تصادم الحضارات (2)
1994/02/01م
المقالات
2,036 زيارة
The Clash Civilizations
بقلم: صموئيل هنتكتون
تحت هذا العنوان كتبت مجلة «شؤون خارجية Foreign Affairs» الأميركية في عددها Vol.72 NO.3 مقالاً أحدث ردود فعل مختلفة عند كثير من المفكرين والسياسيين. وهذا المقال يتضمن أفكاراً ونظرات يجدر بنا نحن المسلمين الاطلاع عليها لأنها تزيدنا معرفة بعقلية الغرب وأسلوب تفكيره وخططه المستقبلة، خاصة ونحن نعمل للانعتاق من تسلطه علينا، ولحمل رسالتنا وحضارتنا الإسلامية للغرب وللعالم أجمع. ولذلك رأت «الوعي» اطلاع قرائها على ترجمة حرفية للمقال. وفيما يلي القسم الأخير منه:
الحشد الحضاري: ظاهرة الدولة القريبة
أن المجموعات أو الدول التي تنتمي إلى حضارة معينة والمتورطة في حرب ضد شعوب من حضارات مختلفة ستحاول طبيعياً أن تحشد الدعم من باقي أعضاء حضارتهم. وفيما ينبثق ويتطور عالم ما بعد الحرب الباردة فإن المشترك الحضاري، أو ما يسميه هـ. د. غرينوي H.D Greenway بظاهرة «الدولة القريبة» Kin-country، يحل مكان الأيديولوجية السياسية والتوازن التقليدي للاعتبارات السياسية كأساس رئيسي للتعاون والتحالف. ويمكن مشاهدة هذه الظاهرة تبرز تدريجياً في صراعات ما بعد الحرب الباردة في الخليج الفارسي والقفقاس والبوسنة، فلم يكن أي منها حرباً شاملة بين الحضارات، إلا أن كلاً منها تضمن بعض عناصر الحشد الحضاري والتي بدا أنها تزداد أهمية كلما طال أمد الصراع، كما أنها تعطي عينه ونموذجاً لما سيكون عليه المستقبل.
أولاً، في حرب الخليج احتلت دولة عربية دولة أخرى ثم حاربت ضد تحالف من الدول العربية والغربية والدول الأخرى. وبينما لم يدعم صدام حسين بشكل علني إلا القليل من الحكومات الإسلامية إلا أن العديد من النخب العربية صفقوا بشكل خفي له، كما ازدادت شعبيته بين قطاعات واسعة من عامة العرب. فالحركات الأصولية الإسلامية دعمت بشكل عام العراق أكثر من الحكومات المدعومة من الغرب في الكويت والعربية السعودية، فبتنكره للقومية العربية تبنى صدام حسين بصراحة خطاباً إسلامياً. فقد حاول هو ومؤيدوه أن يصوروا الحرب كحرب بين حضارتين. «إنه ليس العالم ضد العراق» كما يقول الشيخ سفر الحوالي في شريط كاسيت واسع التداول، وهو عميد الدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى في مكة، «وإنما هو الغرب ضد الإسلام». والزعيم الديني الرئيسي لإيران، آية الله علي خامنئي، تجاوز العداء بين إيران والعراق ودعا إلى الجهاد ضد الغرب: «أن النضال ضد العدوان والإجراءات والمخططات والسياسات الأميركية سوف يعتبر جهاداً، وكل من يُقتل على هذا الدرب يعتبر شهيداً». «إنها حرب» كما أعلن الملك حسين: «ضد كل العرب والمسلمين وليس ضد العراق وحده».
أن استنفار قطاعات مهمة من النخب والعامة من العرب خلف صدام حسين دفع بتلك الحكومات العربية ضمن التحالف المعادي للعراق إلى التخفيف من نشاطاتها وضبط تصريحاتها المعلنة. والحكومات العربية عارضت أو أبعدت نفسها عن الجهود الغربية المبذولة فيما بعد لتسليط الضغط على العراق، بما في ذلك فرض منطقة حظر الطيران في صيف 1992 وقصف العراق في يناير 1993. لقد تحول التحالف الغربي ـ السوفيتي ـ التركي ـ العرب المعادي للعراق في سنة 1990 إلى تحالف يكاد أن يكون مقصوراً على الغرب والكويت ضد العراق.
لقد قارن المسلمون بين إجراءات الغرب ضد العراق وفشله في حماية البوسنة ضد الصرب، وفي فرض المقاطعة ضد إسرائيل لانتهاكها قرارات الأمم المتحدة. فالغرب، كما ادعوا، كان يكيل بمكيالين. أن عالم الحضارات المتصادمة هو عالم المكيالين بشكل محتم: فالناس يطبقون مكيالاً معيناً عندما يتعلق الأمر بدولة قريبة ومكيالاً آخر مختلفاً نحو الآخرين.
