العدد 291 -

العدد 291 – السنة الخامسة والعشرون، ربيع الآخر 1432 هـ، الموافق آذار 2011م

ما التغيير الذي أحدثته الثورات المباركة المتتابعة حتى الآن؟

ما التغيير الذي أحدثته الثورات المباركة المتتابعة حتى الآن؟

 

أحمد القصص

رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير-ولاية لبنان

فور سقوط طاغية تونس وفرعون مصر احتدم النقاش حول مدى التغيير الذي أحدثته الانتفاضة الشعبية في كل من هذين القطرين وما يمكن أن تحدثه سائر الانتفاضات التي اندلعت في أقطار أخرى من العالم الإسلامي، ابتداء من البلاد العربية. هل هي مجرد انتفاضة، أم هي ثورة كاملة؟ هل هو تحوّل تاريخي، أم مجرد صرخة ألم؟ هل هو ترقيع في النظام الحاكم، أم هو تغيير جذري لطبيعة هذا النظام؟ هل هو تحول دستوري أم مجرد إصلاح دستوري؟ هل هو انعتاق من الهيمنة التي تمارسها دول الغرب أم مجرد تغيير في وجوه الحكم التي صنعها الغرب جميعها على عينه؟

لا شك أن ما حصل هو وثبة واسعة إلى الأمام، في طريق التغيير. ذلك أن أي تغيير منشود لا يمكن أن يشق طريقه في أمة اعتادت الخضوع والخنوع، واستمرأت الذل والهوان بعد أن فقدت الأمل في إمكانية التغيير، وفقدت ثقتها في قدرتها على إجراء أي تحوّل في حياتها، وتوهمّت أن فرعون وهامان والنمرود وأجهزة استخباراتهم وبلطجيتهم باتوا طوقاً محكماً وقيوداً وغلالاً مشدودة الوثاق غير قابلة للفكاك. فكان كل نداء للتغيير وكل عرض لمشروع سياسي بديل عن العفن السياسي في بلادنا هذه يقابَل باللامبالاة والاستخفاف، لا بسبب الرضى بالواقع المعيش أو الأنظمة القائمة والقناعة بها، ولا لأن المشاريع السياسية البديلة لم تنل القناعة والقبول والإعجاب، بل لأن مجرد التفكير في التغيير في نظر معظم الناس الذين عانوا الويلات، الخاصة منهم والعامة، هو حلم غير قابل للتحقيق على أرض الواقع، وأن البرامج السياسية البديلة مهما اتسمت بالصدق والقوة والجاذبية فإنها لا تعدو أن تكون أوهاماً لا حظ لها في الوصول إلى سدة الحكم. هذا هو واقع أجيال نشأت وعانت من القهر والإذلال والاستعباد من قبل فرعون وجنوده حتى فقدت كل أمل في التغيير. بل إنه واقع قوى سياسية بذلت ما بذلت من الجهود أملاً في إحداث تغيير ما فاصطدمت بعوائق قلّما شهد التاريخ لها مثيلاً، إذ كانت هذه العوائق شبكة من مصالح عصابات محلية حاكمة، وائتلاف للعصابات الإقليمية التي تتشكل منها الأنظمة الحاكمة في المنطقة والتي لم تنجح في شيء من التعاون إلا تعاون وزراء الداخلية، أي التعاون في مشاريع القمع والإرهاب وكبت الناس وتكميم أفواههم؛ لذلك لم يكن مستغرباً أن الطلائع الأولى في هذه الثورة كانت من جيل الشباب اليافع الذي تفتحت أعينه للتو على الحياة، والذي لم تتمكن العقد الموروثة جيلاً عن جيل من التسرّب إلى نفوسه بعد، فكان أسبق من آبائه، بل من إخوته الأكبر منه سناً، إلى ميدان الثورة وإطلاق صيحة الغضب والرفض، وكان في حركته التي تسللت إلى الشارع عبر الشبكة الإلكترونية أسرع من الأجهزة القمعية والبلطجية التابعة للعصابة الحاكمة والتي اعتادت منذ عقود قمع الناس وتكميم الأفواه وإحصاء الأنفاس، فكان من سوء حظهم وحظ فرعونهم أنهم لم يعتادوا التعامل مع هذا العالم «الافتراضي» الجديد، ولسان حالهم الآن أنه «لو عاد بنا الزمان إلى الوراء لكنا تعاملنا مع هذه الشبكة الإلكترونية الملعونة بيقظة وحذر أكبر، ولما كنا أفرغنا كل جهودنا في إحصاء أنفاس الشخصيات التقليدية والزعامات الهرمة والتنظيمات المتصدعة، ولبقينا نملك مصر والأنهار تجري من تحتنا، ولما تركنا جنات وعيوناً وزروعاً ومقاماً كريماً ونعمة كنا فيها فاكهين، ولكن ظلمنا أنفسنا وظنّنا أننا مانِعتُنا بلطجيتنا من الناس، فأتتنا الثورة من حيث لم نحتسب، وقذفت في نظامنا الرعب والارتباك، فأخربت مملكتنا وأذهبت ريحنا…»، تعساً لهم وسحقاً، لو قرؤوا كتاب الله تعالى لوجدوا أن مثلهم كمثل يهود بني النضير الذين تحصنوا في حصونهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ) ولوجدوا أن مكر الله قد حاق بمكرهم، قال تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).

نحن إذاً أمام مشهد جديد واعد، أمام أمّة استطاعت بعون الله تعالى وبحركة ذاتية من أبنائها أن تخلع فراعنة ذوي أوتاد طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فاكتشفت أنها قادرة على تغيير واقعها، وأن تخلع كل حاكم مغتصب لسلطان الأمة، وأن تقول للظالم أنت ظالم، فاطمأنت إلى أنها لم تتلبس بنذير رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ» (أحمد)، وأنها امتثلت لأمره: «إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»، واستبشرت ببشارته: « سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قال إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (المستدرك). انبلج أمامنا صبح ترفض الأمة فيه أن يقودها جلّادو الأمن المركزي والمخابرات والبلطجية إلى الكرباج والبلانكو والدولاب والفروج وبساط الريح، وانتهاك العرض والكرامة دون أن تحرك ساكناً. انبلج أمامنا صباح أصبحت الأمة معه تؤمن بقدراتها على التغيير والتفكير بما يتجاوز لقمة العيش وأعباء المدرسة والطبيب… إلى التفكير في السياسة وأنظمة الحكم والاقتصاد البديلة عن الأنظمة البالية التي أزكمت رائحتها الأنوف وأسقمت جراثيمها حياة الناس.

ولكن حذار من الذهاب بعيداً في نشوة الفرح والنصر، فالتغيير الحقيقي المنشود الذي تنشده أمة تعاني الانحطاط والهبوط والتبعية للقوى الدولية الكبرى في شتى المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية… لم يحصل بعد، وليس من المتوقع أن تنتجه البرامج الآنية السريعة التي يطالب بها قادة تلك الثورات الرائعة السابقة منها والجارية أثناء كتابة هذه السطور. فإلغاء الدساتير الفاسدة، وسنّ قانون جديد عادل للانتخابات، والتخلص من القوانين الجائرة للأحزاب، ومحاسبة رموز العهد البائد، واسترجاع الأموال التي نهبتها العصابات الحاكمة، وإلغاء دَور الأجهزة القمعية ومحاسبة المجرمين الذين قتلوا وعذّبوا والأخذ على أيدي (البلطجية)… خطوات من شأنها أن ترفع إلى حد بعيد الكابوس الجاثم على صدور الناس منذ أجيال، وأن تذهب بقدر كبير من حالة القهر والذل التي اعترت بلادنا ومجتمعنا، ولا يجوز الانتقاص منها. إلا أن هذه الإنجازات على أهميتها، بل تاريخيتها، ليس من شأنها أن تكوّن برنامجاً سياسياً يؤدي إلى تغيير حقيقي. وعلى الجميع أن لا يبالغوا في تحديد هوية هذه (الثورة) التي تجتاح الأقطار العربية: أهي إسلامية أم ليبرالية أم يسارية أم علمانية أم طبقية أم برجوازية أم ناصرية؟! ففي هذا السؤال وحده، مجرَّداً عن الإجابة عليه، شيء من التسرّع. فالسمة الأساسية لهذه الانتفاضة التلقائية الذاتية أنها انتفاضة ضد نظام الظلم والقهر والذل والاستعباد… وهي بلايا ورزايا تستفز الإنسان من حيث هو إنسان بصرف النظر عن أي فكر يحمله أو أي عقيدة يستند إليها أو أي عصبية تحرّك غريزته، فقد بلغ الطغيان الممتزج بالغباء لدى العصابات الحاكمة في هذه البلاد مبلغاً باتت معه كرامة الإنسان مفردة لا وجود لها في قاموس ممارستها السياسية، بل بات تعزيز الخضوع والرضى بالمهانة والصغار والاستكانة والذل شرطاً أساسياً، بل ركيزة من الركائز التي يقوم عليها نظام العصابة أو العائلة أو الطائفة الحاكمة؛ لذلك كان الهتاف الطاغي والغالب: “الشعب يريد إسقاط النظام”، ما يعني أن دبيب الحس بالكرامة والعزة في عروق الناس –وهو الذي أسفرت عنه مشاهد الانتفاضات المتنقلة، بل المتوسعة- آذن بانهيار تلك العروش وانقراض تلك العصابات الحاكمة، وهذا أخوف ما يخوِّف سائر العتاة والطغاة الإقليميين الذين ارتعدت فرائصهم لرؤية طاغية تونس ثم فرعون مصر ثم سفاح ليبيا ومن سيلحق بهم وقد عصفت بهم ريح الكرامة والعزة والإباء التي انبعثت من نفوس هذه الأمة، وهي ريح تعبر الحدود السياسية والقومية والقطرية والإقليمية، إذ لا حواجز يمكن أن تقف في وجهها، ولا سيما بعد أن صارت الصورة الحية تنتقل عبر الفضاء والأقمار الصناعية والشبكة الإلكترونية دون أن يتمكن الطغاة من السيطرة عليها أو الإحاطة بها بالكامل.

أما ما سوى ذلك من الشعارات، فلقد اختلطت الأعلام والأناشيد الوطنية وصور الزعماء الراحلين وشعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وصرخة الجائع ولوعة المعذب والمذلول في أقسام الشرطة وزنازين التحقيق وهتافات التكبير والتهليل والعداء لإسرائيل والغرب… ولكن الذي لا مراء ولا جدال فيه أن الطاقة الأساسية الدافعة المحركة لجمهور الثوار والملهمة لهم هي طاقة العقيدة الإسلامية التي لا توازيها طاقة في الوجود، إنها عقيدة هذه الأمة ومبدؤها ومنشأ نظرتها إلى الحياة، وأساس المفاهيم الكامنة فيها منذ قرون، ومنشأ تشوُّقِ المؤمن إلى النعيم المقيم في الحياة الآخرة، ومبعث حب الشهادة في سبيل الله، وأساس مفاهيم الإسلام التي تعتمل في نفوس هذه الأمة العظيمة يوماً بعد يوم أكثر وأكثر، والتي عادت منذ عقود تنتصب سداً منيعاً أمام الحضارة الغربية العفنة وأمام سياساتها الإمبراطورية الاستعمارية، فصور الصلاة الجامعة في ميدان التحرير وأحياء مصر، وانطلاق المتظاهرين من المساجد وصلوات الجمعة، ومواجهة المتظاهرين خراطيم المياه الساخنة بالصلاة أمامها، وصيحات التكبير والتهليل، واستبشار الآباء والأمهات باستشهاد أبنائهم وارتقائهم إلى رضوان الله تعالى… كلها صور ذات دلالة لا يمكن تجاوزها وإغفال دلالاتها.

ومع ذلك فإنه من المبالغة القول بوجود مشروع سياسي بديل عن النظام الحالي لدى القوى الفاعلة الأساسية في هذه الثورة. بل إن معرفتنا المسبقة بالأحزاب والتيارات والقوى السياسية الكبرى والفاعلة في مصر وتونس تؤكد أن لا وجود لدى أيٍّ منها لبرنامج سياسي فعليّ بديل عن الدساتير الحالية، لا إسلامي ولا غير إسلامي. وكلّ ما هو مطروح لا يعدو ترقيعاً أو تعديلاً لهذه الدساتير ذات النشأة الغربية. وهذه حقيقة سيقف أمامها معظم الناشطين المخلصين من أبناء الثورة فور تجاوزهم كابوس نظام القمع والإرهاب والانتقال إلى مرحلة التفكير في حلول المشكلات المتجذرة والمزمنة في المجتمع نتيجة عقود من السياسات الإجرامية والشيطانية التي مارستها الأنظمة السابقة بتوجيهٍ ودعمٍ من الدول الكبرى.

لنفرض الآن أن تونس ومصر وليبيا وما سيليها إن شاء الله تعالى من أقطار العالم الإسلامي أزالت كابوس الطغاة والأمن المركزي والمخابرات والبلطجية وقلصت نفوذ العصابات الناهبة للثروات والتي سميت زوراً رجال أعمال وشركات استثمار وإعمار، وجرت فيها انتخابات شفافة، وقامت محاكم فاعلة تردع المعتدين والمتجاوزين… بل لنبالغ كثيراً ولنقل: لنفرض أن الدول القائمة في بلادنا تحوّلت إلى دول قانون وشفافية يحاسب فيها من يتجاوز ويعتدي ويسرق ويرتشي، كما هو شأن العديد من دول الغرب الآن، فهل هذا هو مطلب العالم الإسلامي؟! وهل تمثل هذه المطالب الحلول للمشكلات المعقدة والمتشابكة التي تعانيها الأمة؟

هل الدساتير المستوردة المطبقة في بلادنا منذ أن أُسقطت الدولة الإسلامية على يد المستعمر وإلى يومنا هذا، والتي تجعل التشريع من اختصاص الشعب مُمَثَّلاً بما يسمى بالسلطة التشريعية والتي يطالب الثائرون اليوم بتعديلها وتصحيحها لتصبح على شاكلة الدساتير الغربية، هل هذه الدساتير تعبر عن هوية الأمة الإسلامية، أم هي تؤسس من جديد للاستتباع للنمط الغربي في الحكم والسياسة وطريقة العيش؟

هل النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي تكرسه هذه الدساتير تحت عناوين حرية التملك وحرية العمل والاقتصاد الحر… هل هو المخرج من النكبات الاقتصادية والمعاشية التي تعانيها الأمة اليوم؟ أليس هذا النظام الذي تتربع على عرشه أميركا ودول الغرب هو الذي جلب الويلات على العالم، بما فيه شعوب الغرب نفسها؟! ولا سيما في السنوات الأخيرة التي شهدت الأزمة المالية العالمية والتي حولت مئات الملايين من الناس من أغنياء إلى فقراء معدمين، ولولا أن الغرب جعل سائر العالم مزرعة له لانهار اقتصاده وأصبحت حضارته أثراً بعد عين.

هل الحرية الشخصية التي تصونها هذه الدساتير والتي تطلق سلوك الإنسان من أي قيد روحي أو خلقي أو إنساني تتوافق مع الهوية الإسلامية التي تتميز بها هذه الأمة؟ وهل الإعلام المخرب للعقول والمفسد للأذواق والمدمر للأخلاق والعاصف بالعفة والطهارة يمكن أن يكون مقبولاً في العالم الإسلامي؟

ما الذي يمكن أن تقدمه الترقيعات التي يسمونها إصلاحات والتي ينادى بها الآن في تونس ومصر وليبيا وغيرها من مخرج من الخضوع الشامل للغرب سياسياً واقتصاديا وعسكرياً وإعلامياً وصناعياً وتكنولوجياً وتعليمياً…؟ وما المنقذ من الذل والهوان أمام كيان يهود، حيث لازالت السلطة المصرية تستأذن هذا الكيان لإرسال فرق من الجيش إلى سيناء من أجل حمايته وحماية أنابيب الغاز الذي ينهبه من مصر؟!

كيف يمكن للعالم الإسلامي الممزق إلى كيانات قطرية أن يعيش في عالم التكتلات الكبرى المهيمنة، سواء أكانت تكتلات عسكرية كحلف شمال الأطلسي، أم كانت تكتلات اقتصادية كالعملاقين الأميركي والصيني وكالاتحاد الأوروبي؟

هل يحسب ثوار مصر وتونس أن الحكم عندهم خرج من القبضة الغربية؟! من كان يحسب ذلك فليراجع نفسه. لا شك أن الأسياد في الغرب تخلّوا مرغمين عن عميلهم في تونس وعن عميلهم في مصر تحت وطأة الثورة الشعبية، وما كانوا يحبون لأنفسهم ولا لعملائهم أن يُطردوا على هذا النحو المذلّ وبهذه السرعة المفاجئة، وبالتأكيد لم يكونوا يتمنون أن يصلوا إلى هذا المشهد المربك لهم، ومع ذلك فإن الزمام لم يفلت من يدهم حتى الآن. فرئيس البرلمان التونسي الذي تسلّم الرئاسة مؤقتاً فكلف محمد الغنوشي بتشكيل الحكومة الأولى ثم كلف الباجي السبسي بتشكيل الثانية هو من رواسب عصابة ابن علي، وقادة الجيش الذين يدعمون هذه الحكومة هم الضامن للهيمنة الأوروبية هناك. وكذلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو أداة أميركية صلبة تقاتل بما أوتيت من قوة من أجل الحفاظ على السيطرة الأميركية وعلى الحلف اللعين مع الكيان (الإسرائيلي).

هذه التساؤلات الماثلة بل الصارخة في واقع العالم الإسلامي، يجب أن تنبه الغافلين الذين غرقوا في نشوة النصر على طاغية تونس وفرعون مصر وسفاح ليبيا، وكذلك الذين سيغرقون في نشوة النصر على بقية الطغاة، أن استفيقوا ولا تغرقوا كثيراً في سكرة النصر في هذه الجولة الأولى، فالجولات التالية لا تقل عنها خطورة وأهمية ومصيرية. وإذا كانت الجولة الأولى قد احتاجت جرعة كبيرة من الجرأة والشجاعة فأنتجت ذلك المشهد البطولي، فإن الجولات التالية تحتاج إنعام الفكر وعمق النظر وسعة الوعي والعمل الدؤوب، فالتغيير الحقيقي لا يحصل بدحرجة الرؤوس الكبيرة وحسب، بل يبدأ بالفكر ويستمر بالفكر والعمل ويحصد بوصول برنامج سياسي حقيقي إلى سدة الحكم، لإعادة صياغة المجتمع والدولة صياغة جديدة تنتج لنا حياة جديدة بطريقة عيش جديدة، ثقافةً وحكماً واقتصاداً واجتماعاً وتعليماً وقضاءً وإعلاماً وسياسةً خارجية، تقطع كل صلة بالحضارة الغربية التي اكتوى العالم بلهيبها واحترق بنارها وحروبها واختنق بدخانها الأسود وتعفّن بنتنها وسُحِق باقتصادها وتاه بضلالها…

إنه خيار واحد لا غير، الإسلام من حيث هو مبدأ، عقيدةً وشريعةً، فكرةً وطريقةً، ومزجاً بين الروح والمادة، حضارةً تؤسس لمدنية متألقة زاهرة على أساس روحي عميق راسخ.

إنه الإسلام الهوية، الهوية التي تجعل الانتماء للعقيدة والحضارة والفكر والأمة والمجتمع لا للإثنيات القومية أو الوطنيات القطرية أو الطائفيات المذهبية أو العصبيات القبلية… (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)، فتزول الحدود السياسية الملعونة التي رسمتها سايكس بيكو وأخواتها من مؤامرات الاستعمار، وتعود الأمة أمة واحدة، في دولة الخلافة الراشدة الثانية التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواجه باجتماعها ووحدتها المارد الأميركي والعملاق الأوروربي الاتحادي والغول الصيني…، فالمسلمون كما وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام: «أمة واحدة من دون الناس» (ابن كثير)، «تتكافأُ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم» (أخرجه أبو داود). كل ذلك دون أي تفريط بسائر الناس الذين يعيشون مع المسلمين والذين هم جزء من الرعية، لهم حق الرعاية كاملة غير منقوصة، دون تصنيفهم مواطنين من الدرجة الثانية، فالإسلام لا يعرف هذا التصنيف، وقد بنى دولة ترعى شؤون الناس، جميع الناس، لا المسلمين فقط:

حُكماً يجعل السلطان للأمة لا لحزب ولا لعصابة ولا لعائلة ولا لطائفة ولا لمجلس عسكري ولا لحيتان المال، حيث يُبايع خليفة للمسلمين على السمع والطاعة، يرعى شؤون الناس، وحيث يحاسَب الحاكم من قبل الرعية ومجلس الأمة المنتخب ومن قبل الأحزاب السياسية والصحافة والإعلام، وحيث لا حصانة لأحد من الحكام والمحكومين من الخضوع لأحكام الشرع والقضاء، تنفيذاً لأمر الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).

واقتصاداً يرمي إلى إشباع الحاجات الأساسية للناس فرداً فرداً إشباعاً كاملاً، ويمكّن من شاء منهم أن يحقق سائر حاجاته الكمالية، باعتباره جزءاً من مجتمع يعيش طريقة معينة من العيش، اقتصاداً يحسن تحديد ما هو من الملكية العامة وما هو من الملكية الفردية تحديداً محكماً بعيداً عن أهواء الرأسماليين ووحوش المال وبعيداً عن نقمة طبقة الكادحين المسحوقين التي أنشأها النظام الرأسمالي. اقتصاداً يوجب على السلطة توزيع المال بين الرعية على نحو يحفظ التوازن بينهم بعيداً عن أوهام المساواة والشيوعية، تنفيذاً لقوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ).

واجتماعاً، يضبط اجتماع الرجل بالمرأة بعيداً عن الاختلاط الماجن والمستهتر، في ظل أحكام الإسلام التي حددت اللباس الشرعي للمرأة والرجل وشرعت الأحكام التي تجعل العلاقة بينهما في الحياة العامة وخارج إطار الزوجية علاقة إنسان بإنسان لا علاقة ذكورة وأنوثة، فتسود الطهارة والعفة والمروءة والشهامة المجتمع، بدلاً من الرذيلة التي نشرتها العلمانية والحرية الشخصية والحرية الإعلامية في عالمنا اليوم.

وقضاءً يلغي الفصل بين محاكم شرعية وأخرى مدنية تحكم بغير ما أنزل الله تعالى، فيكون القضاء كله في الأحوال الشخصية والمعاملات المالية والجنايات والقضايا السياسية… قضاء شرعياً يحكم بين الناس بشرع الله، ما عدا القضايا الروحية والعائلية لغير المسلمين الذين لا يجوز أن يُفتنوا عن دينهم ولا أن يجبروا على الأحكام الفردية التي شرعها الإسلام للمسلمين.

وتعليماً يهدف إلى بناء شخصية إسلامية بعقلية ونفسية إسلاميتين، فيساهم في صيانة المجتمع بعلاقات إسلامية صرفة، ويحرص على اكتساب العلوم التي تلزم للمجتمع والدولة للقيام بأعباء الحياة وتأمين وسائلها وأسبابها، ويؤمّن للأمة أسباب القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية، والسلامة الصحية، وازدهار العمارة ووسائل الرفاهية والراحة…

وإعلاماً يهدف إلى صيانة المجتمع وتعزيز ثقافته وهويته وإطلاق الطاقات الفكرية والذهنية على أساس روحي، ويلتزم مقاييس الحلال والحرام، ويحمل الإسلام رسالة إلى العالم، ولا سيما في زمن أضحت فيه الفضائيات سلاحا ً أمضى من الصاروخ والمدفع والبندقية. يصون عفة المجتمع بدلاً من تدمير العفة والطهارة الذي تمارسه عشرات الفضائيات العربية اليوم.

وسياسة خارجية تنظر إلى العالم على أنه إنسانية اشتاقت إلى معاني السعادة والهداية والرقي التي لا تتأتى إلا من خلال طريقة عيش تؤسَّس على الإيمان بالله تعالى خالقاً ومدبراً فتضع الإنسان على طريق إشباع حاجاته وغرائزه وفق أوامر الله تعالى ونواهيه، فتمزج بين الروح والمادة، وهي نظرة الإسلام الذي يرى الخلق جميعاً عيال الله، فيحمل المسلمون رسالتهم إلى العالم باتجاه أن يكون العالم عالماً واحداً في ظل شريعة الرحمة، بعيداً عن النظرة الاستعمارية التي أفسد الغرب بها العالم وملأه بالمآسي، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

هذا هو التفكير الذي ينبغي للذين اكتشفوا قدرتهم على التغيير من أبناء أمتنا، ولاسيما أولئك الشبان الذين فاجأوا العالم بصاعقة دكت عرش فرعون بلمح البصر، بعون الله. هذا هو التفكير الذي يليق بأمةٍ قال الله تعالى فيها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا). أما أن تُفرغ تلك الطاقة الهائلة في جهود ترقيعية تبقي أنظمة الغرب الرأسمالية البالية واقتصاده المتوحش وإعلامه الموجَّه، وتكرس الحدود وتقف عاجزة أمام قضية فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير…فبئس ما بُذلت له هذه الطاقة.

وإننا إذ نوجه هذه النصيحة إلى قادة الثورات التي أحرزت نجاحاً في الإطاحة بالطغاة دون أن تحرز أيّ نجاح في المشروع السياسي البديل، من أجل حثّهم على التفكير في هذا المشروع، والذي لا يمكن أن يكون إلا مشروع الدولة الإسلامية، تحدونا آمال عريضة أن الثورات التالية المنتظرة في سائر الأقطار التي تنتظر دورها بفارغ الصبر ستسفر قريباً إن شاء الله تعالى عن قيام دولة إسلامية تحكم بما أنزل الله، وتكون نواة لدولة المسلمين الجامعة، دولة الخلافة الراشدة الثانية، التي ستباشر مهامّها فوراً في تحرير الأمة من الهيمنة الغربية، وتطبيق أحكام الشرع رعايةً لشؤون الناس، وفي توحيد العالم الإسلامي تحت راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي إعلان الجهاد لتحرير فلسطين والعراق وسائر البلاد الإسلامية المحتلة، وصولاً إلى حمل الإسلام رسالةً إلى العالم.

اللهم مُنّ علينا بهذا النصر المبين، وبشِّرنا بهذا الخير العظيم، إنك يا مولانا سميع مجيب، وأنت ناصر المؤمنين والمستضعفين، وإنك على كل شيء قدير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *