العدد 157 -

السنة الرابعة عشرة _ صفر 1421هــ _ أيار 2000م

السنة التاسعة للهجرة ـ سنة الوفود

          بعد فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وبعد غزوة تبوك في رجب من السنة التاسعة، أصبجت الدولة الإسلامية قوة يحسب لها كل الحساب، ففي الجزيرة العربية، زال العائق الأساس الذي كان يمنع العرب دخول الإسلام، حيث كان العرب في الجزيرة يتأثرون بموقف قريش تجاه الدعوة الإسلامية لوزنها المادي والمعنوي، بسبب البيت الحرام، الذي كان العرب يحترمونه ويقدسونه، والموجود في مكة حاضرة قريش. فلما فتحت مكة زال هذا العائق.

          هذا من حيث الوضع الداخلي في الجزيرة، وأما الوضع الخارجي، فبعد غزوة تبوك التي قادها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لغزو الروم، حيث نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإدخال الرعب في قلوبهم، فانسحبوا إلى داخل بلاد الشام ليحتموا بحصونهم، كل ذلك جعل الدولة الإسلامية الناشئة، ذات وزن وأي وزن، في نظر الدول الكبرى آنذاك.

          هذا الوضع الذي هيأه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وغزوه تبوك، جعل وفود العرب تضرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل وجه، وتدخل في دين الله أفواجاً، كما قال سبحانه: (إذا جاء نصر الله والفتحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً).

          وقد سميت تلك السنة، التاسعة من الهجرة، سنة الوفود. وسنذكر هنا بعض تلك الوفود وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم تجاهها، لنتعرف على الأحكام الشرعية المستنبطة من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله، مع تلك الوفود.

==============================

أولاً: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقدمه من تبوك في رمضان، رسولُ ملوك حمير، الحارث بن عبد كُلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيلُ ذي رُعين ومعافر وهمدان، وحمَّلوا رسولهم كتاباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمونه فيه أنهم أسلموا وقتلوا المشركين. وكذلك بعث زرعة ذويزن، أحد ملوك حمير، رسوله مالك بن مرة الرهاوي، يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم أسلموا وفارقوا الشرك وأهله.

          فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك حمير المذكورين كتاباً يقول فيه: (… أنبأنا رسولكم بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم الرسول وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة ـ ثم فصَّل الرسول صلى الله عليه وسلم الزكاة على الزروع والأنعام ـ وقال صلوات الله وسلامه عليه، ومن أدى ذلك، وأشهد على إسلامه، وظاهر المؤمنين على المشركين، فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم ـ ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم ـ أحكام الجزية على أهل الذمة ـ وقال صلى الله عليه وسلم، فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله).

          وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زرعه ذي يزن كتاباً قال فيه: (… وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وأبلغوها رسلي… ولا تخونوا ولا تخاذلوا… إلى آخر الكتاب).

          من ذلك يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطالب من يسلم، بتنفيذ أحكام الإسلام منذ بدء إسلامه، دون إمهاله مهلة، وإعفائه من بعضها برهة، فلا تدريج في تنفيذ الأحكام، ولا تجزئة في تنفيذ بعضها دون بعض (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب).

ثانياً: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك في رمضان، وفد ثقيف، واشترطوا لإسلامهم في أول الأمر، أن يدع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، صنمهم اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى. ثم سألوه صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لا خير في دين لا صلاة فيه، ثم سألوه أن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم. فقال صلوات الله وسلامه عليه سنعفيكم منه.

          يتبين من ذلك، أنَّ ما كان من العقيدة، أو الفروض من الأحكام الشرعية، فإن الإيمان به أو أداءه، حتمي، لا يصح التهاون فيه أو اللين، أو الحلول الوسط، فالإسلام لا يقبل المساومة في عقيدته وأحكامه، ولا يقبل التدريج في تطبيقها، بل إذا أسلم المرء طولب بالعقيدة كلها والأحكام الشرعية جميعها على وجهها، كما ذكرنا في موضوع ملوك حمير. فالإسلام مطلوب كله دون تجزئة، ودون اشتراك أو اختلاط مع غيره. لقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما، أن الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) تعني ادخلوا في الإسلام كله وأنها نزلت في بعض من أسلم من يهود، وكان يريد الحفاظ على بعض الأحكام من يهوديته السابقة، كتعظيم السبت وغيره، فنـزلت الآية تخاطب الذين يدخلون في الإسلام ويؤمنون، أنَّ عليهم الدخول في الإسلام كله، فلا يبقون شيئاً من الشرائع الأخرى أو العبادات السابقة.

          ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل من وفد ثقيف إلا أن يدخلوا في الإسلام دخولاً كاملاً فأبى أن يدع لهم شيئاً من أمور الجاهلية وطالبهم بالإسلام كله، لكنه صلى الله عليه وسلم في غير العقيدة، والفروض من الأحكام، لم يلزمهم، وهكذا ترك لهم أن يهدموا الصنم، إما هم وإما غيرهم.

ثالثاً: بعث بنو سعد بن بكر، ضِمام بن ثعلبة، وافداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أناخ بعيره على باب المسجد وعقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، فقال أيكم ابن عبد المطلب؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ابن عبد المطلب قال أمحمد؟ قال نعم، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستوثقاً من نبوته وما أنزل عليه من أحكام، ثم أسلم، وخرج حتى قدم على قومه، وأعلمهم بإسلامه، فما أمسى من ذلك اليوم، في حيِّه، رجل ولا امرأة، إلا مسلماً. يقول عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.

          يتبين من وقوف ضمام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم، دون أن يعرف من هو منهم الرسول يتبين أن هيآتهم في لباسهم كانت واحدة، رسولهم وفقيههم، عالمهم ومتعلمهم، فلا لباس مخصوص للعالم أو المجتهد أو الفقيه في الإسلام بل له أن يلبس ما يشاء من المباحات، ولغيره أن يلبس لباس ذلك العالم او المجتهد، وليس في الإسلام زي خاص لطبقة دينية، كما في الأديان الأخرى، ولا مزيَّة لأحد في تطبيق الأحكام، بل الكل سواء أكرمهم أتقاهم، فلا رجال دين ورجال دولة في الإسلام، بل يقضي الإسلام على كل ما يشعر بذلك، من زي خاص أو مزايا خاصة، فخليفة المسلمين يرعى شؤونهم، ويقود جيوشهم، ويؤمهم في صلاتهم، ويطبق عليهم حدود الله وأحكامه، ٍلا فرق بين حكم وحكم ولا بين واجب وواجب، ولا بين مكلف ومكلف في الطلب والأداء، على الوجه الذي بينه الشرع في أدلة كثيرة مستفيضة.

رابعاً: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلال تلك السنة، عدي بن حاتم يقول (… خرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال من الرجل؟ فقلت عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلاً، تكلمه في حاجتها، قال، قلت في نفسي، والله ما هذا بملك… إلى أن يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، قال فأسلمت) وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة، ليفيضنَّ المال حتى لا يوجد من يأخذه.

          هكذا عز الإسلام، وهكذا نصر الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، وهو كذلك لعباده المخلصين الصادقين، الذين يعملون لإعادة مجد الإسلام، بإقامة دولته من جديد، دولة الخلافة الراشدة، وسيعود هذا الدين عزيزاً قوياً كما كان، السيادة له في الأرض، والسلطان الأقوى لأهله، فوعد الله ليس لرسوله فحسب، بل للمؤمنين كذلك، وهو ليس رضواناً ونعيماً في الآخرة فحسب، بل عزاً في الدنيا ونصراً، أيضاً (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *