريطاني بالكامل من سيراليون.

          3ـ  تُصرُّ أميركا على تطبيق اتفاقية لومي، وقد صرح بهذا الناطق الرسمي لدائرة العمليات الأميركية، فيليب ريكر حيث قال (إن اتفاقية لومي هي أفضل ما أنجز بالمقارنة مع أية اتفاقية أخرى. ونحن نتطلع إلى تفعيل اتفاقية لومي وحث الفرقاء لتطبيقها بنشاط، ولا نزال نعمل لتحقيق ذلك) كما أن إدارة كلينتون سترسل السناتور جيس جاكسون كمندوب رسمي للولايات المتحدة في 25/05/2000 وذلك لحث الفرقاء على السير في العملية السلمية.

          4ـ  وقد تبنت الإدارة الأميركية اساليب اقتصادية معينة لإيجاد رأي عام في سيراليون لتأييد تدخل الولايات المتحدة. وكالعادة فإن أميركا تستخدم صندوق النقد الدولي في مثل هذه الأغراض، بحجة إعادة هيكلة الاقتصاد. ولقد صرحت أولبرايت وزيرة خارجية أميركا، بأنها ستعمل على شطب مبلغ 65 مليون دولار كدين لصندوق النقد الدولي على سيراليون، وكذلك ستستمر الولايات المتحدة كأكبر داعم ومقدم للمساعدات الخيرية لسيراليون بالإضافة إلى تخصيص 55 مليون دولار إضافية لمساعدة الأشخاص الذين رحِّلوا من ديارهم، ليعودوا إلى بلادهم وتأهيلهم للحياة العادية، وكذلك دمج المحاربين القدامى في المجتمع للعيش بحياة كريمة).

          وهكذ فإن الصراع الدائر في سيراليون تمسك بخيوطه القوى الاستعمارية في تزاحم وتنافس لبسط النفوذ في القارة الإفريقية الغنية بثرواتها، وما يدور في سيراليون واحد من الأمثلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *