العدد 155 -

السنة الرابعة عشرة _ ذو الحجة1420هــ_ آذار 2000م

التلكؤ والتبريرات في طبع اليهود

          قال تعالى: )وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71) وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73) ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74).

          من هذه الآيات يتبين ما يلي:

  1. هناك تقديم وتأخير، فالآيات تفيد أن هناك قتيلاً قتل ولم يعرف قاتله، فأمرهم الله أن يذبحوا البقرة ويضربوا المقتول بشيء منها بعد ذبحها فيحيى القتيل ويخبر عن قاتله، ولكن موضوع ذبح البقرة هو الذي بدأت به الآيات (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ثم بعد إكمال الموضوع ذكر الله سبحانه (وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون @ فقلنا اضربوه ببعضها…) والتقديم والتأخير في كتاب الله لغرض وليس لمجرد التقديم، فالقرآن نزل بلغة العرب وفصحاء العرب لا يقدمون ولا يؤخرون إلا لغرض، والمتدبر في هذا الأمر يجد أن هناك غرضين لذلك:

          أ. بدأ بقصة ذبح البقرة لإبراز ضرر التلكؤ في تنفيذ أمر الله وتعمد البحث عن التبريرات لعدم التنفيذ كالإكثار من الاستفسار والتساؤلات غير الضرورية حول الموضوع المطلوب تنفيذه. ثم بيان أن الله سبحانه يزيد المشقة على الذين يبحثون عن التبريرات ويكثرون التساؤلات غير الضرورية على نحو ما قال سبحانه في الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم)المائدة/آية 101، وفي هذا بيان عام لكلّ من يدين لله سبحانه في كلّ زمان ومكان أن ينفذ أمر الله على وجهه دون محاولة إيجاد التبريرات بعدم التنفيذ وقد يكون لأهمية هذا الأمر علاقة بتسمية هذه السورة بالبقرة.

          ب. أما الغرض الثاني فإن في هذا التقديم والتأخير إظهارا للموضوع الواحد كأنه موضوعان في كلّ منهما بيان، فلو كانت آيات قتل النفس في البداية ثم الأمر بذبح البقرة للدلالة على القاتل لكانت القصة على هذا النحو واحدة ولارتبطت في الذهن بعبرة واحدة:

          ذبح البقرة لبيان القاتل.

          أما بيانها كما جاء في كتاب الله فكأنهما قصتان بموعظتين:

الأولى: حول تنفيذ الأمر بدون تلكؤ ولا تبريرات.

والثانية قدرة الله سبحانه على إحياء الموتى بشكل عام ومن ضمنها بيان القاتل )فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون( فكان ذكر هذا الموضوع في آخر آيات ذبح البقرة كأنه موضوع جديد.

  1. إن موسى ـ عليه السلام ـ طلب منهم بأمر من ربه سبحانه أن يذبحوا البقرة، فلو أنهم عمدوا لأي بقرة فذبحوها لكانوا قد نفذوا أمر الله بسهولة ويسر: “لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم” [تفسير الطبري: 1/374]. ولكنهم بدلاً من ذلك بدأوا في التلكؤ والتبريرات والتساؤلات حول البقرة لإطالة أمد التنفيذ فشقّ الله عليهم في نوع البقرة المطلوبة فكانوا كلما استفسروا عن شيء منها شقّ الله عليهم في الجواب حتى سدت عليهم منافذ التساؤلات فكانت البقرة المطلوبة بالمواصفات الجديدة مكلفة عليهم في الجهد والثمن؛ فقد قال لهم موسى ـ عليه السلام ـ )إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة(أية بقرة، فلما استفسروا عنها أعلمهم سبحانه )إنها بقرة لا فارض ولا بكر( أي لا هرمة ولا مسنة، والفارض التي فرضت سنها فقطعتها وبلغت آخرها، ولا هي بكر أي صغيرة، بل عوان أي النصف بين الكبيرة والصغيرة التي ولدت بطنا أو بطنين. وهكذا شقوا على أنفسهم بسؤالهم فبدل أن تكون بقرة على الإطلاق أصبح المطلوب بقرة مقيَّدة بسن معينة. ولكنهم مع ذلك لم يبحثوا عن هذه فيذبحوها بل زادوا في الاستفسار فشقّ الله عليهم )إنها بقرة صفراء فاقع لونها( أي أشدّ ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد أصفر فاقع. ولكنهم كذلك لم يفعلوا بل عادوا بالسؤال والاستفسار فشقّ الله عليهم في الجواب )إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها( أي هي بقرة مدللة عند صاحبها لا هي )ذلول( أي لم تذلل للركوب أو حرث الأرض ولا هي )تسقي ) فليست من النواضح التي ينقل عليها الماء لسقي الحرث أي الزرع، ثم هي (مسلّمة)أي خالية من العيوب و(لا شية فيها)أي ولا شيء فيها غير الصفرة فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها. و(شية) في الأصل مصدر من: وشاه وشيا وشية أي أصاب لونه الغالب لون آخر.

          وهكذا سدت عليهم منافذ السؤال فاضطروا للبحث عن بقرة بهذه الأوصاف فحصلوا عليها بعد جهد جهيد في مدة البحث وغلاء الثمن. ولولا أنهم أُلجئوا لذلك بعد استنفاذ أسئلتهم ما فعلوه فكأنهم كانوا لا يريدون أن يُعرف القاتل لمنـزلة له أو نحوها (فذبحوها وما كادوا يفعلون).

  1. ثم يعود الله سبحانه بعد ذلك لذكر ما طلب ذبح البقرة لأجله وهو القتيل الذي وجدوه مقتولا ولم يعترف أحد منهم بقتله، وقوله سبحانه (وإذ قتلتم نفساً) يدلّ على أن القاتل من بينهم وليس غريباً عنهم. وقوله سبحانه (فادّارأتم فيها) أي تدافعتم فكل منكم قائل: لم أقتل بل قتله غيري فيدفع كلّ واحد القتل عن نفسه إلى غيره.

          فأمرهم الله سبحانه أن يضربوا القتيل بجزء من البقرة المذبوحة، فلما فعلوا أحياه الله سبحانه وأعلمهم قاتله وأظهره الله بعد أن كانوا يكتمونه (والله مخرج ما كنتم تكتمون).

          وكان في ذلك ـ إحياء الموتى ـ آية لهم على قدرة الله على بعثهم أحياء يوم القيامة، وبخاصة الذين ينكرون البعث منهم في ذلك الوقت، ففي هذا الإحياء دلالة على ثبوت الحجة عليكم أيها المنكرون للبعث لتعقلوا وتعلموا أن الله هو المحيي والمميت.

  1. يخبرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه على الرغم من هذه الآيات ـ إحياء الموتى وغيره ـ إلا أن كفار بني إسرائيل الذين شاهدوا تلك الآيات لم يؤمنوا لقساوة قلوبهم أي لغلظتها وجفوتها فهي معاندة للحق، وذلك من قسا إذا جفا وغلظ وصلب.

          وقد شبه الله سبحانه قلوبهم لقسوتها بالحجارة أو أشد قسوة (فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة) وحرف العطف (أو) في العربية يأتي لعدة معانٍ: التخيير بين المعطوفين، أو الإباحة، أو كليهما، أو بمعنى حرف العطف (و)، أو للإبهام على السامع، أو بمعنى (بل) وغيرها والقرينة تدلّ على المعنى المراد. ومن تكملة الآية الكريمة فإنها تدلّ بمفهومها أن الحجارة فيها نفع وخير أكثر من قلوبهم، وهذا يعني أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة وليس مثلها، وهنا تكون (أو) بمعنى (بل) أي أن الآية (فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة) تعني “فهي كالحجارة بل أشد قسوة”، فقلوبهم أقسى من الحجارة لأن في الحجارة نفعاً وخيراً وقلوبهم ليس فيها شيء من ذلك. فبعض الحجارة يتفجر منه الماء بغزارة وبعضها يخرج الماء من شقوقه ينابيع، ومنها ما يهبط من خشية الله كما أعلمنا الله سبحانه عن الجبل الذي صار دكاً إذ تجلى له ربه (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا)الأعراف/آية 143.

          ثم يختم الله سبحانه الآيات الكريمة بأن الله سبحانه ليس غافلاً عن أعمالهم فهو سبحانه لهم بالمرصاد حافظ لأعمالهم لا يسهو عنها ولا ينساها بل يجزيهم عليها في الآخرة أو يعاقبهم عليها في الدنيا.

          وأصل الغفلة عن الشيء تركه على وجه السهو عنه والنسيان له، فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن الأفعال الخبيثة لأولئك القاسية قلوبهم، بل هو لها محصٍ ولها حافظ.

          وبعد، فإن المتدبر لهذه الآيات العظيمة، يتبين له طبع من طبائع اليهود المتأصلة فيهم وهو التلكؤ في تنفيذ ما يطلب منهم والبحث عن التبرير وراء التبرير لإطالة أمد التنفيذ إن لم يتمكنوا من إلغائه، هذه حالهم مع الله خالقهم ومع رسله إليهم وأنبيائه والناس أجمعين.

          فالحقوق لا تؤخذ منهم بالحجج والإقناع، ولا في معاهد الدراسات والمفاوضات بل تنتزع منهم انتزاعاً بضربات تنسيهم وساوس الشيطان، وهو العلاج الذي عالجهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة نتيجة خيانتهم ونقضهم للعهود والمواثيق وهذا هو علاجهم الوحيد في فلسطين وإن غداً لناظره قريب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *