العدد 228 -

السنة العشرون محرم 1427هـ – شباط 2006م

الديمقراطية وانهيار الصرح الأخير

الديمقراطية وانهيار الصرح الأخير

تشهد بريطانيا في هذه الأيام نقاشاً محتدماً حول قوانين مكافحة “الإرهاب”. وقد اشتملت باقة المقترحات الجديدة على عددٍ من المواد التي تؤذن بانهيار صرح الديمقراطية في بريطانيا، أعرق الديمقراطيات الحديثة وآخر معقل لها. وعلى رأس التشريعات الجديدة الاعتقال لمدة 90 يوماً من غير تهمة، وحظر واعتقال كل من يدعو إلى “الإرهاب” والكراهية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، أحزاباً وأفراداً.

=================================================================

والجلي تماماً هو أن المسملين هم المستهدفون تحديداً من وراء القوانين المقترحة، وهذا ما يظهر من خلال النقاش الدائر في البرلمان، حيث قام أحد أعضاء مجلس النواب بالاعتراض على القانون الأول مظهراً جوره، ذاكراً: كيف نعتقل “محمداً” مدة تسعين يوماً بدون تهمة؟ وماذا لو اكتشفنا في نهايتها أنه ليس المطلوب؟ وأن “محمداً” المطلوب هو شخص آخر؟! وهذا يوضح أن المطلوب في نهاية المطاف يجب أن يكون “محمداً” وليس جورج ولا جون وليس غيره، وأية دلالة أعمق من ذلك. وهذا من قبل المعارضة فما بالك بالحكومة وأنصارها.

كما سمي حزب التحرير في سياق المداولات، على اعتباره المقصود بمقترح الحض على الكراهية والإرهاب. وهذا ليس استنتاجاً، فقد سبق أن ذكر توني بلير حزب التحرير بالاسم، وقد أقرَّ هو ووزير داخليته كلارك بصراحة إلى حاجتهم لتبني قوانين جديدة تمنحهم حق حظر حزب التحرير وتجريم العضوية فيه.

وللإشارة، فإن تداعيات الحظر تعني فرض عقوبات بتهمة العضوية في حزب غير مشروع، والتي تصل إلى مدة عشر سنوات سجن. ولمن لا يعرف، فإن حزب التحرير لا يوجد على أجندته هدف الإطاحة بالملكة إليزابيث أو حكومة بلير، كما أن بريطانيا أصلاً هي خارج مجال تركيزه السياسي. فالحزب يجهد منذ تأسس عام 1953 في القدس، لإحداث نهضة للأمة الإسلامية، وإقامة دولة الخلافة في العالم الإسلامي. كما لم يعهد على الحزب منذ نشأته أن اعتدى على أحدٍ أو تورط في أية أحداث عنف مطلقاً. ما يعني أن حظر الحزب هو اعتداء صارخ على حق الإنسان بتبني مجرد فكرة، حتى ولو اقتصر بالدعوة إليها على الكلمة والنقاش والحوار، وكان ميدان تنفيذها خارج الغرب كله.

ومن الجدير ذكره أن الحزب يلاحق بلا هوادة على أيدي الأنظمة الطاغوتية الاستبدادية العمياء، كما هي الحال في سوريا، ومصر، والعراق، والأردن، وليبيا، وتركيا. وها هو الآن يدرج على لوائح الحظر في دول المنظومة الغربية التي تتباهى بالديمقراطية. ما يعني أن الديمقراطية، كما هي الدكتاتورية، تحظر الكلمة التي تتهدها وتظهر عوارها وتبين للناس تفاهة الأسس التي بنيت عليها، وأن شعارات الرأي الآخر وحرية الكلمة ما هي إلا كذبة سمجة، لا تنطبق إلا على من يغرد داخل السرب.

وهكذا تتوالى الأيام وتتعاقب الأحداث لتكشف زيف وهشاشة الديمقراطية على حقيقتها، ولتنهار ديمقراطية المنظومة الغربية السياسية الأفاقة تباعاً. فبعد مشاهد غوانتانامو وأبو غريب والمعتقلات الأميركية الشريرة، والتمييز العنصري، إضافة إلى حرب الحجاب بلا هوادة في فرنسا، وملاحقته وطرد وحظر من ينحصر زاده في الكلمة، كما هو شأن ألمانيا والدانمرك وأستراليا وبريطانيا مع حزب التحرير. فبعد كل ذلك وغيره، نستطيع أن نقول إن أفول نجم الديمقراطية بات أمراً حتمياً ومسألة وقت لا أكثر، وإن البشرية أمام تحول قادم لا محالة، بخاصة مع تصاعد درجة الظلم الذي تمارسه الدول الكبرى وأذنابها في العالم بشكل مقزز وعلى مرأى ومسمع الجميع باسم تعزيز الديمقراطية ونشرها ومحاربة “الإرهاب”.

لقد كانت الديمقراطية دوماً اسماً بلا مضمون سوى ذلك الذي يريده لها أصحاب القرار والسلطة في كل زمان ومكان ادعى تطبيقها فيه. ولم تتحق العناوين البراقة التي نسبت للديمقراطية إلا بالقدر الذي تنتفع تلك الأنظمة منها. وأما حكم الشعب فهو مجرد كذبة مدعاة لشيء لم يتحقق يوماً قط، لا في أثينا ولا في لندن ولا في سواهما. والديمقراطية ليست بأيديولوجية إلا بقدر ما هي تعادي الأيديولوجيا، وهي خصم لدود لمن أراد أن يبني حياته على أساس تصور مبدئي له عن الكون والحياة وعن علاقته بأسباب نشوئه ومآله. بل إن الديمقراطية في حقيقتها لا تعني سوى مواءمة الإنسان مع المادية والغرائزية المحضة، وتسخير كل الإمكانيات السامية والقدرات العاقلة لدى الإنسان في سبيل تحقيق ما يتوهم من لذة ومنفعة أنانية بحتة.

وما تصريحات وتصرفات نماذج كرامسفيلد وتشيني وبوتين وكلارك وساركوزي وغيرهم من أعلام ساسة الديمقراطية الممجوجة، إلا أمثلة صارخة على الظلم الذي يراد فرضه على البشرية بحجة دمقرطتهم وحماية الديمقراطية، تلك السياسات التي ستودي بالجميع إلى الهاوية. وهل من تفسير سوى التعسف البائن، لحظر من يدعو إلى تغيير أنظمة  الطغيان في العالم ولا يملك سوى فكره ولسانه، بينما يرسل بوش وبلير بمائة وخمسين ألف جندي لتغيير نظام صدام حسين بل هي قسمة ظالمة جائرة يعلن الغرب فيها إفلاسه بلا مواربة على الملأ. حيث بات القضاء على الفقراء في شرعهم هو السبيل للتخلص من أزمة الفقر، والقضاء على المسلمين هو السبيل للجم ما يسمونه الإرهاب لفظاً ويعنون به الإسلام فعلاً، وحظر المناوئين للنظام الدولي، والمنادين بالعدالة والخلاص للبشرية، هو السبيل للاستقرار ونشر الديمقراطية.

لقد أطنب الغرب آذان العالم بديمقراطيته، مع أنها فكرة لا تقف على قدمين، وهي أوهى من أن تصمد في نقاش جدي لمدة دقائق معدودات، وهي كما ذكر أحد الفلاسفة الغربيين عنها: «إذا حكما على الديمقراطية حكماً ديمقراطياً بعدد من معها وعدد من ضدها من المفكرين لكانت هي الخاسرة». كما علق أحد المفكرين الدانمركيين وهو في منتهى حالة التأمل قائلاً: «إنه إن كان ثمة فائدة للديمقراطية، فإنها لا تزيد عن كونها أداة إحصائية لا أكثر».

فهلا أفاق العالم بعد كل هذا الواقع الأليم من سكرته، وأيقن حاجته إلى مبدأ يخضع فيه الإنسان لخالقه، بعد أن قدمت لنا الديمقراطية المقفرة الجدباء حربين عالميتين قضتا على عشرات الملايين من البشر، وأفرزتا دولة لليهود في فلسطين على أنقاض أشلاء شعب شتت في أصقاع الدنيا، فضلاً عن نشر الفقر والظلم والبؤس في العالم، وقوننة الاستعمار، ومص خيرات الشعوب ونحرها.

حسن الحسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *