العدد 157 -

السنة الرابعة عشرة _ صفر 1421هــ _ أيار 2000م

يجـب أن نلـوم أنفسـنا

بقلم: المهندس ناصر

          لقد أكرمنا الله عز وجل بالإسلام وحمل دعوته، وإننا كحملة دعوة نقوم بهذا العمل ابتغاء وجهه، خالصاً لله عز وجل لا نريد جزاءً ولا شكوراً، التزاماً بطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستجابة لأمر الله: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).

          إن حمل الدعوة هو أشرف عمل يقوم به المسلم، وهو أعظم مصدر لجني الحسنات، ونوال الدرجات والمنازل، فلا يصح أن يطمع بذلك من أراده بعمل سهل، وجهد بسيط، وأمن وأمان، فحمل الدعوة لا يعني التفوه بالكلام والتنظير وحسب، حتى إذا اهتزت له عصا، أو تعرض للأذى، أو سمع الإشاعة عن الدعوة، أو سمع التهديدات، أو قرأ الأقاويل الباطلة، أو تعارضت الدعوة مع مصالحه، أو وجد صداً من أهله، أو من الناس، أو حرباً من الأحزاب والجماعات، أو اضطهاداً من الحكام وأجهزتهم، انكفأ على وجهه، ونكص على عقبيه، وضعف عن حمل تلك الرسالة، وكسل وتكاسل وأصيب بالإحباط ويئس وملّ حمل هذه الدعوة، فخسر الحسنات، وكتبت عليه السيئات، وباء بغضب من الله عز وجل.

          قال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)محمد 31.

          وعلى هذا فإن حامل الدعوة يجب أن يعرف منذ اللحظة الأولى أنه مقدم على مجابهة الباطل وأهله، وعلى مجابهة الحكام وملَئهم، ومتعرض للصد عنها من قبل الناس والحركات والأحزاب والأهل، إن حمل الدعوة واجب، والقيام به واجب لا شك فيه، والثبات عليه واجب أيضاً، والضعف عن حملها غير جائز، والكفار يعملون ليلاً ونهاراً لإضعافنا وصدنا عنها بكل أساليبهم ووسائلهم الخبيثة.

          قال تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا…).

          إن الضعف هو خلاف القوة، ولا يجوز أن يتسرب إلى حامل الدعوة، ولقد بين لنا القرآن الكريم أن العامل الأساسي في الضعف هو الإنسان نفسه في كثير من الآيات، يقول الحق سبحانه وتعالى: (… أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم…). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولينـزعن الله المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا يا رسول الله وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» هذا الحديث يخبرنا عن سنة من سنن الجماعة، تبين ما تنتهي إليه حين تفسد عقليتها، وتملأ الدنيا قلوب أفرادها، فالأسباب الحقيقية لكل إحباط هي داخلية وليست خارجية.

          والقرآن الكريم يهدي إلى هذه السنة، ويبين للناس أن تأخر الأمم وانحطاطها، وما يقع عليها من ظلم واضطهاد مرجعه إلى عدم تمسك الإنسان بالمبدأ، أي أن الإنسان نفسه هو السبب وما كسبت يداه، لذلك نجد التعبير بظلم النفس يتكرر في مواطن كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) وفي الحديث القدسي «… فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه…». وفي الآية الكريمة: (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم…) فيجب على حملة الدعوة أن يقفوا أمام هذه الحقيقة. لقد قامت الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية والحكم بما أنزل عن طريق إقامة الخلافة، وإخراج العالم من الجاهلية إلى الإسلام، وكانت نقطة الابتداء لإيجاد الكتلة، ثم أعقبتها نقطة الانطلاق بما فيها من الفتنة والابتلاء، وكما حدث أول مرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام… فكذلك يحدث… أناس يفتنون ويرتدون ويضعفون، وأناس يصدقون ما عاهدوا الله عليه ويقضون نحبهم ويموتون شهداء في السجون وتحت التعذيب، … يصبرون ويصابرون ويصرون على دعوتهم ويكرهون الرجوع عنها أو العودة إلى الجاهلية كما يكرهون أن يلقوا في النار، حتى يحكم الله بينهم وبين قومهم بالحق، ويمكّن لهم في الأرض كما مكن للمسلمين أول مرة، فتقوم على أرص الله دولة الخلافة ويقام نظام الإسلام. وشتان بين الفريقين، اناس ضعفاء في خسران مبين، وأناس أقوياء في فوز عظيم.

          إن الضعف ليس عذراً بل هو الهروب من حمل الدعوة، فالقوة المادية لا تملك أن تستعبد حامل الدعوة الذي يتمسك بعقيدته، ولا تملك إلا إيذاء الجسد وتعذيبه وتكبيله وحبسه فقط، ومتى آمن القلب بالقضية، بالغاية، فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات الدنيا قال تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين)التوبة 24 ويحصل الضعف عند حامل الدعوة، بسبب تقديمه المال والأهل على الدعوة، وبسبب ما يشاع عن أفعال المخابرات، وبسبب ما يقوم به الطواغيت من تعذيب وإذلال، ويكون حامل الدعوة إما مخدوعاً بذلك أو خائفاً، والخداع يأتي من الحكام بأساليب ووسائل مختلفة، وكذلك من الكافر المستعمر، والضعف ناتج عن الخوف، والخوف لا ينبعث إلا من الوهم، والوهم متى ما أصاب حامل الدعوة يضعف، وبعدها لا يستطيع أن يقوم بالالتزامات الدعوية، ويأتي بأعذار وتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان. والأصل في المسلم أن يكون قوياً وعزيزاً غير مهان (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) إن حامل الدعوة ينبغي أن يكون راسخاً ثابتاً لا تهزمه في الأرض قوة، وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، وإذا جاز أن تنال هذا القلب هزة، وهو يواجه الواقع الفاسد فإن هذه الهزة لا يجوز أن تكون هزيمة وفراراً، والآجال بيد الله، والأرزاق بيد الله، وما كتبه الله لنا لا بد منه، فلا يجوز أن يولي المؤمن خوفاً على الحياة أو على المال أو الأهل أو النفس، فالمؤمن لا يخشى إلا الله (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).

          (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون). ويوجد دائماً بين حملة الدعوة فئة تتقي الأخطار، وتنفذ من خلال الأسوار، وتتقن استخدام الأعذار ولا تجعل الدعوة مركز تنبهها، وتدور من خلف الدعوة، والخوف على الأهل مثبط عن حمل الدعوة، فحب الأهل مظهر من مظاهر غريزة النوع، وهي حقيقة عميقة في الحياة البشرية (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم). وكثيراً ما يكون الأهل دافعاً للتقصير والضعف عند حامل الدعوة، اتقاءً للمتاعب التي تحيط بهم لو قام بواجبه فلقي ما لقي الصحابة الكرام، وتعرض لخسارة الكثير من المال والأهل، وقد يتحمل العنت في نفسه ولا يتحمله في زوجه وولده فيكونوا عدواً له، لأنهم صدوه عن الخير وعوقوه عن تحقيق الغاية، كما أنهم قد يقفون له بالطريق يمنعونه من النهوض بواجبه كحامل دعوة، اتقاءً لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز عن المفاصلة والتجرد لله فيضعف، لذلك اقتضى الأمرُ التحذيرَ من ذلك لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا والحذر من تسلل هذه المشاعر وضغط تلك المؤثرات.

          إن حاملي الدعوة إلى الإسلام لا بد أن يتنبهوا لهذه الأمور، حتى يمكن أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الكفر، هذا هو الطريق ولا بد من القوة وترك الضعف، وحامل الدعوة معرض للتمحيص والاختبار والابتلاء والفتنة، والله يحذرنا أن لا نكون مثل الكفار، أولئك الذين تصيبهم الحسرات كلما مات قريب لهم في المعركة (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم…)آل عمران 156. وكذلك لا نقول مثل ما قال المنافقون كما صورهم الله في القرآن (لو أطاعونا ما قتلوا، قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)آل عمران 168.

          ومن عادة الضعيف أن يلقي أسباب ضعفه على عوامل خارجية، يدعي أنه لا يملك التصرف  فيها ليسوغ لنفسه ولغيره ما هو فيه، ولقد تعودنا أن نفعل ذلك، وأن نلقي تبعات ما نحن فيه من ضعف وتقصير على غيرنا، وكما هو حاصل في المسلمين اليوم، فقد ألقوا تبعات ضعفهم على:

  1. الاستعمار وتكالب الأمم علينا.

  2. الماضي، وما حدث فيه من فتن للمسلمين.

  3. الواقع الفاسد، وما فيه من حكام ظلمة وأفكار مختلفة ما أنزل الله بها من سلطان.

          ولم يخطر ببالهم أنهم هم الضعفاء ولم يهتموا بأنفسهم وضعفهم.

          فيجب أن لا نلوم العواصف حين تحطم شجرة نخرة، بل نلوم الشجرة النخرة نفسها، ونلوم من يتعهدها، لما صارت نخرة، لماذا لم يعتن بها؟ لماذا لم يتعهدها؟ لماذا لم يسقها؟ لماذا ترك الدود ينخر جذرها؟ وهكذا على حملة الدعوة ألا يكتفوا بلوم الكافر المستعمر، بل يلوموا الأمة، ويلوموا أنفسهم، ويلوموا ضعفهم في حمل الدعوة إلى الأمة، والغرب يعمل بكل قواه في الأمة وينخر فيها نخراً، والأمة لا مبالية بذلك، ويجب على حملة الدعوة أن يحيوا العقيدة في الأمة، وعندما تشعر قوى الكفر (الغرب، الحكام، المنافقون…) بأن حملة الدعوة أقوياء في عقيدتهم وأفكارهم وثباتهم وتضحياتهم، فإنهم سرعان ما ينهزمون أمام أولئك الأبطال، ولنا قدوة في حملة الدعوة في أوزبكستان، فقد وقفوا وقفة الرجال أمام الحاكم الجائر الكافر، ولم يستطع بكل قواه أن يردهم عن دعوتهم، ولم تفلح حيله وأجهزته في صد الشباب والشابات عن حمل الرسالة، ولم يضعف أولئك المؤمنون، لقد كانت الجنة نصب أعينهم قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)البقرة 214.

          وليعلم حملة الدعوة أننا في سباق مع الكفر وأهله، فهم يغزون بلادنا بكل ما أوتوا من قوة، ومن أساليب ومخططات وأفكار وجمعيات ومراكز وندوات ومؤتمرات…الخ. وإن واقع الأمة يدفعنا إلى التغيير وإلى الاتصال بالأمة لإخراجها من الظلمات إلى النور.

          وبالتالي فالضعف ليس عذراً، بل هو الهروب من حمل الدعوة وتحمل أخطارها، فلا نلوم إلا أنفسنا ولا نلوم إلا ضعفنا وتقصيرنا (ولوموا أنفسكم…).

          والضعف هو أساس الاستضعاف، فيقال “وجده ضعيفاً فركبه بسوء” لسان العرب (ج8). فعندما يكون الإنسان ضعيفاً، فإن كل القوى تستضعفه، ولذلك لا بد أن نكون أقوياء، قال تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربِّيُّون كثيرٌ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحبُّ الصابرين؛ وما كان قولَهم إلا أن قالوا ربَّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فآتاهُمُ الله ثوابَ الدنيا وحُسن ثواب الآخرة والله يحبُّ المحسنين)آل عمران 146ـ 148.

          والقوة لا تأتي إلا من العقيدة، من الإيمان، لأن المؤمن القوي في إيمانه وفكره ونفسيته، لا تستطيع كل قوى الأرض أن تسضعفه، والاستضعاف ليس عذراً، فالله عز وجل وصف المستضعفين بالظالمين، ووصف عملهم بالتبعية ووصفهم بأنهم في نار جهنم، وسيكون المستكبر والمستضعف في النار، لذلك لا يجوز أن يكون الاستضعاف من قبل أعداء الله هروباً من حمل الدعوة، ولقد بدأ الله الحوار بالأتباع، قال تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين. قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له انداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون)سبأ 31ـ33.

          وقال تعالى: (وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)إبراهيم 21.

          وقال تعالى: (وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار. قال الذين استكبروا إنا كلٌّ فيها إن الله قد حكم بين العباد)غافر 47.

          ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته القدوة الحسنة في التضحية والقوة، لقد لقوا الكثير من الشدائد والأذى، وما قام به كفار قريش لم يصدهم عن دعوتهم، ولم يَثنهم عن حملها، فأين نحن مما لقيه أبو بكر ومصعب وبلال وعمار وياسر وسمية وعبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنهم أجمعين.

          أخرج البيهقي وابن عساكر عن أبي رافع قال: وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً إلى الروم وفيه رجل يقال له عبد الله ابن حذافة السهمي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأسره الروم فذهبوا به إلى ملكهم فقالوا له: إن هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال له الطاغية: هل لك أن تتنصر وأشركك في ملكي وسلطاني؟ فقال له عبد الله: لو أعطيتني ما تملك وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت. قال: إذاً أقتلك. قال: أنت وذاك فأمر به فصلب، وقال للرماة: إرموه قريباً من يديه، قريباً من رجليه وهو يعرض عليه، وهو يأبى، ثم أمر به فأنزل ثم دعا بقدر فصب فيها ماء حتى احترقت، ثم دعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم أمر بالآخر أن يلقى فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، فلما ذهبوا به بكى، فقيل له: إنه قد بكى، فظن أنه قد جزع فقال: ردوه فعرض عليه النصرانية، فأبى فقال: وما أبكاك إذاً؟ قال أبكاني أني قلت في نفسي تلقى الساعة في هذا القدر فتذهب فكنت أشتهي أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفسٌ تلقى في الله، قال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ قال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: وعن جميع أسارى المسلمين، قال عبد الله فقلت في نفسي: عدو من أعداء الله أقبل رأسه يخلي عني وعن أسارى المسلمين لا أبالي.

          فدنا منه فقبل رأسه فدفع إليه الأسارى، فقدم بهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخبر عمر بخبره، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ، فقام عمر فقبل رأسه، وقبل المسلمون رأسه” أخرجه في كنـز العمال ومجمع الزوائد.

          فلنتدبر هذا الأمر، كيف يسمو المؤمن بعقيدته ودعوته، فوق العذاب والقتل، ويتمنّى أن تكون له عدة أنفس يضحي بها في سبيل الله.

          فلا بد أن نلوم أنفسنا إذا كنا مستهترين أو لا مبالين، أو غير جادين في حمل هذه الدعوة، ولا نجعل لرضى الناس أو غضبهم أية قيمة، ما دام الله راضياً عنا، وكل واحد منا على ثغرة من ثغر الإسلام، فلا يؤتينَّ من قبله، فالرسول صلى الله عليه وسلم تعذب في الطائف حتى أدميت قدماه، وأثناء رجوعه أخذ يدعو بهذا الدعاء، طالباً القوة والعون من الله؛ عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قائلاً: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظالمات، وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة من أن تنـزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك». ابن هشام في السيرة والطبراني في المعجم الكبير…؛ فيجب على حامل الدعوة أن يردد «إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي…»، «من أن تنـزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى…».

          وأن يربط الأسباب بمسبباتها، ثم بعد ذلك يترك الأمر لله عز وجل، فهو الناصر والوارث والمنان، وإن شاء الله سيمن الله علينا بإقامة الخلافة وحكم العالم، ويمن على الذين استضعفوا ولم يضعفوا، قال تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين @ ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)القصص 5.

          وقال تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارقَ الأرض ومغاربَها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون)الأعراف 137.

          وقال صلى الله عليه وسلم: «… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» رواه أحمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *