العدد 223 -

السنة التاسعة عشرة شعبان 1426هـ – أيلول 2005م

مظاهر الوحدانية 3 تفرد الله سبحانه بالتشريع (الأمر والنهي)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مظاهر الوحدانية 3

تفرد الله سبحانه بالتشريع (الأمر والنهي)

ومن أجل أن الله تعالى متفرد بالخلق والملك والرزق والتدبير، فإنه سبحانه قد تفرد بالأمر والنهي. فله وحده سبحانه أن يقول لعباده: افعلوا أو لا تفعلوا. وقد كلف الله سبحانه الخلق أن يطيعوا أمره وحده ويدينوا لشرعه وحده، وبين لهم أن من شأن الخالق، المالك، الرزاق، المدبر، أن يدان له ويخضع لأمره. والقرآن قد بين ذلك غاية البيان مؤكداً انفراد الله تعالى بالأمر والحكم، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران:154]، وقرن سبحانه بين استحقاقه للأمر مع تفرده بالخلق في قوله تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:54] قال القرطبي: “خلقهم وأمرهم بما أحب، وهذا الأمر يقتضي النهي”.

والله يثيب ويعاقب في الآخرة على حسب مقتضى امتثال الخلق إلى الشرع أو عدم امتثالهم في الدنيا، فيجازي كلاً بحسبه، وكلا بعمله وعلمه، وما شرع في حقه، فهو سبحانه القائل: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1] قال الطبري: “أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالثواب والعقاب”. فالمكلفون متعبدون بالشريعة، ومثابون أو معاقبون على حسب مواقفهم حيالها واللطف كل اللطف يكون للناس إذا احتكموا للشرع، إذ ما أراد الله لهم بالشريعة إلا النجاة والرحمة والغفران قال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6] قال الكيا الهراسي في تفسيرها: “أي: إنا لم نرد تكليفكم لنشق عليكم، وإنما أردنا بتكليفكم اللطف بكم في محو سيئاتكم وتطهيركم من ذنوبكم”.

إن القرآن الكريم الذي تكثر فيه الأدلة المثبتة لوحدانية الله وتفرده بالخلق والملك والرزق والتدبير، هو نفسه الذي يكثر من الحجج الدالة على تفرد الله سبحانه بالأمر شرعاً وحكماً. ومن العجيب أن غالب المكلفين لا يجادلون في تفرد الله بالخلق والملك والرزق والتدبير، أما ثمرة كل هذا وحصيلته المتمثلة في إفراد الله سبحانه بالحكم الشرعي فإنه لا يكاد يسلم لله به منهم إلا القليل، فينحرفون من أجل ذلك عن الشريعة… فالقليل من الناس يقرون بانفراد الله بالتشريع، وقليل من هؤلاء من يخضع لهذا التشريع الخضوع اللازم، وهم أتباع الرسل، وأهل الإيمان في كل زمان ومكان.

ولهذا نرى المرسلين والأنبياء قد نادوا في أقوامهم بإفراد الله بالأمر كله، والحكم كله. فكلمة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [يوسف:40] صدع بها يوسف، وصدع بها يعقوب، عليهما السلام، وأظهرها محمد صلى الله عليه وسلم عن أمر الله له: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) [الأنعام:57] ودعا أهل الكتاب إلى الاجتماع حول مضمونها قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ) [آل عمران:64] قال القرطبي: “لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى”.

إن كلمة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) هي كلمة تحدى بها الرسل وأتباعهم جبابرة الأرض، وفاصلوا عليها طواغيت العالم، ونازلوا من أجلها أهل البغي والطغيان؛ لأن الإقرار بها إقرار بوحدانية الله كاملة غير منقوصة. فلا يعد مقراً بوحدانية الله من أثبت له توحيد الربوبية دون توحيد الإلهية.

فالإقرار بتوحيد الربوبية وهو أن الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبره، وهذا يقر به المسلم والكافر، ولا بد له منه، ولكن لا يصير الإنسان مسلماً حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميز المسلم عن المشرك، وأهل الجنة من أهل النار.

والآيات التي تثبت أن الأمر لله وحده، وأن الحكم لله وحده، كثيرة، وأنه يجب إفراد الله تعالى بالأمر والحكم، والرجوع إليه فيهما وحده:

قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى)[النحل:90].

وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء:58].

وقال تعالى: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)  [الممتحنة:10].

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)[المائدة:1] قال الطبري، رحمه الله، في تفسيرها: “يعني بذلك جل ثناؤه، أن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما يشاء إيجابه، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه، ثم أورد بسنده إلى قتادة أنه قال: (إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) أي إن الله يحكم ما أراد في خلقه، وبين عباده، وفرض فرائضه، وحد حدوده، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته”.

وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)  [الشورى:10]   «أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم». كما قال ابن كثير.

وقال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [لمائدة:50] قال ابن كثير: أي “ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *