أمـة الوسـط
2006/02/06م
المقالات
3,847 زيارة
أمـة الوسـط
“أمة الوسط” مصطلح قرآني ووصف رباني اقترن بالأمة الإسلامية فكانت خير أمة أخرجت للناس.
“أمة الوسط” صفة قرآنية جليلة أسبغها الله سبحانه على عباده المؤمنين برسالة الإسلام العظيم، والعاملين لتبليغها.
“أمة الوسط” مقياس شرعي دقيق، يُقاس به أداء الأمة الإسلامية في كل مكان وزمان، فتدرِك به مستوى أدائها: وهل هو في حالة مُرْضية أم في حالة مَرَضية؟؟
=================================================================
فأمة الوسط إذاً هي ذلك المقياس الشرعي الدقيق، وتلك الصفة القرآنية الجليلة، وذلك المصطلح القرآني الهام، ولكنه لم يعد في هذا الزمان يحظى بتلك الأهمية في حياة الناس، إذ اختلط أمره على الكثيرين، بل وأفسد معناه الكثيرون، فأخرج البعض مضامينه الحقيقية منه، وأدخلوا إليه مضامين جديدة لا تخضع للشرع، وإنما تخضع لحكم العقل ومقاييس الهوى.
لقد فسَّره البعض تفسيرات حديثة مسايرة للواقع ونابعة من فقه الهزيمة وثقافة الاستسلام، فقالوا بأن الوسط هو ما بين التطرف والاعتدال، وقالوا بأن للوسط معنى جغرافي يتعلق بالموقع والمناخ والتضاريس، وأقام البعض الآخر حزباً متوسطاً أسموه بحزب الوسط بحيث يتوسط بين العلمانية والتدين، وهكذا اختلط أمر هذا المصطلح على الناس واختلط فيه الحابل بالنابل فأصبح أمره بحاجة إلى إعادة توضيح وبلورة، وتسليط الضوء عليه؛ لمعرفة واقعه معرفةً واضحةً، ولإدراك معناه إدراكاً صحيحاً بحيث تتضح صورته في الذهن فتكون دقيقة ومبلورة وقاطعة تزيل كل التباس.
يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة 143] في هذه الآية الكريمة يقترن معنى الوسط الذي وُصِفت به أمة الإسلام بمعنيين إضافيين هما: شهادة الأمة على الأمم الأخرى، وشهادة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمة الإسلامية.
والوسط من ناحية لغوية يعني العدل، والخير، والخيار، والأفضل، والأجود، والأشرف، قال صاحب لسان العرب: «أوسط الشيء أفضله وخياره وأعدله»، وقيل: «وسط المرعى خير من طرفيه» وقال ابن كثير: «الوسط الخيار الأجود»، كما يُقال: «قريش أوسط العرب نسباً وداراً»، أي خيرها، ويقال: «كان محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسطاً في قومه»، أي أشرفهم نسباً.
ولا يبتعد معنى الوسط من ناحية شرعية كثيراً عن معناه اللغوي، فقد روى التِّرْمِذِيُّ عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) قال: «عدلاً» وقال هذا حديث حسن صحيح. وأما القُرْطُبِيُّ فقال: «الوسط: هو ما دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط هو العدل. وأصل هذا أن أحمدَ الأشياء أوسطها»، وذكر صاحب كتاب (التيسير في أصول التفسير) في معنى الآية الكريمة: «وهنا صيغة الإخبار تأتي في معنى الطلب أي طلب تبليغ الإسلام» وأضاف: «إن العدالة هي شرط للشهادة؛ لذلك فالأمة الوسط هي الأمة المؤهلة للشهادة على الأمم، وهذا فضل من الله ومِنَّة منه على المسلمين أن جعلها أمةً وسطاً».
ولمزاولة هذا المعنى على أرض الواقع فإنه يتطلب من الأمة الإسلامية إذا ما أرادت الالتزام بمعنى الوسط أن تتصدر العالم، وأن تكون في مركز الصدارة والقيادة فيه، لكي تقيم الحجة على الناس.
فمعنى الوسط إذاً ليس له أي علاقة بالتطرف والاعتدال، أو بالحل الوسط، أو بالمعنى الجغرافي أو المادي أو ما شابه ذلك، فالوسط كما ورد في الآية هو ذلك العدل والخير الذي على الأمة الإسلامية أن تقترن به، فلا دخل له بالتطرف والاعتدال، أو بالتسوية بين المتناقضات، أو بالحل الوسط الذي يقول به الغرب، وإنما علاقته واضحة بالعدل الذي يستلزم الشهادة على الناس، وبالخير الذي يتطلبه حمل الهداية إلى العالم، فالخيرية هي صنو العدل، وهما معاً صفتان مطلوبتان للتبليغ، وللأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر. ويعضد هذا المعنى قوله تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [آل عمران 110] وقوله تعالى: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران 104].
فهذه أمور تتناسب مع معنى الوسط الشرعي، وتتناسب مع معنى الشهادة على الناس الوارد في قوله تعالى: ( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) فتبين جوهر علاقة الشهادة مع الوسط بمعنى العدل. يقول صاحب التيسير في أصول التفسير: “هذا من وجه أن الأمة الإسلامية شاهدُ عدلٍ على الأمم الأخرى بعد الإسلام من حيث تبليغها الإسلام لهم، ومن وجه آخر فهي شاهدُ عدلٍ على الأمم الأخرى قبل الإسلام من حيث تبليغ الرسل السابقين رسالات ربهم لأقوامهم كما جاء في الحديث الذي أخرجه البُخَارِيُّ وأَحْمَد: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك، فيُدعى قومه فيقال لهم: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلَّغتَ قومك؟ فيقول: نعم. فيقال له: ومن يشهد لك؟ فيقول: محمدٌ وأمته. فيُدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلَّغَ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيُقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبرنا أن الرسل قد بلّغوا فذلك قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )» وفي رواية: «فيؤتى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيُسأل حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله عز وجل: ( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )».
وكذلك أخرج البُخَارِيُّ ومُسْلِمُ عن أَنَسٍ قال: مرّوا بجنازة فأُثني عليها خيراً فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «وجبت وجبت وجبت» ومرّوا بجنازة فأثني عليها شراً فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «وجبت وجبت وجبت» فسأله عمر (رضي الله عنه) فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض» وزاد التِّرْمِذِيُّ: «ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )».
ويتناسب أيضاً مع أمة الوسط المعنى الثالث في نفس النص القرآني ( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) وهذا يشمل أيضاً حاضر الأمة وماضيها ومستقبلها. وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهم هل بلَّغت؟ اللهم فاشهد» يُقرِنُ الشهادة بالتبليغ، فالتبليغ هو موضوع الشهادة وهو قائم ومستمر إلى يوم الدين.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) [الحج 78].
ومن هنا كانت محاولة تلبيس معنى الوسط الوارد في الآية الكريمة بمصطلحات غربية وضعية تتعلق بالتطرف والاعتدال والوسطية محاولة مرفوضة؛ لأنها تُفضي إلى تقسيم الأمة إلى تيارات متنازعة، وتؤدي إلى اقتتال هذه التيارات، ووقوع الفتنة ونشوب الحرب الأهلية. فمعنى الوسط الوارد في الآية يخص كل المسلمين بكل تياراتهم، ولا يجوز أن ينفرد به أي تيار أو حزب أو مذهب، فهو ثابت من الثوابت الإسلامية، ويجب أن يُعمل ليكون وصفاً للأمة بكليتها، وأما إلصاق هذا الوصف بمجموعة، ونزعه عن مجموعة أخرى، فهذا معناه ضرب الأمة ببعضها، وخضوعها لأعدائها؛ ولذلك كان الواجب على فئات الأمة وعلمائها ومذاهبها أن يقتصر في تعريف الوسط على العدل فقط كما فسَّره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما فسَّره كبار المفسرين، وأن لا ينجر البعض بحسن نيةٍ أو بسوئها إلى منـزلق اقتباس المعاني الغربية وتنـزيلها على المصطلحات الإسلامية بليِّ أعناقها والتأول المصطنع في تفسيرها.
وقد بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سمع صحابياً يتلو على مسامعه قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) [النساء 41] قال: حسبك، والدموع تترقرق من عينيه، وكأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتوقع ما ستؤول إليه أحوال المسلمين، وما أحدثوا من بعده، وما فرَّطوا في جنب الله، وما أضاعوا من حرمات، وما تسببوا في إضعاف المسلمين وإفقادهم المكانة المرموقة التي تليق بهم وذلك بعد أن أُسقطت دولتهم الحقيقية دولة الخلافة، وتمزقت أقطارهم أشلاء في دويلات هزيلة لا تقوى أن تدفع عن نفسها أية أخطار خارجية، ولا تملك مسوغات نشر الهدى والإسلام إلى العالمين.
لذلك كان أقصر طريق لعودة الأمة الإسلامية إلى تطبيق مفهوم الوسط هو عودتها إلى الحكم بما أنزل الله واستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الإسلام الحقيقية دولة الخلافة، عندها تستحق هذه الأمة الكريمة أن توصف بالخيرية وبأمة الوسط، أمة العدل، حاملة الرسالة الربانية الحقة إلى العالمين.
أحمد الخطيب ـ القدس
2006-02-06