العدد 152 -

السنة الرابعة عشرة _رمضان1420هــ _ كانون الثاني 2000م

واقع المصارف اللاربوية (2)

كان في ذهن القائمين على المصارف اللاربوية تحقيق هدفين: أولهما وأهمهما تخليص المسلمين من إثم التعامل بالربا مع المصارف الربوية، وثانيهما تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلاد المسلمين المتخلفة. فهل استطاعت المصارف اللاربوية تحقيق هذه الأهداف أو بعضها؟ أم أنها انحرفت عن أهدافها، وصارت تستثمر أموالها خارج البلاد الإسلامية، وفي مشاريع لا تمت إلى التنمية بصلة؟ هذا ما نناقشه في هذه الحلقة.

ظن بعض المتحمسين المدافعين عن المصارف اللاربوية أن مجرد إعلان هويتها الإسلامية يُحصِّنها من الانتقاد والمساءلة، لذلك أصابتهم الدهشة حينما برز بعض المنتقدين وبدا وكأنهم فوجئوا بهذا الموقف، وصَعُب عليهم أن يصدقوا أن هذا الموقف قد يُعبِّر عن غَيْرة وحرص على سمعة هذه المؤسسات التي تحمل اسم الإسلام، ويدل على طموح الكثرة الساحقة من المسلمين، بأن ترى المؤسسات المحسوبة على الإسلام تقتحم الحواجز، وتثبت جدارتها، فكانت ردة فعلهم هي تصنيف المنتقدين في صف الأعداء المعوِّقين للمسيرة، أو المُشَهِّرين بها.

  ولا تخلو كثير من المؤسسات من وجود مخلصين، ولا بد وأن هناك مخلصين في صفوف المؤيدين لمسيرة المصارف اللاربوية، وكذلك في صفوف المنتقدين لها، ولا يضير هذه المصارف إن استمعت لرأي الفريقين وأخذت ما تراه الأرجح والأقوى، ولا يُعقل أن يكون الحق دائماً في صف فريق واحد، بل لا يُعقل أن يكون هذا الفريق معصوماً عن الخطأ، سواء في الفهم، أو في التطبيق. وينبغي أن يكون الفريق الذي يطرب للمديح والمادحين، أكثر طرباً للنقد والناقدين، لأنه ليس أقل غَيرة وحرصاً على الإسلام ومؤسساته من الآخرين.

  فهذه «التجربة محسوبة على الفكر الإسلامي، وعلى النموذج التطبيقي الحضاري التنموي المعاصر، ومحسوبة كذلك على الرجال الأوفياء الذين جاهدوا بفكرهم، وجهدهم، وأموالهم، وأوقاتهم لتنزيل الأحكام الفقهية على واقع النشاط الاقتصادي، وإرساء أسس ودعائم النظام الاقتصادي الإسلامي، وهي بالطبع محسوبة على ملايين المسلمين الذين يفخرون بعقيدتهم، ومنهجهم في مواجهة مظاهر الحضارة المادية السائدة»([1]).

  إن ما ورد في المؤتمرات، والكتب، ووسائل الإعلام والنشر، حول المصارف اللاربوية، كان مفرطاً في التفاؤل، لدرجة أن من يقرأه، أو يسمعه يتوقع أن المصارف الربوية، أو النظام الربوي سوف ينهار بين عشية وضحاها، تحت وطأة انتشار المصارف اللاربوية، وكانت هذه الكتابات والآراء تَعِد المسلمين بمستقبل ليس فيه ربا، ولا مصارف ربوية، ولكن مع الزمن أخذ بعض القائمين على المصارف اللاربوية يؤكدون ضرورة التعامل مع المصارف الربوية وذلك بالقول: «ونتعامل معها في جزء من أموالنا، وتعاملنا معها ضروري لأن المصارف الإسلامية نقطة في بحر»([2]).

  ولم يقتصر الأمر على التعامل، بل انتقل إلى المطالبة بالتعايش السلمي بين النظام الربوي واللاربوي، في مؤتمر من المؤتمرات الاقتصادية، حين قال الأمين العام للاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، سمير عابد الشيخ: «وعلى ضوء هذه الصورة المثلجة لصدر كل مسلم غيور على دينه، لا بد من التعايش السلمي بين البنوك الإسلامية، والبنوك التقليدية، ومد جسور التعاون، وإيجاد لغة للتفاهم فيما بينها، هذا من أجل مستقبل العالم بأكمله، وبهذا التعاون ومد الجسور سيفيد كل منهما الآخر: البنوك التقليدية بخبراتها العريقة، والبنوك الإسلامية بقوتها وصلابتها وسيرها على طريق الحق، ثم سيفيدان معاً العالم كله»([3]).

  لقد وضعت المصارف اللاربوية هدفاً مهمّاً قالت إنها تسعى لتحقيقه، ألا وهو تنمية العالم الإسلامي، ولكنها حتى الآن لم تُسهم بقدر ملموس في التنمية، وذلك بشهادة أحد رواد هذا العمل المصرفي، وهو الدكتور أحمد عبد العزيز النجار، وقد تحدث عن ذلك في عدة مناسبات، ومن أقواله: «ويُفضَّل تسميتها (المصارف اللاربوية) لأنها قامت بالوظيفة السلبية أي عدم التعامل بالربا، ولكنها لم تقم حتى الآن بقدر ملموس من الوظائف الإيجابية بوصفها مؤسسة تنموية إنتاجية»([4]). وفي مناسبة أخرى رأى الدكتور النجار أن اقتصار أكثر المتحمسين للمصارف اللاربوية على النظرة الضيقة لدور هذه المصارف، المتمثل في الامتناع عن التعامل بالفائدة فحسب، أدى إلى «عجز الكثير من البنوك الإسلامية عن تقديم وظيفتها في الإطار الصحيح»([5]) وقال مصرفي آخر: «إنّ البنوك الإسلامية حتى فترة قريبة لم تشارك في التنمية بالشكل المطلوب([6]).

  وأشار الباحث محمد عبد المنعم أبو زيد إلى أن التقويم الاقتصادي لاستثمارات المصارف اللاربوية، أظهر أن دَوْر «هذه الاستثمارات في تدعيم الأهداف الاقتصادية للمجتمعات التي تعمل بها كان دوراً محدوداً جداً، بل وكان ذا أثر سلبي على بعض المتغيرات الاقتصادية في بعض هذه الدول»([7])، ويضاف إلى ذلك، أن التقويم الاجتماعي لتلك الاستثمارات أظهر أن الدور الاجتماعي لها كان محدوداً أيضاً، وأن «التطبيق قد انحرف عن النظرية من عدة نواحٍ، كان أهمها من حيث أساليب الاستثمار، ومجالاته، وآجاله، والفئات المستفيدة من تمويله»([8]).

  وفي ملتقى الفكر الإسلامي الرابع والعشرين الذي انعقد في الجزائر (1411هـ/ 1991م) ألقى الدكتور النجار محاضرة تحت عنوان: (المصارف الإسلامية وإشكالية التنمية) جاء فيها: «إن تجربة البنوك الإسلامية لا زالت في طور البناء والنمو، ولم تقف بعد على قدميها، لأن حساسية رأس المال في المجال الاقتصادي دقيقة وصعبة، وإن تجربة المصارف الإسلامية عرفت تكاثراً وازدياداً، غير أن هذا التكاثر لا يعني علامة على صحتها»([9])، وأبدى قلقه وخوفه على مصير هذه التجربة.

  وبعد عام على محاضرته، كان الدكتور النجار أكثر صراحة، حين قال: «ولأنني أمين عام للاتحاد الدولي في البنوك الإسلامية، فإن تجربتي معها تزيد على ثلاثين عاماً، لذا أقول بكل الصدق، والصراحة، والوضوح أيضاً، إن البنوك الإسلامية لم تبدأ بعد، والموجود على الساحة الآن مجرد محاولات لإقامة هذا الصرح المادي الإسلامي الذي نتمناه ونحلم به، وما نراه بكل الصدق والصراحة لا يحسب على الإسلام إطلاقاً، وقلت في أبو ظبي منذ سنوات أنني أمين عام اتحاد الراغبين في إنشاء بنوك إسلامية، ولست أميناً عاماً لاتحاد البنوك الإسلامية، لست أناقش الممارسات التي تمت، ولكن دعني أدافع عن فكرة لم يبدأ تطبيقها العملي بعد»([10]).

  وتابع الدكتور النجار حديثه الصريح قائلاً: «ولكننا للأسف الشديد، وفي كل محاولاتنا لإنشاء مؤسسات مالية إسلامية، أهملنا الضوابط، وكانت النتيجة هي استخدام العاطفة الإسلامية لدى الجماهير فقط، وهناك مؤسسات خرجت عن ضوابط النجاح ومقوماته، فكان طبيعياً أن تواجه بصعوبات واختناقات وعدم نجاح»([11]). وفي محاضرة له في أبو ظبي قال الدكتور النجار عن المصارف اللاربوية: «إن نجاحها أو فشلها في مهمتها سيظل سلاحاً يُشهر اليوم وغداً في وجه دعاة التطبيق الإسلامي»([12]).

  وفي إجابته عن سؤال فيما إذا كانت المصارف اللاربوية قد حققت أهدافها قال الدكتور النجار: «… إذا كانت بعض البلاد الإسلامية، مثل باكستان، قد استفادت منها في تمويل خطط التنمية فيها، فإن معظم الدول الإسلامية لم تستفد منها الاستفادة المرجوة، وقد أسفر تطبيق نموذج البنوك الإسلامية عن عديد من الانحرافات لا يمكن إنكارها، ولا بد من تصحيح تلك الانحرافات، فبعض القائمين على تلك البنوك لم يلتزموا بالقواعد الإسلامية في إدارة أموالها، واستخدمت بعض البنوك في بعض الدول لأغراض سياسية، كذلك استخدمت أموال بنوك إسلامية في تمويل حملات انتخابية لقوى سياسية معينة، بل وتمويل حكومات لبعض دول العالم الثالث»([13]).

  ونقل خليل علي حيدر (كاتب من الكويت) عن الدكتور أحمد عبد العزيز النجار قوله في مقابلة صحفية مع (صوت الكويت) عام 1412هـ/ 1992م إن مشاكل المصارف اللاربوية تعود إلى عدة أسباب أبرزها تزايد ودائع الأفراد، وإقبالهم على شراء أسهم هذه المصارف لدوافع إيمانية، والتصور الخاطئ بأن هذه المصارف لا تخرج عن كونها مصارف تجارية من دون سعر الفائدة «وشجعهم على هذا التصور الخاطئ كثير من المرتزقة، الذين بَهَرَتْهم الأجور العالية، التي يعرضها المؤسسون على ذوي الخبرات المصرفية الربوية، لاجتذابهم لإدارة البنوك الإسلامية، التي أسسها هؤلاء المتحمسون، والنصائح الساذجة، والأفكار غير الأصلية، التي روجها بعض العاملين في البنوك الربوية من إمكانية أسلمة نظام البنوك القائمة باستخدام عقود المرابحة … إن الممارسة العملية حتى الآن لم تحقق الهدف من إنشاء البنوك الإسلامية، ولم تقربنا للغاية، وهناك شك كبير في إمكان تعديل مسارها … إن العلة في فشل البنوك الإسلامية هي في ندرة من يمكن أن تطلق عليهم حَمَلَة الرسالة، إن المؤسسات المالية الإسلامية لم تأخذ من المنظومة المالية الإسلامية سوى عنصر واحد هو عاطفة الجماهير الإسلامية»([14]).

  هذه الانتقادات من مسؤول كبير مارس العمل المصرفي اللاربوي تعطي صورة واقعية بعيدة عن المشاعر والعواطف، وهي مهمة لكونها صادرة عن الأب المؤسس لهذه المصارف.

  ولم يقتصر أمر الاعتراف بضآلة ما تحقق من أهداف على الدكتور النجار، بل صدر ما يقارب ذلك من صاحب مجموعة مصرفية كبرى (مجموعة البركة) صالح كامل، حيث قال في حديث لمجلة نيوزويك الأميركية ما ترجمته: «إن الأعمال المصرفية الإسلامية ما زالت صغيرة، وبلغة الوظائف وفرص العمل الجديدة، أعتقد أن البنوك الإسلامية حققت فقط حوالي عشرة في المائة من أهدافها»([15]).

  هذا فيما يتعلق بالأهداف، أما فيما يتعلق بالممارسة فقد قامت المصارف اللاربوية باستثمار قسط كبير من أرصدتها خارج العالم الإسلامي، والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن بالإمكان ذكر بعضها للدلالة على ذلك، ومن هذه الأمثلة إعلان «بيت التمويل الكويتي عن طرح محفظة للاستثمار العقاري في الولايات المتحدة الأميركية، تبلغ قيمتها 49 مليون دولار … والهدف من المحفظة هو تنويع قنوات الاستثمار وتنمية موارد المستثمرين من خلال التدفقات النقدية من ريع الإيجارات المحصلة من العقارات، والاستفادة من الزيادة المتوقعة في ثمن العقار عند بيعه في نهاية المدة»([16]).

  وقال مساعد المدير العام في بيت التمويل الكويتي (وليد الرويح) في مؤتمر صحفي أنه «تم عام 1416هـ/ 1995م إبرام صفقات مرابحة مع كبرى الشركات العالمية بقيمة 600 مليون دولار، إضافة إلى طرح محفظة (الدانة العقارية) التي تتكون من ثلاثة مشاريع عقارية في بريطانيا»([17]). وبلغ حجم استثماراتهم في المشاريع الدولية نحو 84 مليون دولار أميركي([18])، واشترك مع (سيتي بنك) في تمويل مشتريات نفط لصالح شركة البتروكيمياويات التايلاندية بقيمة 65 مليون دولار أميركي([19]).

  إضافة إلى أن المصرف المذكور حصل على أكثر إيراداته لعام 1415هـ/ 1994م من «التمويل الاستهلاكي الذي يتمثل في مساعدة المستهلكين على شراء سلع كالسيارات والأثاث»([20])، فهل هذا الاستهلاك من مقدمات التنمية؟!

[يتبع]

([1]) اليماني، محمد عبدو، صحيفة الحياة، العدد 12032، 13 رمضان 1416هـ/ 2 شباط 1996م، ص21.

([2]) الأمير محمد الفيصل، صحيفة الحياة، العدد 11373، 26 شوال 1414هـ/ 7 نيسان 1994م، ص10.

([3]) الشـيخ، سميـر عابد، مجـلـة الهـدايـة البحـرينـية العدد 208، ص6.

([4]) النجار، د. أحمد عبد العزيز (أمين عام سابق للاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية)، من كلمة ألقاها في المجمع الثقافي في مدينة أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، ونشرتها مجلة العالم، لندن، العدد 306، 23 جُمادى الأولى 1410هـ/ 23 كانون الأول 1989م، ص44.

([5]) النجار، د. أحمد عبد العزيز، جريدة اللواء اللبنانية، بيـروت، لبنان، 22 ربيـع الثاني 1411هـ/ 9 تشـرين الثاني 1990م.

([6]) السبع، إبراهيم (مدير المصرف الإسلامي الدولي للتنمية)، مجلة المؤشر، العدد 213، ص42.

([7]) أبو زيد، محمد عبد المنعم، النشاط الاستثماري للمصارف الإسلامية ومعوقاته (رسالة قدمها الباحث إلى قسم الاقتصاد بكلية التجارة، جامعة الإسكندرية لنيل درجة الماجستير عام 1411هـ/ 1991م، ونشرت مقتطفات منها مجلة المعاملات الإسلامية، التي يصدرها مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي في جامعة الأزهر، القاهرة، العدد الثالث، السنة الأولى، ربيع الأول 1413هـ/ أيلول 1993م، ص256.

([8]) المرجع نفسه، ص256، 257.

([9]) النجار، د. أحمد عبد العزيز، من محاضرة ألقاها في ملتقى الفكر الإسلامي الرابع والعشرين، المنعقد في الجزائر عام 1411هـ/ 1991م، ونشرته مجلة العالم، لندن، العدد 362، 3 رجب 1411هـ/ 19 كانون الثاني 1991م، ص30.

([10]) النجار، د. أحمد عبد العزيز، مقال نشرته مجلة زهرة الخليج، دبي، الإمارات العربية المتحدة، العدد 675، 26 شعبان 1412هـ/ 29 شباط 1992م، ص69.

([11]) المرجع نفسه، ص69.

([12]) النجار، د. أحمد عبد العزيز، محاضرة له بعنوان: دور البنوك الإسلامية في إقامة نظام اقتصادي إسلامي، ألقيت في المجمع الثقافي في أبو ظبي، نشـرتها مؤسسة الثقافة والفنون، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، 1409هـ/ 1989م، ص169.

([13]) النجار، د. أحمد عبد العزيز، حوار مع مجلة المؤشر اللبنانية، العدد 213، 20 شعبان 1414هـ/ 31 كانون الثاني 1994م  ص40.

([14]) حيدر، خليل علي، مداخلة في البنوك الإسلامية بين الطوبى والواقع، صحيفة الحياة اللبنانية، العدد 12066، 19 شوال 1416هـ/ 8 آذار 1996م، ص 19.

([15]) NEWSWEEK,  Special  Advertising Section, P.9.

([16]) صحيفة الحياة اللبنانية، 22 رجب 1415هـ/ 24 كانون الأول 1994م، ص9.

([17]) صحيفة الحياة اللبنانية، العدد 12016، 26 شعبان 1416هـ/ 17 كانون الثاني 1996م، ص9.

([18]) صحيفة الحياة اللبنانية، العدد 12041، 22 رمضان 1416هـ/ 11 شباط 1996م، ص9.

([19]) صحيفة الحياة اللبنانية، العدد 12174، 9 صفر 1417هـ/ 25 حزيران 1996م، ص9.

([20]) صحيفة الحياة اللبنانية، العدد 11921، 18 جُمادى الأولى 1416هـ/ 12 كانون الأول 1995م، ص9.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *