العدد 155 -

السنة الرابعة عشرة _ ذو الحجة1420هــ_ آذار 2000م

الشيشان ، يا مسلمون

          منذ أشهر، والآلة العسكرية الروسية تقذف حممها بصورة وحشية وأساليب بربرية، على شعب مسلم صغير، شعب الشيشان، فلم تترك وسيلة عسكرية تدميرية دون استعمالها، ولولا خشيتها من أن يصيبها غبار الأسلحة النووية لاستعملتها ضد الشيشان.

          فقد استعملت طائرات ثقيلة، تجربها لأول مرة، في قتال الشيشان، سوخوي 34، 32 إف إم، كما استخدمت المدفعية البعيدة المدى، وراجمات غراد وأوراغان، مستخدمة قنابل ضخمة زنة الواحدة منها طن ونصف، تنفجر في الأماكن المغلقة وتحدث دماراً هائلاً.

          ولا تزال طائراتها مستمرة في طلعات جوية يومية منتظمة، تناهز المائة، فتلقي قنابل من مختلف الأنواع التدميرية، دون تمييز بين شيخ أو طفل أو امرأة.

          وبعد هذه الأشهر الطويلة من القتال العنيف، والحصار الطويل العريض، استطاعت القوات الروسية أن تدخل غروزني المدمّرة، بعد أن تمكن معظم المقاتلين الشيشان من فك الطوق والخروج إلى الجبال.

          أصبحت غروزني، وهي كانت من أجمل المدن، أصبحت مدمّرة تدميراً هائلاً، ولم يبق فيها سوى أنقاض، وكشفت موسكو خططاً لنقل العاصمة الشيشانية من غروزني إلى مكان آخر، لكثرة التدمير الحاصل فيها، وانتقاماً من المقاومة العنيفة التي واجهتهم، قلم يستطيعوا دخولها إلا بعد شهور طويلة، رأوا فيها من عظمة المواجهة ما لم يكونوا يتوقعون.

          وقد قامت القوات الروسية الداخلة إلى غروزني بالقتل والتخريب والاغتصاب والتعذيب بالإضافة إلى إغارة طائراتها على طرق مرور قوافل اللاجئين غير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ.

          كما أنهم أنشأوا معسكرات اعتقال باسم مراكز الفرز والترشيح، يأخذون الناس إليها محمولين من أيديهم وأرجلهم، يرمونهم فيها رمياً، كما يصنعون بالحيوانات، وذلك أمام عدسات المصورين. يقول أحد الشيشانيين، إذا كانوا يعاملوننا كالحيوانات أمام كاميرات التليفزيون، فماذا تراهم يفعلون في غيابها؟

          وفي هذه المعسكرات، يقتلون ما يشاؤون، ويعذبون ما يشاؤون، في لؤم وغدر ووحشية قل مثيلها في التاريخ.

          وقد نُشرت مشاهد مصورة لمقابر جماعية فوق التراب وتحت التراب، من جثث ممثل بها، فظائع تنأى عن فعلها حتى الوحوش.

          وزيادة في الغطرسة والتحدي والاستكبار ولؤم الجبناء، يقيمون احتفالاً، بعرض عسكري لجيشهم في مطار غروزني المدمّرة، وذلك في ذكرى جريمة ستالين قبل ستة وخمسين عاماً، عندما قام بطرد الشعب الشيشاني من أرضه قسراً وبالقوة، ونقله إلى سيبريا، بعد أن قُضي في الطريق على أكثر من مائتي ألف من سكان الشيشان البالغين وقتها نصف مليون.

          أما لماذا هذه الجرائم الوحشية؟ فقد بدأوها بالقول إنها لمكافحة الإرهاب، بعد أن دبرت السلطات الروسية، انفجارات موسكو، ثم نسبتها للشيشان، لتضرب على وتر الإرهاب، إلا أن كذبهم وزيف ادعاءاتهم، لم يمكث طويلاً، فقد صرح رئيس وزرائهم السابق سيرجي ستيباشين أن التحضير للعملية كان قد بدأ في آذار، أي قبل الهجوم بقرابة نصف سنة، فقاموا بالتفجيرات، بتدبير منهم، كعملية إخراج لتنفيذ ما خططوا له من قبل. ثم صرح رئيسهم بوتين من بعدُ أن الهدف من هذا الهجوم الوحشي يتعدى مكافحة الإرهاب إلى إحياء هياكل السلطة الروسية في الأراضي الشيشانية. أي أن السبب الحقيقي لهذا العدوان الغاشم هو كون هذا الشعب المسلم الصغير يريد أن ينعتق من ربقة الاحتلال الوحشي الروسي لبلادهم.

          إن هذا الشعب العظيم، قد ضرب مثلاً في التضحية، فعلى الرغم من فارق العدد مع المهاجمين الروس ـ فهم لا يتجاوزون النصف في المائة بالنسبة لروسيا، من حيث العدد ـ ورغم الفارق الهائل، في العتاد والسلاح، رغم ذلك، فقد قضُّوا مضاجع الروس لشهور طوال، ولا يزالون يقاتلون في السهول والجبال والوديان، سلاحهم ما يتيسَّر لهم وهو القليل القليل، ولكن إيمانهم بالله ورسوله، كثير كثير، فقد عطلوا دخول الروس لغروزني شهوراً طوالاً، كان الروس خلالها يعلنون مراراً دخولهم لغروزني ثم يرتدون على أعقابهم أمام ضرباتهم، ولم يدخلوها إلا بعد تدميرها بقذائفهم من بُعد، فقد كانوا يتجنبون المواجهة المباشرة مع المسلمين الشيشان لقوة بأسهم، وشدة اشتياقهم إلى الجنة، ومضاء عزيمتهم في القتال، يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون.

          إن المجازر الوحشية التي يقوم بها الروس، والجرائم البشعة التي يقترفونها، لن تضعف من هزيمة المقاتلين الشيشان ولن تفتَّ في عضدهم، بإذن الله، واستقرار الروس بعد دخولهم غروزني ليس سهل المنال، بل هو شديد المرارة، وما مضى من قتال سابق ولاحق ينطق بذلك بصوت واضح لا لبس فيه. إلا أن اللافت للنظر، أن هذه المجازر الوحشية والجرائم البشعة التي اقترفها ويقترفها الروس في الشيشان، لم تحرِّك شيئاً في أولئك الذين كانوا يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، لأحداث أقل من هذه درجات ودرجات، بحجة حقوق الإنسان وحق تقرير المصير، بل إنهم أصبحوا يوجدون الأعذار والتبريرات ويتقربون للروس بمواقف ودية.

          فبوتين يصرح ويقول إنه أجرى محادثات ودية مع كلينتون، هذا في الوقت الذي كانت المجازر تملأ سمعه وبصره، وفي الوقت الذي كان الروس يجربون طائراتهم في أجساد الأطفال والنساء.

          إن أميركا التي جيشت الجيوش وحركت مجلس الأمن سياسياً وعسكرياً لفصل تيمور الشرقية عن إندونيسيا بحجة تقرير المصير وحقوق الإنسان، نراها الآن تغض الطرف عن جرائم روسيا في الشيشان، ونسيت أو تناست ما كانت تلوكه من حقوق الإنسان وتقرير المصير في الشيشان وتعتبره شأناً داخلياً، فإذا اضطرت، أمام الرأي العام، لحاجة في نفسها، أن تذكر المجازر هناك، ذكرتها على استحياء ومرت عليها مروراً عابراً، لا تأبه به ولا نقيم لها وزناً.

          أما الاتحاد الأوروبي، فبعد تصريحه أنه قلق لما يحدث هناك، ولما كان من عدم تجاوب روسيا مع طلبه السابق وقف إطلاق النار، بعد ذلك، كأنه خشي أن يزعج هذا التصريح وذلك الموقف، روسيا، فيسافر وزير خارجية بريطانيا روبن كوك إلى موسكو ويجري محادثات مع بوتين، تصرح موسكو بعدها أنها حصلت على دعم غربي لسياساتها إثر هذه المحادثات، وأن الجانب البريطاني قد تفهم الإجراءات الروسية.

          أما حلف الأطلسي الذي صرح أمينه العام أنه يرى أن استخدام القوة الروسية في الشيشان تعدّى المعقول ويؤدي إلى مشاكل إنسانية، عاد هذا الحلف فأجرى محادثات في موسكو، صرح بوتين بعدها أن موسكو تعتبر زيارة جورج روبرتسون ـ الأمين العام للحلف ـ دليلاً على أن حلف الأطلسي يولي أهمية كبيرة لعلاقاته مع روسيا، وتحقق الزيارة ـ كما أفادت التقارير ـ نتائج مهمة على صعيد رأب الصدع بين روسيا والحلف.

          أما في روسيا نفسها، فيدور نقاش في جامعة موسكو من منظمات مختلفة حول انتهاك حقوق الإنسان في الشيشان فيقول أحد المتحاورين، أن لا أحد ينتهك حقوق الإنسان إذ لا يوجد في الشيشان بشر!

          إلى هذا الحد بلغ الصلف والاستكبار والنفاق السياسي في بلاد الغرب! لكن لماذا نلومهم على مواقفهم القبيحة هذه؟ ولماذا نتوقع من الدول الغربية الكافرة المستعمرة والطامعة في بلاد المسلمين، أن تتخذ مواقف غير ما اتخذت؟ فهل نتوقع منها أن تقف مع أهلنا في الشيشان؟

          إن هذه الدول، متفقة من حيث مواقفها الحقيقية، ضد الإسلام والمسلمين، إن مصالحهم في ذلك متشابهة، والقيم عندهم متغيرة، والاستعمار طريقة لهم في امتصاص الدماء وقتل الأحياء، يلوكون بألسنتهم حقوق الإنسان وتقرير المصير إن كان في ذلك تحقيق لأهداف رسموها، ولا يقيمون وزناً لقيم إن خالفت هذه الأهداف. فتقرير المصير في تقسيم بلد إسلامي كإندونيسيا، شرعي مقبول، وانعتاق بلد إسلامي من ربقة الاحتلال الروسي الذي احتله بالقهر والقسر، غير شرعي وغير مقبول ومخل بالسلم العالمي. هذه هي القيم عندهم وهذه هي مكاييلهم، فهجوم الروس على الشيشان بهذه الوحشية وتلك الفظائع، مقبول ومرضي عنه، لأنه من جهة ضد المسلمين، ومن جهة أخرى لأنهم يتطلعون لتحقيق مصالح لهم مع روسيا، على اختلاف وجهة نظرهم في تفصيلاتها.

          أقول لماذا نلوم الغرب الكافر على ما قام به ويقوم. وهم من هم في عدائهم للإسلام وأهله؟ إنهم يعملون لمصالحهم وتحقيق أهدافهم الخبيثة. لماذا نلومهم، وملايين المسلمين المنتشرة في الأرض لا تصنع شيئاً يسر صديقاً أو يخيف عدواً؟

          إنه لأمر يقطع القلوب، أن يقاتل الشيشان وحيدين في الميدان، يجابهون عدواناً وحشياً ضخماً، يجابهونه بإيمان صادق وعزم ثابت، ثم يلتفتون يمنة ويسرة، لعلهم يجدون إخوانهم حولهم فلا يجدون، وينادونهم فلا يستجيبون.

          إن الحكام في بلاد المسلمين، عرباً وغير عرب، يشاهدون ما يجري دون حراك، كأنهم على الحياد، لا بل هم ليسوا على الحياد، فإن ممثلي روسيا، يزورونهم ويبادلونهم القبلات، ويعلنون أمام هؤلاء الحكام، إعلاناً صريحاً لا تورية فيه، أن ما يحدث في الشيشان، أمور داخلية، ضد الإرهابيين، وهم يسمعون، ويشهدون على ما يسمعون، بل ويصفِّقون، فإن قال أحدهم على استحياء إن المجازر زادت عن المقبول والمعقول، عاد فأوَّل ما قال كي لا يغضب الوحش الكاسر الذي ولغ في دماء المسلمين.

          إن الله أوجب على المسلمين نصرة بعضهم بعضاً (وأن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) ورسوله صلى الله عليه وسلم يوجب التناصح بينهم ونصره مظلومهم وأنهم كالجسد الواحد، ومع ذلك تسفك دماء الشيشان والمسلمون ينظرون، وهم فوق المليار عدداً ولكنهم غثاء كغثاء السيل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستتداعى عليكم الأمم كتداعي الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل» ويضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت».

          وبعدُ، أليست مصيبة؟ أليست قاصمة الظهر؟ أن لا نجد حاكماً في بلاد المسلمين يقود جيشاً أو يرسل جيشاً لنصرتهم، أو حتى يقف موقف صلباً، ذا بال، في وجه طغاة الروس وطغيانهم.

          أليس هناك معتصم، أو شبه معتصم، يجيب؟

          أليس منهم رجل رشيد؟

          ألم يحن الوقت لأن يدرك المسلمون أن حكامهم غرباء عنهم، وأنهم عندما أضاعوا خلافتهم وقعدوا عن إعادتها قد هانوا وذلوا؟

          ألم يحن الوقت لأن تُبْذَلَ المهج والأرواح للعمل مع العاملين لإعادة الخلافة للوجود، فتنطلق الجيوش مُزيلةً ما اصطُنع من حدود، يقودها ويرأسها خليفة المسلمين، وأمير جهاده، وأمراء الأجناد، لضرب أولئك الطغاة ضرباتٍ تنسيهم وساوس الشيطان، فيعلموا أن انتهاك حرمات المسلمين عسير عسير ودونه خرط القتاد.

          إن قضايا الأمة العظام تستأهل كلمة حق وفعل حق، لعله يصعق خائناً، أو يوقظ نائماً، أو يعيد العقل لمضبوع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *