العدد 152 -

السنة الرابعة عشرة _رمضان1420هــ _ كانون الثاني 2000م

السيطرة اليهودية على القرار السياسي الأميركي بين الحقيقة والوهم

   يشيع بين الناس مقولة أن اللوبي اليهودي يسيطر على القرار السياسي الأميركي، يظهر ذلك في الأدبيات السياسية وحتى على لسان عامة الناس، حتى بدت وكأنها حقيقة راسخة، لم تعد تقبل الجدل أو المناقشة، فاليهود يسيطرون على الكونغرس والإدارة، فضلا عن الاقتصاد والإعلام، وقد بولغ في كثير من الأحيان في تصوير هذا النفوذ، وتعداد جوانبه وقوة تغلغله، حتى بدا وكأنه أسطورة، تصور أذل خلق الله بأنهم قوة خارقة تسيطر على مقدرات وقرارات أقوى دولة في العالم، واستغل الحكام هذه المقولة ليبرروا التخاذل أمام اليهود، وعقد الصلح والتطبيع معهم.

صحيح أنه لا يهمنا كمسلمين من يسيطر على من ومن يسخر من؟ اليهود الكفرة أم النصارى الكفار، ولكن من باب ضرورة فهم أعمال الدول وسياستها، وواقع ما يجري في العالم، من أجل القيام بأعمال الرعاية تجاه الأمة الإسلامية، رأيت ضرورة بحث الموضوع، خاصة ما يلمس من انعكاسات سلبية لهذه الفكرة الخاطئة والمغلوطة على عقول الكثيرين من الناس من أبناء هذه الأمة، إذ ولدت نوعاً من الكسل والخمول واليأس والإحباط من إمكان تغيير الواقع الذي نعيشه، ونقلت المعركة من صعيدها الحقيقي: صراع بين المسلمين والصليبين، إلى صراع مع حفنة يهود، ونسيت الأمة أعداءها الحقيقيين، الذين هدموا الخلافة، ومزقوا الأمة ونهبوا خيراتها، وما زالوا يكيدون لها المكائد، ويحيكون لها المؤامرات، حتى لا تستأنف حياتها الإسلامية، وتعود كما كانت من قبل، أمة واحدة تحت ظل دولة واحدة، هي الأولى في كل شيء، فتقلع نفوذهم وتلاحقهم في ديارهم، فتنشر الهدى بين الناس، وتخرجهم من الظلمات إلى النور. وإنه من أجل ذلك، تم اصطناع هذا الكيان اليهودي في قلب العالم الإسلامي كألهية يتلهى بها المسلمون، مع أن اليهود لا يرتقون إلى مستوى مقابلة الأمة الإسلامية ـ بما تملك من خيرات وثروات ورجال وعقيدة ـ إن لم نقل في مقابل جزء من هذه الأمة لا كلها. في هذا السياق يأتي اصطناع مثل هذه الأفكار الخرافية، حتى طغت على عقول كثير من الناس، وراقت لهم، سيما وقد شاع وانتشر ما يسمى ببروتوكولات حكماء صهيون، والحكومة الخفية التي تسيطر على العالم، والتي تصور اليهود بأنهم وراء الثورات الفرنسية، وراء الثورة البلشفية، وراء استصدار وعد بلفور، ووراء هدم الخلافة، وحتى وراء فضيحة كلينتون الأخيرة.

          وحتى لا نقع في مثل هذه الفخاخ، خاصة وأننا نملك الفكر المسـتنير، لا بد من تلمس حقائق هذا الموضوع بكثير من الموضوعية والجدية، بعيداً عن التهويل والتهوين، والغوغائية والعاطفية والتأثيرات الدعائية. وذلك ضمن مجموعة من الحقائق:

  1ـ  إن الفكرة الصهيونية ابتداء ليست جزءاً من تاريخ يهودي عالمي، وإنما هي من بنات تفكير الغرب ـ أوروبا تحديداً ـ فقد ظهرت الصهيونية بين الأدباء والمفكرين النصارى، قبل أن تخطر على اليهود ببال، ونظراً للظروف الانعزالية التي وضع اليهود أنفسهم فيها في أوروبا، والتي جعلت الأوروبيين يحتقرونهم، ويتمنون رحيلهم عن أوروبا، فقد اندفعوا في البحث عن ملجأ يأوون إليه، الأمر الذي مكن دول الغرب سيما بريطانيا من إيجاد تكتلات يهودية، لا حباً في اليهود، ولا عطفاً عليهم وإنما كأداة لها وجسر عبور لتحقيق مصالحها في المنطقة. فالرعيل الأول من الصهاينة والذين سبقوا هرتزل هم من غير اليهود، فالفكرة الصهيونية هي من نتاج الفكر الغربي الأوروبي وليست نابعة من اليهود، وكان أكثر اليهود يعارضون هذه الفكرة، فكرة العودة إلى فلسطين، إما من زاوية دينية وإما من زاوية الاندماج في المجتمعات الأوروبية حفـاظـاً على مصـالـحـهـم هناك، وإما خوفاً من المارد الإسـلامـي، الذي سينطلق يوماً ما، ويقضي عليهم.

          فالعلاقة بين الصهيونية والاستعمار الغربي تدور في إطار المصالح الاستعمارية للغرب في المنطـقـة، والتي جاءت مبكرة قبل ظـهـور الجماعات اليهودية، كقوة سياسية فاعلة في الغرب، وتاريخ الحركة الصهيونية ليس جزءاً من تاريخ يهـودي عالمـي، فلم تظـهـر بين يهود اليمن أو يهود الهند أو العراق ..الخ، وإنما ظهرت بين يهود العالـم الغـربـي، كما لم تظهر في العصور الوسطى، وإنما ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر مع بداية الغزو الاستعماري الأوروبـي للمنطقة.

          لذلك فإن الفكرة الصـهـيـونية لم يكن لها أن تتجسد على أرض الواقع، لولا دعم ومساندة الدول الأوروبية الاستعمارية لها، ولهذا ليس مستغرباً أن يصرح بن غوريون (مهندس الكيان الإسرائيلي) في المؤتمر الصهيوني التاسع عشر سنة 1935م بأن خيانة بريطانيا هي خيانة للصهيونية.

          ولما تربعت أميركا على عرش الدولة الأولى في العالم بعد الحرب العالمية الثانية وخرجت من عزلتها وبعد أن ذاقت طعم الاستعمار وجدت هذا المسخ فاحتضنته وقامت على تربيته والعناية به، لإدراكها الغاية التي وجدت من أجلها الصهيونية والكيان اليهودي.

          ولإدراك الصهاينة لأهمية السند الخارجي لهم، والتحالف مع مراكز القوى الاستعمارية، القادرة على ضمان الدعم والحماية لهم، نقل اليهود نشاطهم ومراكزهم لأميركا لضمان استمرار الدعم والحماية الأميركيين.

  2ـ  إن انتشار هذا الوهم الشائع حول النفوذ اليهودي في أميركا مرده إلى حد بعيد حجم وطبيعة العلاقة بين إسرائيل وأميركا والتي أشكلت على الكثيرين، فإسرائيل كدولة وكيان تشكل مصلحة حيوية لأميركا، وارتباط إسرائيل بأميركا يفوق ويتجاوز وزن الطوائف ونفوذها، ولقد ساهمت أجهزة إعلام صهيونية وأميركية عن قصد في نشر هذا الوهم، لتسويغ قبول إسرائيل والاعتراف بها وعقد الصلح معها، لأن مثل هذه الأوهام تظهر إسرائيل بمظهر القوة المسيطرة على أعظم قوة في العالم، ما يعطيها مظهر القوة التي لا تقهر، فيسوغ لحكام العرب والمسلمين أمام شعوبهم قبول الصلح والاستسلام لليهود، والاعتراف بشرعية وجودهم على أرض فلسطين الإسلامية.

          فالدعم الأميركي لإسرائيل لا يمكن تفسيره ببساطة بقوة اللوبي الصهيوني في أميركا، ثم إن  أي علاقة بين طرفين يكون الطرف الأقوى دائما هو المستفيد الأول منها، فأميركا باعتبارها الطرف الأقوى في العلاقة بينها وبين إسرائيل، كان طبيعيا أن تكون هي صاحبة الكلمة الفصل والأخيرة في صنع القرار السياسي وفي تحديد طبيعة هذه العلاقة رغم ما يترك للطرف الأصغر من هامش تحرك.

  3ـ  إن فكرة النفوذ اليهودي في أميركا تقوم على افتراض غير دقيق، إذ يفترض أصحاب هذا الرأي أن اليهود الذين يشكلون نسبة ضئيلة من سكان أميركا يسيطرون على إرادة ومقدرات وسياسة الدولة، كما يفترضون أن اليهود يتصرفون وكأنهم جسم واحد أو كتلة واحدة تستطيع إحداث ضغط يؤثر في قرارات الدولة. وهذه الافتراضات بعيدة عن الواقع، إذ إن اليهود في أميركا ليسوا كتلة واحدة، حيث إن جمعيات اليهود تعد المئات وأكثر، (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى)، ومعظمهم لا ينتمي إلى أي تنظيم يهودي، ما دفع الكتاب اليهود إلى القول إن أكثرية يهود أميركا ليسوا سوى يهود على الورق. فاليهود في أميركا يشاركون في الانتخابات بشكل كبير، ولكنهم يوزعون أصواتهم حسب مصالحهم الخاصة، ناهيك عن أن أصواتهم لو كانت في اتجاه واحد ليست حاسمة في الانتخابات الأميركية، فالكثير من الرؤساء الأميركان، ومنهم بوش مثلاً، فازوا رغم أن أصوات غالبية اليهود ذهبت إلى منافسيهم، كما أن ايزنهاور فاز بشكل باهر في انتخابات 1956، رغم وقوفه الحاسم ضد العدوان الثلاثي على مصر، ووقوف اليهود ضده ومع منافسه الديمقراطي.

          ثم إن ما يمتلكه اليهود في أميركا هو القطاعات الخفيفة والمنتجات والخدمات الاستهلاكية، أي أنهم يقعون في وسط الهرم الاقتصادي وليس في قمته، وبالتالي هم سن في دولاب الاقتصاد الأميركي العملاق الذي يمثل كبار شركات رأس المال الأميركي كشركة جنرال موتورز وجنرال الكترك وفورد وشركات النفط وشركات التكنولوجيا الحديثة كشركة IBM وشركة AT&T وشركات المصارف العملاقة، وهذه شركات تتحكم بما يزيد عن 80% من رأس مال أميركا، وهذه الشركات نفسها تملك شبكات الإعلام الرئيسية في أميركا مثل ABC,NBC,CAS وليست مملوكة لليهود.

          ولما كان أصحاب رؤوس الأموال الضخمة هم الحكام الحقيقيين في أميركا والدول الرأسمالية عموماً، فإن اليهود وبحكم غيابهم أصلاً عن تطور الصناعات الثقيلة كالفولاذ والنفط والسيارات ووسائل الاتصال ..الخ، فإنهم بهذا يكونون بعيدين كل البعد عن التأثير في القرار السياسي الأميركي.

  4ـ  بادرت أميركا إلى الاعتراف بالكيان الإسرائيلي ـ كمصلحة لها ـ فورا بعد الإعلان عن هذا الكيان، ولم يكن اللوبي اليهودي قويا بعد حتى باعتراف أولئك الذين يروجون لأسطورة قوته وتأثيره، ما يعني ببساطة أن أميركا تسيرها مصالحها فحسب، ولا يمكن لدولة كأميركا أن تخضع قراراها السياسي لطائفة أو أقلية تعيش فيها، لأن ذلك يعني ببساطة تنازل أميركا وتخليها عن سيادتها ومصالحها، وهذا القول لا يرد في حق الدولة المستقلة عموماً، وبحق الدولة الأولى في العالم بشكل خاص.

          إن أميركا تذكّر إسرائيل، واليهود بشكل أوسع، بحاجتهم إليها، وبحدودهم التي يجب أن يلتزموها في علاقتهم معها. ولا تزال تعمل على نزع أنياب اليهود بتخليصهم من فكرة الصهيونية التي تعني التوسع، ونذكر في هذا المجال الحوادث الآتية:

l حينما أرادت إسرائيل أن تؤكد شيئاً من استقلاليتها والانفلات من العجلة الأميركية، جاءتها الرسالة واضحة أن لا تتجاوز حدودها، حيث ألقي القبض على بولارد (الموظف الأميركي اليهودي) الذي تجسس على أميركا لصالح إسرائيل، فأدخل السجن وما زال يقبع هناك، وقد رفض كلينتون طلب نتنياهو الإفراج عنه في مفاوضات واي ريفر.

l كل جماعات الضغط اليهودية وغير اليهودية تمارس نشاطها في أميركا بناء على القانون الأميركي، الذي يتيح لتلك الجماعات ممارسة الضغط لتحقيق مصالحها، وفق النظام السياسي المطبق ولا يسمح لها بتجاوزه، فهي محكومة بالقانون والنظام الأميركي. وقد بدأت جماعات الضغط اليهودية تتعرض لمساءلة سنة 97 من قبل الكونغرس، وتم تشكيل لجان خاصة للنظر بشرعية وقانونية أعمال جماعات الضغط اليهودية، ومراجعة ملفات أعمالها في سابقة لم تحصل من قبل، ما يدل على أن امتيازات جماعات الضغط اليهودية في طريقها إلى التغيير ما اضطرها للدفاع عن نفسها من أجل البقاء.

l عندما أقدم بعض اليهود المقيمين في أميركا على تأسيس عصابات تمارس الجريمة المنظمة، ولها نشاط في عالم المخدرات والجنس وتزييف العملات، لم يتردد الكونغرس الأميركي في إجراء تحقيق ونشر نتائجه، ما أساء إلى صورة اليهود في الإعلام الأميركي، فأين كان اللوبي اليهودي، وأين كانت قوته، ولماذا جرؤ الإعلام الأميركي على فضح جرائم اليهود!

l إن أميركا ضغطت على إسرائيل لعدم الردّ على الصواريخ العراقية التي سقطت في مدن اليهود في فلسطين المحتلة، خلال حرب الخليج الثانية، وأمدتهم بصواريخ مضادة للصواريخ العراقية، وفرضت عليهم استخدامها من قبل طواقم أميركية وذلك إمعاناً في إذلال اليهود وإشعارهم بدوام الحاجة إلى الغرب وأميركا، وعدم محاولة المشاكسة والانفلات وبالتالي التعرض للمصالح الأميركية في المنطقة.

          وأكتفي بهذا القدر الذي يظهر اليهود على حقيقتهم: أنهم ليسوا أكثر من كلب حراسة للمصالح الأميركية والغربية، ولكن ذلك لا يعني أنه ليس لهم أي تأثير، وإنما الصحيح هو أن اليهود يتصرفون على أنهم أصحاب قضية، وسخروا نشاطهم وجاههم وثراءهم لخدمة هذه القضية، فبالصداقات وتمويل الحملات الانتخابية وشراء الذمم أوجدوا لأنفسهم دالة على بعض صانعي القرار الأميركي. لكن أيا كانت قوة هذا اللوبي ما كان له أن ينتج التأثير الملموس في السياسة الأميركية، لولا تعاطف الشارع الأميركي معهم، لذلك أدركت الإدارات الأميركية أن مأزقها في سياستها الشرق أوسطية إنما هو من الشارع الأميركي وليس من اليهود، وأدركت أنها لا تستطيع أن تمارس ضغطا واضحا على إسرائيل كما تضغط على دول كثيرة إلا إذا فصلت الشعب الأميركي عن اليهود، وأخرجت قضية إسرائيل من كونها قضية داخلية، وفي هذا الاتجاه أخذت الإدارات الأميركية تعمل على تثقيف الشارع الأميركي لفصله عن اليهود، وبيان أن المصالح الأميركية هي غير مصالح اليهود، وقد سخرت أميركا لذلك طاقات كبيرة سياسية وإعلامية، منها إبراز تصرفات إسرائيل غير الخُلُقية وغير الإنسانية خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، وإبان الانتفاضة الفلسطينية، وإثارة فضيحة التجسس التي قام بها بولارد ..الخ، ولكن يبدو أن الشارع الأميركي لم ينضج سياسيا بعد ولم تنجح الإدارات الأميركية في ذلك لأن مسألة تغيير عواطف الناس مسألة شاقة وصعبة، وقد ظهر ذلك جليا في الآونة الأخيرة عندما صَوّت الكونغرس على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ضد رغبة الرئيس، ما يتنافى مع سياستها تجاه فلسطين.

          بقي أن نقول إن جماعات الضغط اليهودي لا تملك أن تخرج عن إرادة المؤسسة السياسية بأي شكل من الأشكال، بل كانت دائما تستخدمها الإدارات الأميركية من أجل الضغط على إسرائيل لتغيير موقفها من بعض القضايا دعماً لمفردات السياسة الأميركية، وقد صرح مساعد وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز وهو يهودي بقوله: «إن أميركا تسعى لربط إسرائيل تماما بأميركا وتريد أن تستعمل يهود أميركا لتحقيق هذه الغاية»، وأضاف أنه حين أبدى احتجاجا على هذه السياسة قام شولتز بطرده من الخارجية.

          بقي أن نضيف هنا، أن اليهود يتصرفون، ليس في أميركا فحسب، وإنما في العالم، كأصحاب قضية، وبشكل منسّق ومخطط ومدروس، وكأنهم حزب، يتحرك في وقت واحد، لتنفيذ عمل واحد، لتحقيق غاية واحدة، ولهذا يبرز لهم هذا التأثير، ولكنهم صدق فيهم قوله تعالى: (وإذ تأذن ربك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *