العدد 220 -

السنة التاسعة عشرة جمادى الأولى 1426هـ – حزيران 2005م

أوهام بريجنسكي (1)

أوهام بريجنسكي (1)

زْبِغِنْيُو بريجنسكي، أميركي من أصل بولندي، يعتبر من مفكري السياسة الأميركيين، كان مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي كارتر، وقد كان، ومازال، من الذين تتلقف أيدي مفكري السياسة والسياسيين كتبهم. وقد أصدر بريجنسكي بعد حرب العراق الأخيرة كتاباً بعنوان «الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم» وعنوانه يكشف موضوعه، ويقدم فيه العديد من النصائح للإدارة الأميركية. وقد وصف كارتر الكتاب بأنه خارطة طريق للوضع الجيوسياسي الحالي لا يمكن دحضها. ووصفه هنتنغتون مؤلف كتاب «صراع الحضارات» بأنه يقدم تحليلاً ألمعياً موجزاً، ولكن ثابت البصيرة، للسياسة العالمية المعاصرة والدور الأميركي فيها. وقد حوى الكتاب مغالطات وأوهاماً تتعلق بنظرته المعادية للإسلام والمسلمين، وتعتبر انعكاساً للغطرسة الأميركية التي لا ترى إلا نفسها.

وقد فند الكاتب أبو الزبير الأسدي بعض مغالطات بريجنسكي هذا وسماها أوهاماً متعددة وتبريرات ساذجة ركيكة، وقد رأت «الوعي» أن تنشر بعضها على حلقات.

====================================================

وهم تحديد من هو العربي؟

يقول بريجنسكي: «وخلافا للصورة الكاريكاتيرية المتكررة التي ترسمها وسائل الإعلام الأميركية والتي تصور المسلمين بأنهم عرب ساميون، فإن الغالبية العظمى منهم تتركز في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا… وتضم التجمعات المسلمة الكبيرة الأخرى ذات الهوية الإثنية المتميزة الفرس… والأتراك… والمصريين والنيجيريين».

– تفتقت إبداعية بريجنسكي عن عدم اعتبار المصريين من العرب، ومن الممكن الجزم أن الأغلبية الساحقة من الساسة، ومفكري السياسة الغربية، والمفكرين، لا تعرف من هو العربي؛ لأن عقليتهم مرتبطة بالمفهوم الإثني والعرقي، ولا يدركون أن الله تعالى قد جعل كل من يتحدث اللغة العربية عربياً، بغض النظر عن عرقه وإثنيته ولون بشرته. فالملايين ممن تعلم اللغة العربية ويتحدثها من الباكستانيين والأتراك والماليزيين والأوزبك وغيرهم من المتحدرين من إثنيات وأعراق غير عربية هم في الحقيقة عرباً، فكيف بالمصريين!!

وهم أن قوة (إسرائيل) خارقة

يقول بريجنسكي: «وبوصفها القوة العسكرية المسيطرة في الشرق الأوسط، تمتلك إسرائيل القدرة في حال نشوب أزمة إقليمية كبرى، لا على أن تكون قاعدة أميركية فحسب، بل على أن تساهم في أي تدخل عسكري أميركي أيضا».

إن القول بأن واقع (إسرائيل) هو أنها قاعدة أميركية قول صائب، والقول بأنها تستطيع أن تساعد أميركا أيضا في تدخلاتها العسكرية ليس صائبا من ناحية نظرية فحسب، بل هو حقيقة واقعة، عندما ترغب أميركا بذلك. إلا أن واقع كونها القوة المسيطرة في الشرق الأوسط نابع من عمالة حكام الدول العربية وتخاذل القوى العسكرية فيها، وليس من قوة (إسرائيل) التي ما هي إلا نمر من ورق. ومن أكثر ما يثير الشفقة هم الإعلاميون والصحفيون الذين يعملون جاهدين على إقناع الناس بعظمة (إسرائيل) وقوتها، مظهرين جهلاً مركباً وسذاجة مفرطة.

وهم إخفاق الدول العربية في منع ظهور (إسرائيل)

يقول بريجنسكي: «في الشرق الأوسط، نجد أن الآراء السياسية العربية تصوغها المواجهة بين المنطقة والاستعمار الفرنسي والبريطاني، وإخفاق الجهود العربية في منع ظهور إسرائيل، وما تلا ذلك من معاملة إسرائيل للفلسطينيين، والبروز المباشر وغير المباشر للقوة الأميركية في المنطقة»

– إن القول بوجود آراء سياسية عربية مستقلة قول هزيل، فالكيانات السياسية في المنطقة هي نتاج لاتفاقية سايكس بيكو على تقاسم الدولة العثمانية بين البريطانيين والفرنسيين، أو ما تلا هذه الاتفاقية من حالات إجهاض أنجبت أطفالا معاقين، أسماهم السيد الأوروبي والأميركي دولاً بعد أن تأكد من تنصيب رجاله وعملائه حكاماً عليها، فتفانوا في حفظ مصالحه. فكل رأي سياسي عربي رسمي ما هو إلا صدى لقرار في عاصمة غربية، خاصة واشنطن ولندن، واعتبار أن هذه الأنظمة تمثل شعوبها وتتحدث باسمهم اعتبار مفرط في الوهم.

ومن السخرية أن يذكر بريجنسكي إخفاق الدول العربية في منع ظهور دولة (إسرائيل) في حين أن حكام هذه الدول لم يُعيَّن أي منهم إلا بعد التأكد من موافقته الكاملة بل واستحسانه لقيام دولة (إسرائيل)، حتى إن الملك الأردني عبد الله كان مسئولا عن قيادة عمليات الجيش الأردني والجيش (الإسرائيلي) في نفس الوقت إبان معارك 1948 من قصره في عمان، والتي تمت تسميتها كذباً وزوراً وبهتاناً بالنكبة، في حين أنها ليست سوى حلقة في سلسلة خيانات حكام المنطقة.

وهم وصف القمع والقتل (الإسرائيلي) لمسلمي فلسطين بأنه تقييد للحقوق المدنية

يقول بريجنسكي: «توجد دولتان حالياً يمكن أن تنذرا بهذا المستقبل: إسرائيل وسنغافورة. فكلتاهما ديمقراطيتان أساساً، لكنهما تبرزان عناصر أوتوقراطية قوية أدخلت بسبب الهواجس الأمنية… كما أن الحقوق المدنية مقيدة بعض الشيء فيهما. وخصوصا حقوق1.2 مليون مواطن فلسطيني يحملون هويات إسرائيلية، وأكثر من ذلك حقوق الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال الفلسطيني».

يا لوهم بريجنسكي عندما يصف القمع (الإسرائيلي) للمسلمين في فلسطين على أنه بعض التقييد للحقوق المدنية!! قتل، وذبح، وقصف، واعتقالات، وتشريد، وتعذيب، يوصف ببعض التقييد للحقوق المدنية؟! كيف لا وقصف المدنيين اليابانيين بالأسلحة النووية نشر للمفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان!!

إلا أننا نتفق مع بريجنسكي في وصفه لـ(إسرائيل) بالديمقراطية، كما هو حال أميركا وديمقراطيتها في أفغانستان والعراق، وفرنسا في ساحل العاج وغيرها، ولعل المحبين للديمقراطية يعتبرون بهذا، ويكفون عنا أذاهم من تسبيح بحمد الديمقراطية وتهليل بحرياتها.

وهم آثار التعايش بين (إسرائيل) وفلسطين

يقول بريجنسكي: «إن التبني الدولي لصيغة قابلة للبقاء للتعايش بين إسرائيل وفلسطين لن يحل الصراعات المتشعبة الأكبر في المنطقة، لكن سيكون له فائدة ثلاثية: سيقلل إلى حد ما من تركيز الإرهابيين الشرق أوسطيين على أميركا، وسينـزع فتيل الانفجار الإقليمي المرجح، وسيسمح بقيام أميركا والاتحاد الأوروبي بمسعى منسق للتعامل مع المشاكل الأمنية في المنطقة بدون الشروع في حملة معادية للإسلام».

هذا الطرح لا يفهم على الإطلاق كيفية تفكير المسلمين، بما فيهم أهل المنطقة المسماة بالشرق الأوسط. إن أرض فلسطين أرض إسلامية، وعملية التنازل عنها من قبل ثلة من الخونة والعملاء، سواء أيام سمسار فلسطين الأكبر الهالك عرفات أم غيره، لن تسهم لا من قريب أو بعيد في تهدئة المنطقة، لما فيها من إضفاء شرعية على الكيان المسخ المسمى إسرائيل، وأكل لحقوق الأمة الإسلامية في أرض فلسطين الخراجية (الأرض الخراجية هي التي فتحها المسلمون عنوة، لذلك فإن رقبتها تكون ملكا للمسلمين كافة ممثلين في بيت مال دولة الخلافة الإسلامية، ولا يملك أهلها (الفلسطينيون في هذه الحالة) إلا الاستفادة منها). يبني بريجنسكي أوهامه هذه على القصص الإعلامية الكاذبة، أن الدول العربية المحاذية لـ(إسرائيل) قد تصطدم معها، وإلا عن أي انفجار إقليمي مرجح يتحدث؟! وواقع الأمر أن هذه الدول هي الحامية لـ(إسرائيل) والمدافعة عنها ضد الشعوب المسلمة المتحفزة للوثوب عليها، ولا يوجد أي انفجار إقليمي مرجح على صعيد الدول. أما على صعيد الشعوب، فكم من انفجارات تم قمعها بالحديد والنار في الأردن وسوريا والعراق ومصر وغيرها، وثبت بشكل قطعي لا يدع مجالا للشك أن ثورات الشعوب لم ولن تؤدي إلى تغيير أنظمة حاكمة، إلا بمشاركة رجالات مؤثرين من هذه الأنظمة في عملية التغيير، وثلة من أهل القوة في الجيوش.

أما موضوع تركيز الإرهابيين الشرق أوسطيين على أميركا، فعلى فرضية صحة الحبكة، فإن سبب تركيز هؤلاء القوم على أميركا، كان وما زال سياساتها في الشرق الأوسط، فعن ماذا يتحدث بريجنسكي هذا؟!

أما التنسيق بين أميركا وأوروبا فهناك مرونة في مسائل التنسيق السياسية هذه، ومن الملاحظ أن أوروبا كثيرا ما ترضخ لأميركا، وبمجرد أن ترى فرصة للتشويش عليها تفعل. ولعل قضية فلسطين من أواخر أوراق الرهان الأوروبية في التشويش على السياسة الأميركية في المنطقة، وستسعى أميركا إلى الاستئثار بعملية إنهائها، وستسعى أوروبا للتشويش عليها مع انعدام قدرتها العملية على الاستئثار بها، وسيطول المخاض مع وجود العنصر اليهودي (الإسرائيلي) المشوش أحيانا. أما الشعب المسلم في فلسطين فهو أسير مقهور، والشعوب المسلمة المجاورة فهي مقموعة مقهورة، فلا تمثل عنصراً فاعلاً في عملية تصفية القضية وإنهائها. أما عنصر السلطة الفلسطينية فهو أسخف وأهزل من أن يوقف عليه.

[يتبع]

أبو الزبير الأسدي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *