الجهـاد من خلال النصوص الشرعية
2000/04/07م
المقالات
2,867 زيارة
أـ الجهاد في الوضع اللغوي:
«الجهاد» مصدر الفعل الرباعي: جَاهَدَ، على وزن «فِعال» بمعنى «المفاعلة» من طرفين. مثل الخِصَام بمعنى المُخَاصَمَة مصدر «خاصم». والجدال بمعنى المجادلة، مصدر «جادل»، والفعل الثلاثي للكلمة هو «جَهِد». ويضبط صاحب القاموس المصدر الثلاثي ومعناه فيقول: «الجَهد: الطاقة، ويُضَمُّ، والمشقة» وفي لسان العرب: «قيل: الجَهد «بالفتح» المشقة، والجُهد «بالضمّ» الطاقة، وفيه: الجهاد: استِفرَاغُ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل».
ويقول صاحب المُنجد: «جاهَدَ مُجَاهدةً وجهاداً: بذل وُسعَه، والأصل: بذل كل منهما جهده في دَفعِ صاحبه» وفي شرح القسطلاني على صحيح البخاري: «الجهادُ بكسر الجيم، مصدر جاهدت العدوَّ مجاهدةً، وجهاداً، وأصله: جيهاداً، كقيتالاً، فخُفِّف بحذف الياء، وهو مشتق من الجَهد، بفتح الجيم، وهو التعب، والمشقة، لما فيه من ارتكابها، أو من الجُهد بالضم، وهو الطاقة، لأن كل واحدٍ منهما بذل طاقته في دفع صاحبه» وفي تفسير النيسابوري: «والصحيح أنَّ الجهاد: بذل المجهود في حصول المقصود».
وبعد هذه النقول حول المعنى اللغوي لكلمة «الجهاد». نستطيع أن نضع تعريفاً لغوياً، يكون هو الحقيقة اللغوية للفظ «الجهاد» فنقول:
«الجهاد: هو استفراغ الوسع في المُدَافَعَةِ بين طرفين ولو تقديراً». ونعني بالتقدير: جهاد الإنسان لنفسه، بتقدير أن الإنسان يشتمل على طرفين في نفسه حين تتصارع فيها رغبتان متناقضتان، كلٌّ تجاهد في سبيل الغلبة على الأخرى. وهذا التعريف جمعنا فيه بين ما جاء في «لسان العرب» و«شرح القسطلاني»، وأضفنا إليه «ولو تقديراً» زيادة في الإيضاح.
وبناءً على هذا التعريف اللغوي: قد يكون الوسع المبذول فعلاً مادياً بسلاح، أو بغير سلاح، وبدفع مال، أو بعير مال. ـ وقد يكون قولاً ـ وقد يكون بالامتناع عن الفعل، والقول، كمن يمتنع عن طاعة والديه فيما يأمرانه به من معصية، ويصبرُ على إلحاحِهما في طلب ذلك منه، وكمن يعفُّ عن إشباع شهوة حرام وقد نازعته نفسه إليها. وفي هذا ما جاء في حاشية الجَمَل على الجلالين: «الجهادُ: هو الصبر على الشِّدة، وقد يكون في الحرب، وقد يكون في النفس».
وبناءً على هذا التعريف اللغوي أيضاً:
قد يكون الطَرَفُ الآخر الذي يجاهده المسلم هو النفس، أو الشيطان، أو الفساق، أو الكفار.
وبهذا المعنى اللغوي أيضاً قد يكون الجهاد في سبيل الله، كجهاد المسلم ابتغاء مرضاة الله، وقد يكون الجهاد في سبيل الشيطان كجهاد الكفار لغيرهم، لأن الجهاد ـ كما يقول النيسابوري ـ: بذل المجهود في حصول المقصود» بغض النظر عن طبيعة المقصود الذي يستهدفه صاحب الجهد المبذول. وقد استعمل القرآن فعل «الجهاد» في وصف نشاط الكفار من الآباء، لصرف المؤمنين من أبنائهم عن الإيمان: قال الله تعالى: (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، إلي مرجعكم…)، وقوله: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً…) الآية.
ب ـ الجهاد في الوضع الشرعي:
إن لفظ «الجهاد» نقله الشرع في الكتاب والسنة من مَعنَاه اللغوي العام ـ كما سلف ـ وقَصَره على معنى خاص هو: «بَذلُ الوُسع في القتال في سبيل الله، مباشَرَةً، أو مُعَاونَةً بمالٍ، أو رأيٍ، أو تكثير سواد، أو غير ذلك…» ويبدو أن هذا المعنى الخاص للجهاد، إنما كان في «المدينة»، أما في «مكة» فلم يكن تشريع الجهاد قد أُنزِل بَعدُ، ولهذا، فإن مادة «الجهاد» في الآيات المكية تدل على معناها في الوضع اللغوي العام. وهي ثلاث آيات في سورة العنكبوت: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه…) الآية، (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما…) الآية، (والذين جاهدوا فينا لَنَهدِينَّهم سبلنا…) الآية.
وفي سورة لقمان المكية آية واحدة، هي: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما…) الآية، وأما آية الجهاد في سورة النحل المكية فقد تضمنت ذكر الهجرة ما يدل على أنها آية مدنية ضمن سورة مكية، وهذا ما ذكره المفسرون، والآية هي: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا، ثم جاهدوا، وصبروا، إن ربك من بعدها لغفور رحيم).
وأما مادة «الجهاد» في الآيات المدنية فبلغت «26» كلمة وأكثرها يدل دلالة واضحة على معنى القتال، فمن ذلك في سورة النساء (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً) وواضح في هذه الآية كون «الجهاد» بمعنى الخروج للقتال، وتفضيله على القعود وعدم الخروج، ومن ذلك في سورة التوبة الآيات التالية: (إنفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)، والأمر بالجهاد بعد الأمر بالنفر ـ الذي هو الخروج ـ يعني أن الجهاد هو القتال، وما إليه… (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)، (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون)، ومن ذلك أيضاً ما جاء في سورة الصف بعد ذكر القتال في مطالعها (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص)… بعد ذلك تأتي الآيتان (10) و(11) ترغبان في هذا القتال باسم «الجهاد»: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
هذا فيما يتصل بمادة «الجهاد» في الآيات المدنية، ونرى فيها بوضوح أنها تدل على القتال خاصة ـ مع ما يستلزمه القتال بطبيعة الحال من بذل للمال الذي لا بد منه للحصول على أدوات القتال أو السير إليه، وتقديم شرط مشروعيته عليه، وهو تبليغ الدعوة للكفار؛ «لأن هذا [أي، تبليغهم الدعوة] شرط لأصل القتال»، كما جاء في مغني المحتاج(1).
هذا، وقد جاء في السنة النبوية لفظ «الجهاد» بهذا المعنى الشرعي أيضاً، وهو القتال وما يمت إليه. عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، أخبرنا بعمل يَعدِل الجهادَ في سبيل الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تطيقونه، قالوا: يا رسول الله: أخبرنا فلعلنا أن نطيقه، قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صدقة حتى يرجع المجاهد إلى أهله» وواضح من سياق الحديث أن السؤال كان عن المجاهد ـ بمعنى المقاتل في سبيل الله خاصة ـ والجواب دل على هذا المعنى أيضاً بقوله: حتى يرجع المجاهد إلى أهله، أي يرجع من القتال. وعن جابر قالوا: يا رسول الله: أيُّ الجهاد أفضل؟ قال من عُقِرَ جَوادُه وأُهرِق دَمُه! وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأُحُد جَعَل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، تَرِدُ أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتسرح في الجنة حيث شاءت فلما رأوا حُسنَ مَقِيلهم ومَطعَمِهم ومشربهم قالوا: يا ليت قومَنا يعلمون ما صنع الله لنا كي يرغبوا في الجهاد، ولا يَنكُلوا عنه قال الله تعالى: فإني مُخبِرٌ عنكم، ومُبلِّغٌ إخوانكم ففرحوا واستبشروا بذلك، فذلك قوله تعالى: (ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياءٌ عند ربهم يُرزَقون…) إلى قوله تعالى: (وأَنَّ الله لا يضِيع أجر المؤمنين).
وهكذا يتضح لنا من هذه النصوص الشرعية وكثير مثلها أنَّ «الشرع» نَقَل لفظ «الجهاد» من المعنى اللغوي العام إلى معنى خاص، وهو القتال في سبيل الله، وما يمت إليه ـ كما تقدم ـ فضلاً عن الكلمات الأخرى التي تدور في فلكِ معنى الجهاد، كالحرب والغزو والقتال…، ومن هنا فإن المصادر الشرعية تواردت على تعريف الجهاد بالقتال في سبيل الله، وهذه بعضُ النقول من كتب الفقه التي عالجت المعنى الشرعي للجهاد والأحكام المتصلة به.
ـ جاء في بدائع الصنائع، للمذهب الحنفي ما يلي: (أما الجهاد في اللغة فعبارة عن بَذل الجهد. وفي عرف الشرع: يستعمل في بَذل الوُسع والطاقة بالقتال في سبيل الله ـ عز وجل ـ بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك…).
ـ وفي منح الجليل، للمالكية: (الجهاد: أي، قتال مسلم كافراً غير ذي عهدٍ، لإعلاء كلمة الله تعالى أو حُضُورُه له [أي: للقتال] أو دُخُوله أرضه [أي أرض الكافر] له [أي: للقتال] قاله ابن عرفة.
ـ وعند الشافعية: في «الإقناع» في تعريف الجهاد: (أي: القتال في سبيل الله) وقرر الشيرازي في «المهذب»: (أن الجهاد هو القتال).
ـ أما في «المغني» للحنابلة، فإن ابن قدامة: لم يتحدث في (كتاب الجهاد) عن أي معنىً آخر، غير ما يتصل بالحرب، وقتال الكفار، سواءٌ أكان فرض كفاية، أم فرضَ عين، أم كان في صورة حِراسَةٍ للمؤمنين من العدو، ورباطٍ على الحدود والثغور، ومن ذلك قوله: «الرباط أصل الجهاد وفرعه» وقوله: «إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فَرض عين… فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير لأن أمر الحرب موكول إليه».
وهكذا فقد انتقل لفظ «الجهاد» من معناهُ اللغوي إلى المعنى الشرعي، حتى صار هذا اللفظ عند إطلاقه لا يفهمُ منه إلا معنى القتال.
والذي نأسف له هو حال هذه الأمة المهزومة حيث صار لفظ الجهاد لديها يمثل حرجاً كبيراً. فهي لا تريد أن تتناوله بالنقاش مع خصومها، فضلاً عما تحاول إلصاقه من تفاسير خاطئة وزائفة لهذا المفهوم إذ لم يبق صافياً ولا نقياً كما جاءت به النصوص الشرعية وكما شرحه جمهور العلماء؛ بل إن ضعفها الفكري والمادي خول لها إدخال تفاسير غريبة على معناه الشرعي ما أدّى إلى انقسام المسلمين بين مُفرِطٍ ومُفَرِّط. فمنهم من انحدر به التفكير إلى جعل الجهاد مجردَ دفاع عن النفس والهوية ـ فهو بالتالي حرب دفاعية وليس حرباً هجومية؟ ومنهم من يقول إن الجهاد هو مجاهدة النفس ومقاومة الأهواء، وهذا ما يسمى عندهم بالجهاد الأكبر الذي يَفضُلُ الجهادَ الأصغر ألا وهو القتال ؟ بينما فريق آخر نحا منحى الغلو والتشدد فصوّر كل أنواع القتال الذي يحصل بين الناس على أنه من صميم الجهاد الشرعي الذي جاء ذكره في الكتاب والسنة.
فالجهاد الذي كان يمثل واقعاً عَقَدياً مميزاً، ومفهوماً متجذراً في ذهن الأمة التي كانت ترى فيه الطريقة العملية التي بِحَسَبها تتجسد الفكرة الإسلامية على أرض الواقع، انقلب في ذهن الجيل الحالي إلى فكرة مبتذلة ومشوشة قلَّ من يُعني نفسه بمناقشتها، حتى غلب عليها التقاعس والتخاذل وران على قلبها الخوف من العدو. فماتت فيها حينئذٍ حمية الدين وبغض الكفار، وحل محلها حمية الجاهلية والعصبية العرقية والوطنية وعادت بغيضة لبعضها البعض!
وبما أن هذه الأفهام الخاطئة قد شاعت بين المسلمين وغاب عن أذهان أكثرهم ذاك الفهم المميز والنقي لفكرة الجهاد ومات فيهم هذا الحافز فإنني رأيت من الضروري أن أضع بين يدي شبابنا هذه المناقشة الفكرية الموجزة، قاصداً من ورائها إدحاض الشبهات ورد الافتراءات وشحذ الهمم.
إلا أنني في تعرضي لفكرة الجهاد ولكل حالة من حالات الاقتتال، لوضعها في المكان المخصوص بها؛ اخترت أن أعتمد الاختصار ـ كما قلت ـ لكي لا أطيل على السامع أو القارئ مشقة المتابعة، ولا أضنيه معي في البحث والتنقيب عما ورد في كتب الفقه والعلم والفكر. حتى نتبين سوياً وجه الخطأ من الصواب، بما استقر عندنا من أدلة قوية وشروح مفصلة لا غبار عليها ولا التباس حولها.
ولنأخذ أولاً ما يدور على ألسنة الناس في هذه الأيام حول هذه المسألة:
فإن أكثرهم اليوم يقسم الجهاد إلى قسمين: قسم يتعلق بالجهاد الأكبر، وهو مجاهدة النفس والهوى والشيطان، وما شاكل ذلك. وقسم يتعلق بالجهاد الأصغر، وهو مجاهدة الكفار وقتالهم.
ويستدلون على ذلك بعدة أدلة منها: قوله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) وقوله: (وجاهدهم به جهاداً) وقوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وقوله: (وجاهدوا في الله حق جهاده) ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا وما الجهاد الأكبر؟ قال جهاد النفس» وفي رواية أخرى قال: «قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة العبد هواه».
فأقول صحيح أن هناك مجاهدةً للنفس، ولغير النفس، كمجاهدة الشيطان والفساق، إلا أنها ليست أفضل من مجاهدة الكفار، ولا أكبر عند الله ـ عز وجل ـ من مجاهدة الكفار، ولا تلغيها، ولا تسقطها، بل هي قائمة وماضية إلى يوم الدين. كما أن جهاد النفس ماضٍ إلى يوم الدين.
إلا أنه يجب أن يعلم أن أدلة مجاهدة النفس غير أدلة مجاهدة الكفار، وأن لكل منهما حالة تختلف عن الأخرى، فمجاهدة النفس غير مجاهدة الكفار، ولا يجوز أن نخلط بينهما، أو أن نستدل بإحداهما على الأخرى، أو نستبدل إحداهما بالأخرى، فلا غنى عن كل منهما في موضعه، فكل منهما واجب في موضعه.
وعلى هذا فالقول: إن مجاهدة النفس أفضل أو أكبر عند الله، من مجاهدة الكفار خطأ محض وهو قول خطير مخالف لمفهوم الجهاد في سبيل الله، وإلغاء له، وهو مردود من عدة وجوه:
ـ الوجه الأول: أن للجهاد معنيين، أحدهما لغوي والآخر شرعي ـ كما بينا ذلك أعلاه ـ وأن مجاهدة النفس تأخذ المعنى اللغوي وليس الشرعي.
ـ الوجه الثاني: أن الأدلة التي يستدلون بها على أن مجاهدة النفس أكبر وأعظم من مجاهدة الكفار لا تصلح دليلاً على المسألة، وذلك من واقع الأدلة نفسها.
فالحديث الذي يستدلون به لا يصلح دليلاً على ادعائهم، بأن الجهاد هو مجاهدة النفس لا غير أو أنه أعظم أو أكبر عند الله من مجاهدة الكفار وذلك من وجهين:
الأول: أن الحديث مردود رواية، والثاني: أن الحديث مردود دراية.
أما رده رواية فذلك أن الحديث ضعيف(2).
وأما رده دراية، فلتعارضه مع النصوص القطعية التي توجب الجهاد في سبيل الله وتجعله من أعظم الأعمال وهي على ثلاثة أضراب:
الأول منها: الآيات التي تتكلم عن فضل الجهاد في سبيل الله وأنه من أعظم الأعمال. كقوله تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)، وقوله: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون).
الضرب الثاني: الآيات التي تمدح الجهاد والمجاهدين في سبيل الله.
قال الله عز وجل: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، فيَقتُلون ويُقتَلون) وقال: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون).
الضرب الثالث: الآيات التي تذم وتتوعد المتخلف عن الجهاد والتارك له والمتقاعس عنه.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً) وقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير).
هذا بالإضافة إلى أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تدل على أن أعظم الأعمال إلى الله هو الجهاد في سبيل الله والقتال ضد الكفار.
قال عليه الصلاة والسلام: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» وقال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها».
وقال: «إن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله»، وغير ذلك كثير.
وعليه فإن ما ورد من نصوص، ليدل دلالة واضحة على أن الجهاد في سبيل الله هو من أعظم الأعمال، وفي أعلى الدرجات، والقرائن كلها تدل على ذلك، فالمدح والذم وترتيب الثواب والعقاب، كلها قرائن تدل على الجهاد في سبيل الله أعظم وأكبر وليس مجاهدة النفس. وعلى هذا فإن الحديث يرد دراية لتعارضه مع النصوص القطعية، ويبطل الاحتجاج به، بأن مجاهدة النفس أعظم من مجاهدة الكفار.
وأما بالنسبة لما يروج من أن الجهاد في الإسلام حرب دفاعية لا هجومية، بدليل قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وقوله: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) وقوله: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير).
أقول إن هذا الكلام أيضاً مغلوط ومردود واحتجاج في غير محله، وذلك للأسباب التالية:
السبب الأول: أن أدلة الجهاد أدلة عامة، ومطلقة، تشمل الحرب الدفاعية والحرب الهجومية، أي مبادأة العدو بالقتال، وتشمل الحرب الوقائية، وغير ذلك، فهي تشمل كل أنواع القتال للعدو، لعمومها وإطلاقها، فتخصيصها أو تقييدها لتكون خاصة بالحرب الدفاعية لا الهجومية، فإنها تحتاج إلى نص يخصصها أو يقيدها، ولم يرد أي نص يخصصها أو يقيدها لا في الكتاب ولا في السنة، فتبقى إذاً على عمومها تشمل كل حرب من الحروب، وكل قتال للعدو.
فكان إذاً استدلالهم بالآية التي تقول: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها…) استدلالاً باطلاً. ومثلها الآيات الأخرى، فإنها لا تصلح لأن تخصص عموم آيات سورة التوبة ولا أن تقيد مطلقها لأنها آخر ما نزل في الجهاد، والمتقدم لا يخصص المتأخر ولا يقيده، فلا بد من نص يخصص أو يقيد ويكون متأخراً عن النص المطلق أو العام أو مصاحباً له، حتى يكون حالة تختلف عن الأخرى ـ فقوله ـ (وإن جنحوا للسلم) يعني في حالة الصلح، وقوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون) في حالة الحرب والقتال، والصلح والقتال حالتان باقيتان، ولم تنسخ إحداهما الأخرى.
السبب الثاني: بالإضافة إلى ذلك كله فإن في أقوال الرسول وأفعاله صلى الله عليه وسلم ما يدل دلالة قاطعة أن الجهاد، هو بدء الكفار بالقتال لإعلاء كلمة الله، ولنشر دعوته قال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وكان ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ، إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: «اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين… إلى آخر الحديث، حيث يقول: وإن أبوا (أي كل ما عرضته عليهم) فاستعن بالله وقاتلهم».
أما أفعاله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهي طافحة بالأعمال التي تدل على ذلك، فخروجه إلى بدر ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأخذ قافلة قريش هو خروج للقتال، وهذه مبادأة بالقتال دون أن تبدأ قريش بقتال الرسول والمسلمين أو الاعتداء على المدينة حتى يدافع عنها المسلمون، وغزوه لهوازن في موقعة حنين، وفي حصاره للطائف، وموقعة مؤتة لقتال الروم، وموقعة تبوك، كل هذا كفيل بإثبات أن الجهاد هو مبادأة الكفار بالقتال، ورد القول بأن الجهاد هو حرب دفاعية.
السبب الثالث: إحماع الصحابة على أن الجهاد هو القتال في سبيل الله لنشر الإسلام، وأنه مبادأة بالقتال، ويكفي دليلاً على ذلك، فتح العراق وفارس والشام ومصر وشمالي إفريقيا، فإنها كلها فتحت في عهد الصحابة وبإجماع منهم.
وعليه فكل ما ذكرناه من أدلة كفيلة بإسكات كل من يزعم أن الجهاد هو حرب دفاعية.
وهنا لا يفوتنا أن نسجل ما يشعر به بعض المتمسلمين من حرج حينما يناقشهم خصومهم في مسألة الجهاد، فتراهم لا يستطيعون الرد على تجنّيهم ولا الرد على طعنهم في الإسلام وخاصة حول ما يقال في الجهاد الشرعي، إذ يعتبر الجهاد عند هؤلاء الطاعنين ـ ومنهم المستشرقون ـ، فكرة وحشية بربرية تنطوي على أعمال عدوانية فاحشة تستهدف الشعوب الآمنة الضعيفة بقصد الهيمنة عليها وحملها على اعتناق الإسلام بحدّ السيف والإكراه !!
نعم إن المسلمين يتحرجون كثيراً من هذه المسألة ويتحاشون النقاش فيها مع خصومهم وإذا ما تكلموا بقصد الرد تحاشوا ما ينافي أصل الفكرة ويناقضها، إذ يزعمون، أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يشرع الجهاد إلا للدفاع عن الذات والهوية، وهذا ما فندناه وبيناه آنفاً.
أما لرد هذا الافتراء على وجوه المغرضين من الكفار ومن نحا منحاهم، فإننا نقول إن حمل السيف على الكفار ومبادأتهم بالقتال لا يعني إكراههم بالقوة على اعتناق الإسلام كما تزعمون، لأن الله ـ عز وجل ـ منع هذا الإكراه ولم يجوزه إذ يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)، فإن هذا النص يوضح أن حمل السيف على الكفار لم يكن حملاً من أجل إكراههم على اعتناق الإسلام بالقوة وإنما كان من أجل تطهير الأرض من أنظمتهم الكافرة وطغيانهم على الناس، فكان السيف إذاً من أجل التطبيق والتنفيذ وليس للإكراه والاعتناق، وبمعنى آخر كان من أجل حكم الناس بشرع الله وتحريرهم من حكم البشر. وللناس من بعد أن يختاروا بين الكفر والإيمان.
وهنا لا أريد أن أتوسع كثيراً في الرد على تهمة القهر والإكراه لأنها تهمة واهية ولا تحتاج منا إلى عناية كبيرة واهتمام زائد، ويكفي للرد على افتراءات هؤلاء السفهاء وادعاءاتهم الباطلة أن نفحمهم بما جاء به التاريخ من حقائق وشهادات مدونة في الكتب النـزيهة. وأكبر دليل على ذلك هو واقع النصارى واليهود الذين عاشوا تحت ظل الدولة الإسلامية وكانوا فيها من أهل الذمة، فإنهم يعترفون بأنهم لم يُضطهدوا من أجل دينهم، ولم يدّع أحد منهم أنه أكره على اعتناق الإسلام بالقوة، بل لا زال أكثرهم إلى يومنا هذا على دين آبائه وأجداده الأقدمين، منذ الخلافة الإسلامية. فأين يوجد هذا الإكراه والحمل بالقهر على ترك دينهم وما يعتقدون، وأين محاكم التفتيش التي سمعنا عنها في العالم المسيحي.
ولذا نقول لإخواننا إننا لا نرى سبباً منطقياً لهذا الحرج، فضلاً على أن الإسلام يعلنها صراحة ولا يخفيها على الناس إذ يقول تعالى: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال).
ثم لماذا هذا الحرج والمبدأ الرأسمالي يتحدث بكل صراحة عن الاستعمار ويعتبره طريقة إيجابية لنشر مبدئه. ويكفيكم شهادة ما يصيب المسلمين من دول الكفر الاستعمارية كالغارات والهجمات التي تقوم بها على شعوب العالم الإسلامي، مثل الشعب الليبي والسوداني والعراقي وفي كشمير والبوسنة وكوسوفا والشيشان وغيرها، وكذلك المبدأ الاشتراكي ومنه الشيوعي الذي يرى في إحداث الثورات والقلاقل والحروب الأهلية، طريقة إيجابية لنشر مبدئه والإسراع في إحداث النقلة النوعية في شعوب العالم. فترى أصحاب هذين المبدأين لا يتحرجون في التصريح بذلك ويزعمون أنهم يقدمون خدمة جليلة للبشرية، بينما نحن كمسلمين نستثني الإسلام من هذه الدائرة ونتركه حبيساً داخل الأقطار المسلمة ولا نعمل على نشره في العالم لأن ذلك يحرج غيرنا!
إن هذا التحاشي المخذول لا نرى له مبرراً إلا التقاعس عن حمل الدعوة وإعلاء كلمة الله والتخلي عن تخليص البشرية من الاستعباد، كما بيّن ذلك ربعي بن عامر ـ رضي الله عنه ـ في مناقشته لرستم إذ قال له: “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَن قَبلَ ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نقضي إلى موعود الله.
ولكن ماذا عسانا أن نقول لهؤلاء المتخاذلين الذين يريدون تدنيس شرف هذه الأمة الشريفة التي تربت على تعاليم الإسلام وإرشاداته بما يزعمون من سفاهات التسامح والحوار مع العدو الكافر. فهذا الموقف هو ذاته موقف المنافقين من الجهاد قال تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا أنزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت)، فهؤلاء يريدون شراء سخط الله عليهم مقابل رضاء الكفار عنهم: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم)، ولقد ذهبت الدناءة بالحكام وأعوانهم إلى حد التزلف والتملق للكفار فزعموا أنهم (أي الكفار) إخوانهم في الدّين؟ ويا ليت الأمر يقف عند الحكام الخونة وأتباعهم ولا يزيد عن ذلك، بل إن بعض المحسوبين على المسلمين من تلكم الحركات المشبوهة يتبعونهم في هذه المؤامرة الخبيثة. فمثلاً نحن الجالية الإسلامية ببلاد المهجر يسعى الغرب الكافر إلى احتوائنا عن طريق هذه الحركات التي تنشط على ساحته، فما انفكت اللقاءات والمؤتمرات والمحاضرات تلقى هنا وهناك لتقنع المسلمين بأن يخلعوا من رؤوسهم فكرة مناقضة الكفار والقبول بفكرة الحوار ـ الهابط ـ، ولقد طالعتنا مجلة(3) تصدر عن رابطة مسلمي سويسرا يدعي فيها أصحابها أن الجهاد الذي قام به المسلمون في السابق ضد الكفار ليس إلا صداماً مؤسفاً؟ يقول صاحب المقال وهو الدكتور عز الدين إبراهيم في مقاله الذي عنونه بـ [رؤية إسلامية للحوار الإسلامي المسيحي] ما نصه: «… وتابع المسلمون هذا الحوار بالمشافهة والكتابة، لا يكادون يفترون عنه إلا في فترات الصدام المؤسف بين أتباع الدينين…»(4) ومعنى ذلك أن هؤلاء المتقاعسين يرون أنفسهم أكثر تحضراً من السلف الصالح الذين كانوا يفهمون الجهاد بأنه مبادأة الكفار بالقتال. وهم بهذا المنطق السلبي يريدون تعطيل قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير)، فضلاً على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) أي أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أرسل نبيه رحمة للعالمين لكي يحررهم من ظلمات الجهل وتسلط الطاغوت، وذلك ما بينه كل المجاهدين لمختلف حكام الأرض حينما قدموا عليهم لتحرير رقاب البشر من ربقة استعبادهم، فهل من بعد هذه الرحمة المهداة للبشرية من رحمة تساويها؟ فكيف يريد هؤلاء الجهلة تعطيلها؟
وبعدُ، فاعلموا أيها المسلمون أن الجهاد ماضٍ إلى يوم الدين لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر. فإن تخاذلنا نحن أبناء هذا العصر فإن الله كفيل بإرسال رجال من ورائنا يحبونه ويحبهم فيوفون بعهدهم الذي عاهدوا الله عليه ويخرجون للجهاد في سبيله، وستنطلق بإذن الله جيوش الإسلام من جديد لتركض على الأرض في اتجاه روما وفرنسا ومنها إلى بريطانيا رأس الكفر وستصل بإذنه إلى البيت الأبيض كما وصل من قبل سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ إلى بلاط كسرى، (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) صدق الله العظيم .
خالد إبراهيم العمراوي
سويسرا
ــــــــــــــــ
(1): مغني المحتاج، للشيخ محمد الشربيني الخطيب، شرح المنهاج (للنووي) ج4/223.
(2): أنظر الجامع الصغير للسيوطي.
(3): مجلة ـ الوفاق ـ ثقافية إسلامية جامعة، تصدر عن رابطة مسلمي سويسرا.
(4): المصدر نفسه، العدد الرابع من السنة الأولى: صفحة 6.
2000-04-07