من الهداية إلى الشهادة (قصة شهيد) (4)
2005/06/07م
المقالات
1,629 زيارة
من الهداية إلى الشهادة (قصة شهيد) (4)
هذه قصة واقعية… قصة شهيد من أوزبكستان تُروى بلسان حاله… منذ الهداية إلى الإسلام، وعمله مع حـزب التحـرير، إلى اعتقاله وإدخاله سجون الظالمين… سجون الطاغية كريموف حاكم أوزبكستان… ثم التعذيب المفضي إلى الاستشهاد… أسكنه الله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
و«الوعي» تنشر هذه القصة على صفحاتها مبيِّنة سيرة أولئك الرجال الرجال، الذين لا يخشون في الله لومة لائم، قلوبهم عامرة بالإيمان، ألسنتهم رطبة بذكر الله، تردد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند ذي سلطان جائر».
رحم الله رشيداً، ونصر إخوانه من بعده بإقامة الخلافة الراشدة، وحينها سيعلم الطاغية كريموف، وكل الطغاة الظالمين أمثاله، أي منقلب ينقلبون.
==========================================================
(ذكرنا أن الشباب في السجن كانوا قد طلبوا مقابلة رئيس دائرة الأمن عنايتوف، ورئيس السجون قديروف، وطلبوا أن تكون المقابلة في الخامس عشر من تشرين الأول. وقد حضر قديروف قبل الموعد بيوم، وحضرت معه نفسه المليئة بالشر والحقد على المسلمين الدينيين)
حضر قديروف رئيس السجون إلى السجن، وأمر قلومبيتوف أن يسأل الشباب الذين طلبوا مقابلته عن مقصدهم، وقال له: من تجرأ علي بالقول تمسكه وتسجنه في غرفة الجزاء. ولقد سمع هذا القول عدد من الدينيين بأنفسهم.
ومن أساليب الكفر تعذيب الجريء بغير مبرر سوى كسر جرأته. وعندما جاؤوا برشيد إلى دائرة الأمن ضربوه بوحشية، وتقولوا عليه البهت، فكأنه قد اشترك في كل حركة إرهابية، صدرت في أنحاء العالم. وضرب قديروف بضعة نفر من الدينيين فور دخوله في غرفة النوم الأولى، وأمر بسجنهم في غرفة الجزاء، ثم دخل غرفة النوم الثانية، وسأل سجناء الوحدات عن مشكلاتهم على حدة (كان السجن ينقسم إلى عدة غرف نوم، وكل غرفة نوم إلى عدة وحدات) فقالوا نطلب منك أن تجمعنا كلنا في مكان واحد وتسمع قولنا؛ لأن مشكلتنا ليست فردية بل جماعية. فالذي يتملق إلى من فوقه يطلب التملق ممن تحته، وما يجدر ذكره هنا، أنه في نظام السجون هنا لابد أن يطيع المسجون أمير الوحدة، وهذا يطيع أمير غرفة النوم، وهذا يطيع سجان غرفة النوم، وهذا يطيع رئيس السجن. وكذلك هناك حلقات أخرى بين رئيس السجن ورئيس السجون أي قديروف. إذن في نظر قديروف أن السجين يكون في أسفل حلقة من السلسلة التي تتصل به؛ فلم يصبر على جرأة المحبوسين الذين هم في نظره أرقاء السجن، فأخذ يحقرهم ويسبهم ويضربهم ويأمر بسجنهم في غرفة الجزاء. وكان الديني الذي تعرض للعذاب قد أخذ يكبر الله رب العزة ويخزي الشيطان رب قديروف، فتبعه باقي الدينيين في التكبير، فاضطرب قديروف وصاح بصوت متألم: «صيحوا وصيحوا، وَلَو إلى الصباح، فلن يفيد صياحكم شيئاً، والآن أجيء بجيش خاص، فتمشون مكبين على وجوهكم ويؤذى سائر السجناء لعصيانكم». ومعنى المجيء بجيش خاص أنه يضرب ويعذب كل السجناء بلا استثناء. فيقتل من يقتل، ويجرح من يجرح، فيصبح معطوباً إلى آخر عمره. أما معنى يؤذي سائر السجناء لعصيانكم، فهذا أيضاً من أساليب الكفر، حيث كانوا يؤذون السجناء كلهم لعصيان أحدهم. والسجناء الجهلاء كانوا يعيبون شريكهم بدلاً من أن يعيبوا المنحرف الحقيقي ويقولون: «لو لم تفعل كذا ما حدث بنا هذا». وحاصر السجن في الحال جيش خاص في أيديهم العصي والتروس. فقال قديروف: «إن أقل لهم “فس” شدوا عليهم امتثلوا لأمري فوراً»، وهم ساكتون كأنهم يعترفون بأنهم كلاب. (فس كلمة تقال للكلب: أي شد عليه).
فأجابه الدينييون بقولهم:
– إنا مستعدون للشهادة في سبيل ديننا وعرضنا، فافعل ما شئت.
فأزعج الجواب قديروف، فهو قد سمع عن استماتة الحزبيين ولكنه لم يتوقع مثل هذا، واشتد غضبه عندما سمع قول نعمتوف صديق:
– نطلب منك أن تجمعنا كلنا وتسمع قولنا.
– خذوه واسجنوه في غرفة الجزاء -صرخ قديروف من الغيظ. فإنه كان يتنفس بهدوء بين المتملقين فقط، ويختنق بين الأحرار. وأكثر ما يزعجه أنه كان لا يستطيع أن يحوّل عالم الأحرار إلى عالم المتملقين. وكبّر صديق وهو يساق إلى العذاب الشديد، كأنه يقول العاقبة لي وليست لك، وتبعه الدينيون كلهم في التكبير كأنهم يؤثرون الأذى الشديد على خذل أخيهم. فلم يصبر قديروف على هذا، فإنه أوشك أن يموت من الاختناق بين الأحرار، فغير موقفه، وألغى تعذيب صديق، وقال:
– تكلم ما هي مشكلتك؟
– نطلب منك أن تجمعنا كلنا وتسمع قولنا.
– تباً لطلبكم، فأنتم لا تستحقون الطلب.
– لا تتكابر، فإنك ستسأل أمام الأمة، وأمام الله.
– فأنا أصرف لكم كل يوم ست دولارات والناس في الخارج لا ينالون الطعام اليسير.
– الله هو الذي يرزقنا.
– بل أنا.
– فقد كفرت بقولك هذا، وتدعي بأنك مسلم وعضوك الذي تحت إزارك لا تتركه من فمك.
– أعترف بأني اعتدت التكلم بالسب، أسب هؤلاء أيضاً، وأشار إلى أعيانه، وهم أشاروا إشارة التصديق، فأنا لا أعلم الكلمات الدينية (يريد الخلقية) ولكني مسلم أيضاً، سيكون الأمان، وتتحررون كلكم إلا حوالى خمسمائة نفر من مستميتيكم، فعند ذلك تنالون شهادتكم المقصودة.
فتلذذ بقوله وابتسم تكابراً، ثم أشار إلى صديق، وقال لرئيس “جسليق”:
– أرسله إلى سجن “س – 9” في نوكوس (وهو مجزرة من مجازر يهود) فليسترح هناك قليلاً، ثم أرسله إلى سجن المستشفى.
وهذا أيضاً من أساليب الكفر، حيث يضربون السجين ويعذبونه أولاً، ثم يرسلونه إلى المستشفى تحقيراً له، ففي دائرة الأمن تتكرر هذه الحال في كل يوم، فكأنهم يحاولون مزج الألم الروحي بالوجع البدني، ولكن المسلم الذي يؤمن أن من وراء هذا العذاب العظيم أجراً عظيماً لا يتأثر به، فلا تتألم روحه بل يتلذذ، وإذا تأثر بالعذاب وفقد صبره وتجاوب مع سجّانيه، فعند ذلك يحس ألماً روحياً، أما قبل ذلك فلا، وخلاصة القول، إن المسلم لا يؤلمه إلا الخوف من ذنوبه، وعندما نظر رشيد إلى الدينيين وجدهم لا يخافون من العذاب، بل يخافون من الضعف عند التعذيب، فحمد الله على أنه أدخله في جماعة الذين لا يخافون من العذاب بل الضعف.
قال أحد الدينيين:
– أنتم لا تستطيعون أن تخوفونا. فإنا مستعدون للشهادة في سبيل ربنا، فانزعج قديروف كأنه لدغ وصرخ بأعلى صوته:
– أخرجوهم جميعاً واسجنوهم في غرفة الجزاء، فأخذ الكلاب السمان يسوقون الدينيين، فكبر الدينيون، وعندما عرف قديروف أن تهديده لا يجدي نفعاً ألغى أمره وقال:
– اجلسوا نتحاور عن مشكلتكم هنا.
– نطلب منك أن تجمعنا كلنا!
– تباً لطلبكم، فإني لم أجئ إجابة لطلبكم، بل لأمور أخرى، فأنا معاون الوزير، وأنتم السجناء لا تستحقون الطلب.
قام عبد الرحمنوف أدهم وقال:
– لماذا تغلظ لنا في القول بدل أن تسمع قولنا وأنت رئيس.
– تكلم وما هي مشكلتك؟
– ليس عندنا مشكلة شخصية، وما سجنا لمنفعتنا الشخصية، والذي نريد أن نقوله لك ليس مشكلة شخصية أيضاً، بل هي مشكلة الأمة.
– أتعرف من أنا؟ أنا معاون الوزير، فالناس ينتظرون أسبوعاً فأكثر للالتقاء بي، وأنا قد جئت إليكم، وقلت: ما هي مشكلتكم؟ فما تريدون فوق ذلك؟ أتريدون الخروج من السجن، أو أن أرسلكم إلى سجن قريب من بيوتكم؟ وما هي أحوالكم هنا؟ أفلا تتكلمون عن هذه الأمور؟
– لقد قلنا لك ليس عندنا مشكلة شخصية.
– وما هي مشكلتكم؟
– إن الشرطة وخدام دائرة الأمن قد انتهكوا حرمة أختنا.
– في أنديجان؟ نعم، سمعت أنه قد انتهكت حرمة امرأة، فقد بحث هذا الأمر وعوقب المجرمون، فأنتم أيضاً ستعاقبون لتكبيركم، سأكرر الحال الذي وقع سنة 1999م وسنة 2000م، أعزل هذا (أي رئيس جسليق) وأجيء بغيره، فيجعلكم تمشون مكبين على وجوهكم.
– حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
– لماذا لا تفهمون، سنسأل عنكم وعن طلبكم، أنا وهذا (يعني رئيس جسليق) فأنا رجل صغير أيضاً لا أستطيع أن أحل مشكلتكم…
أخذ رشيد يستجمع عقله، وراح يقارن الفرق بين وكيل الإسلام ووكيل الكفر، ففي الماضي قد تحير رستم قائد الفرس، عندما سمع من جندي إسلامي أنه يستطيع أن يوقف الحرب إلى ثلاثة أيام. وها هنا لا يستطيع معاون الوزير أن يحل مشكلة انتهاك حرمة امرأة من رعية الدولة. فهذا أمر مضحك من جهة، ومؤلم من جهة أخرى. أو ليس عليهم حماية الحرمات في الحقيقة؟ وقسّم رشيد الديوثة إلى مراحل: المرحلة السفلى أن يرى انتهاك الحرمة فيسكت، والمرحلة المتوسطة أن يرى من يسعى لمنع المرتكب عن الجرم فلم يعاونه، والمرحلة العليا أن يدعم المرتكب، ثم أخذ يدعو في سره:
اللهم ارحم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنقذها من الرؤساء العملاء الديوثين. فما أمكن من النوم إلا في وسط الليل؛ لأنه قد احترق بنار البغض للظالمين ونار الخوف من المسؤولية عليه. ورأى في منامه قديروف فقدم إليه وقال:
– أتسمح لي أن أسألك سؤالاً؟
– اسأل -صعر قديروف خده-.
– كيف تنظر إلى هذه المسألة لو انتهكت حرمة زوجتك أو ابنتك؟
– فاحترق قديروف من الغيظ، وحاول أن يضربه، وامتنع لسبب مجهول.
– نحاسبك فيما بعد -حاول أن يلبس صوته بثوب الغضب والتهديد، ولكن ما أمكنه ذلك. فخرج صوته أنيناً فيه ضعف وعجز-. وعند ذلك ظهر صديقه محمد وقال:
– زه! يا صاحبي قد أصاب سهمك. فقد قديروف اتزانه ولم يستطع أن يضبط نفسه وصوته. ثم دعا كلابه فأمرهم بأمر مشيراً إلى رشيد، واستيقظ رشيد فرحاً.
ولم يصبر قديروف على الفشل، فأرسل للانتقام منهم عبد الكريم شادييف الذي يسمونه في سجون أوزبكستان «الكاسر» لغلظته ووحشيته. فجاء هذا الظالم في التاسع عشر من تشرين الأول في الساعة العاشرة فجعل دائرة من الجنود المخمورين، وأخذ يعذب الدينيين واحداً واحداً. وعندما كبّر الدينيون الذين وقعوا تحت سيل الضربات، أمر بتمزيق أفواهم فمزقت، وجرحوا بضعة أنفار منهم، فأصبحوا معطوبين إلى آخر عمرهم. وأخذوا بإبراهيم ومروا به من بين “جدار ذي روح” (يقف حوالي ثلاثين نفراً من الجنود في طرفي الطريق، وفي يد كل واحد منهم عصا، ويمر السجين من بينهم وهم يضربونه بالعصا ولايشفقون عليه مطلقاً) وكسروا يده اليمنى لتكلمه رافعاً بها عند قديروف. وهو قد غشي عليه. وفي السادس والعشرين من تشرين الأول أرسلوه إلى سجن “س – 9” في نوكوس مغلولاً. وهو لم يطعم شيئاً بعد. وطرح رشيد المغشي عليه في غرفة الجزاء.
النهاية
«الأذية في الله نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها». فرح رشيد من انبثاق هذا الكلام عن خاطره، وفي الوقت نفسه اطمأن باله بمعناه. فأراد أن يتوضأ ويصلي صلاة الشكر، غير أنه لم يقدر على الحركة من شدة الألم. كانت حاله بعد التعذيب، إذا جلس، أو قام، أو اضطجع لعدة دقائق فقط كانت حركته موجعة جداً. فقام رغم كونه غير مستطيع على القيام من الناحية الطبية. فإن اطمئنان القلب والفرح الروحي قد يجعلانه يقوم بمعجزة بدنية. فتوضأ وشرع في الصلاة، والخلوة مع الله! ما أشدها لذةً واطمئناناً وفرحاً! وأخذ يفكر: إذا كانت لذة الصلاة الدنيوية، وما أجملها لذة! لا تلبث أن تزول فكيف باللذة الأخروية التي لا تعدم ولا تفنى! يا رب، وهل تساوي الأذية المتواصلة طول الحياة في سبيلك مع لذة التحير من قدرتك في لحظة واحدة؟!
وفتح الباب ودخل غولان بشعان في صورة الإنسان، وجرّا رشيداً إلى مكان فيه غيلان أخرى مثلهما، قد توحشوا بشرب الخمر، فأخذوا يضربونه بشدة ووحشية، ورشيد كان في غاية الضعف بحيث لو تركوه وشأنه لمات في مدة قصيرة، وقال أحدهم:
– لسانك لاسعك، فسنضربك ضرباً حتى لا تعرفك أمك التي ولدتك. فذكر رشيد الشعر الذي قرأه محمد له:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في شأن الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
وغشي عليه. فتكرر المنظر نفسه أمام عينيه، إذ رأى رجالاً منورة وجوههم، فقال له أحدهم: «بارك الله فيك لقد نلت غايتك».
واستمرت الغيلان البشعة في ضرب جسدٍ قد فارقت روحه الحياة.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) [البقرة].
«الوعي»: هذه قصة حقيقية، لم يحبكها قلم كاتب إسلامي، بل دم شهيد يذكرنا بدماء من سبقوه من الرعيل الأول من الصحابة والشهداء السابقين، ولا نملك، في ختام المسك هذا، إلا أن نردد قول الله الحق: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) [الأحزاب]
[انتهى]
2005-06-07