ثانياً، برزت ظاهرة الدولة القريبة أيضاً في الصراعات الناشبة فيما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي. فالانتصارات التي حققها الأرمن في سنة 1992 و1993 استفزت تركيا وجعلتها تزيد دعمها وإسنادها لاخوتها في الدين والعرق واللغة في أذربيجان. «أن لدينا أمة تركية تحس نفس المشاعر التي يحسها الآذريون»، كما أعلن مسؤول تركي في 1992. «أننا تحت الضغط، فصحافتنا تمتلئ بالصور التي تظهر الوحشية، وهي تتساءل إن كنا لا زلنا جادين حول انتهاج سياستنا المحايدة. لعله يجب علينا أن نرى أرمينيا أنه هناك تركيا كبيرة في المنطقة». وقد وافق الرئيس تورغوت أوزال على ذلك ملمحاً أن تركيا يجب عليها على الأقل «أن تخيف الأرمن قليلاً». إن تركيا، كما هدد أوزال ثانية في سنة 1993، سوف «تبرز أنيابها». وقد بدأت طائرات القوة الجوية التركية بالتحليق في مهمات استطلاعية على امتداد الحدود الأرمينية، ثم علقت تركيا شحنات الطعام والرحلات الجوية إلى أرمينيا، كما أعلنت مع إيران أنهم لن يقبلا بتقسيم أذربيجان. وفي السنوات الأخيرة من عمرها دعمت الحكومة السوفيتية أذربيجان لأن حكومتها كانت تخضع لهيمنة الشيوعيين السابقين. ومع انتهاء الاتحاد السوفيتي تراجعت الاعتبارات السياسية أمام الاعتبارات السياسية أمام الاعتبارات الدينية. لقد حاربت القوات الروسية إلى جانب الأرمن، واتهمت أذربيجان «الحكومة الروسية بأنها استدارت 180 درجة» في اتجاه دعم أرمينيا المسيحية.
ثالثاً، فيما يخص القتال الدائر في يوغوسلافيا السابقة، أبدى الرأي العام الغربي تعاطفاً ودعماً للمسلمين البوسنيين وللأهوال التي عانوها على أيدي الصرب. إلا أنه لم يبد لا اهتماماً قليلاً نسبياً حول هجمات الكروات ضد المسلمين ومشاركتهم في تقسيم البوسنة والهرسك. وفي المراحل المبكرة من تفتت يوغسلافيا، وفي استعراض غير اعتيادي للمبادرة الدبلوماسية والعضلات، قامت ألمانيا بحث الأعضاء الأحد عشر الآخرين في الجماعة الأوروبية على اتباعها في الاعتراف بسلوفينيا وكرواتيا. وكنتيجة لتصميم البابا على تقديم دعم قوي للبلدين الكاثوليكيين قام الفاتيكان بإعلان الاعتراف بهما حتى قبل أن تقوم الجماعة الأوروبية بذلك. ثم اتبعت الولايات المتحدة المبادرة الأوروبية. وبهذا استنفر اللاعبون الرئيسيون في الحضارة الغربية أنفسهم خلف أبناء دينهم. وأثر ذلك أشارت التقارير إلى أن كرواتيا تستلم كميات ملحوظة من الأسلحة من دول أوروبا الوسطى وباقي الدول الغربية. وقد حاولت حكومة بوريس يلتسن من ناحية أخرى أن تنتهج طريقاً وسطاً، متعاطفاً مع الصرب الأرثوذكس لكنه لا يباعد بين روسيا والغرب. مع ذلك فإن مجموعات المحافظين والقوميين الروس، بما في ذلك بعض أعضاء البرلمان، هاجمت الحكومة لعدم دعمها للصرب بشكل كاف. ومع بداية 1993 كان يبدو أن المئات من الروس يخدمون ضمن القوات الصربية، كما أشارت التقارير إلى إمدادات الأسلحة الروسية إلى الصرب.
من جهة أخرى فقد انتقدت الحكومات الإسلامية الغرب بشدة لعدم دفاعه عن البوسنيين. فقد حث القادة الإيرانيون المسلمين في كل بلاد العالم على تقديم المساعدة للبوسنة؛ وخرق الإيرانيون حظر تصدير الأسلحة المفروض من قبل الأمم المتحدة بإرسالهم الأسلحة والرجال إلى البوسنة؛ وأرسلت المجموعات اللبنانية المدعومة من إيران مجموعة من رجال حرب العصابات لتدريب وتنظيم القوات البوسنية. وفي سنة 1993 ذكرت التقارير أن هناك حوالي 4.000 مسلم من حوالي 12 دولة إسلامية يقاتلون في البوسنة. ووجدت حكومات المملكة العربية السعودية وبلدان أخرى نفسها تحت ضغط متزايد من قبل المجموعات الأصولية ضمن مجتمعاتها التي كانت تطالب بدعم أقوى وأكثر فعالية للبوسنيين. ومع انتهاء العام 1992 ذكرت التقارير أن السعودية قد قدمت أموالاً كبيرة لشراء الأسلحة والتموينات للبوسنيين مما زاد بشكل ملحوظ من إمكانياتهم العسكرية في مواجهة الصرب.
لقد أدت الحرب الأهلية الأسبانية في الثلاثينات إلى تدخل دول كانت سياسياً إما فاشية أو شيوعية أو ديمقراطية. أما في التسعينات فإن النزاع اليوغسلافي يؤدي إلى تدخل دول الإسلامية أو أرثوذكسية أو مسيحية غربية. وهذا التماثل لم يمر دون ملاحظة. «أن الحرب في البوسنة والهرسك قد أصبحت عاطفياً مرادفة للقتال ضد الفاشية أثناء الحرب الأهلية الأسبانية» كما كتب أحد الصحفيين السعوديين: «فأولئك الذين قتلوا هناك يعتبرون شهداء حاولوا إنقاذ اخوتهم المسلمين».
أن الصراعات وأعمال العنف ستحصل أيضاً بين الدول والمجموعات ضمن الحضارة الواحدة. إلا أن صراعات كهذه ستكون غالباً أقل حدة وأقل قابلية للتوسع من تلك التي بين الحضارات. أن الانتماء المشترك ضمن حضارة يقلل من احتمال العنف في مواقف عادة ما تكون مصحوبة بالعنف. ففي سنتي 1991 و1992 ثارت مخاوف الكثيرين من احتمال حدوث نزاع عنيف بين روسيا وأوكرانيا حول المناطق الإقليمية، خاصة القرم، وحول أسطول البحر الأسود والأسلحة النووية والقضايا الاقتصادية. فلو كانت الحضارة هي العامل المهم فغن احتمال حدوث العنف بين الروس والأوكرانيين يجب أن يكون قليلاً. فكلاهما سلاف وأرثوذكس ارتبطا فيما بينهما ارتباطاً وثيقاً لعدة قرون. ومع بداية 1993، ورغم كل الأسباب المبررة للصراع، فإن قادة البلدين يتباحثون بشكل فعال ويحلون المشاكل العالقة بينهما. وفيما كان القتال محتدماً بشكل خطير بين المسلمين والمسيحيين في مناطق أخرى من الاتحاد السوفيتي المنحل، والتوتر المصحوب أحياناً بالقتال موجود بين المسيحيين الغربيين والأرثوذكس في دول البلطيق، لم يحدث عنف ظاهري بين الروس والأوكرانيين.
أن الاستنفار الحضاري لا يزال محدوداً حتى الآن، إلا انه ينمو، ومن الواضح أنه له القدرة الكامنة على الانتشار أكثر. وفي حين كانت الصراعات في الخليج الفارسي والقفقاس والبوسنة مستمرة فإن مواقف الأمم والانشطارات بينها كانت تتم بشكل متزايد على امتداد حدود الحضارات. لقد وجد الساسة الشعبيون والقادة الدينيون والإعلام هذا الأمر وسيلة فعالة لإيقاظ واستقطاب الدعم الجماهيري وكوسيلة ضغط ضد الحكومات المترددة. وفي السنوات القادمة فإن أكثر النزاعات الإقليمية المرشحة لأن تتصاعد إلى حروب رئيسية ستكون، كما في البوسنة القفقاس، تلك الحاصلة على امتداد الخطوط الفاصلة بين الحضارات. والحرب العالمية القادمة، إن حصلت، ستكون حرباً بين الحضارات.
الغرب في مواجهة الجميع
أن الغرب يتربع الآن بشكل غير اعتيادي على قمة القوة مقارنة بباقي الحضارات. فالقوة العظمى التي كانت تواجهه قد اضمحلت واختفت من الخارطة. والنزاع المسلح بين الدول الغربية أمر شبه مستحيل، بينما القوة العسكرية الغربية لا يجاريها أحد. وعدا اليابان فإن الغرب لا يواجه تحدياً اقتصادياً. فهو يهيمن على المؤسسات السياسية والأمنية والعالمية، وبالمشاركة مع اليابان يهيمن على المؤسسات الاقتصادية العالمية. فالقضايا السياسية والأمنية العالمية تحل من قبل إدارة أميركية بريطانية فرنسية، أما القضايا الاقتصادية العالمية فتخضع لإدارة أميركية يابانية ألمانية، وجميع هذه القوى تحتفظ بعلاقات وثيقة فيما بينها لم يسبق لها مثيل، إلى حد استبعاد البلدان الأصغر وغير الغربية بشكل عام. أن القرارات المتخذة في مجلس الأمن الدولي أو في صندوق النقد الدولي والتي تعكس مصالح الغرب تعرض إلى العالم كانعكاس لمشيئة المجتمع الدولي. بل أن عبارة «المجتمع الدولي» قد أصبحت تعبيراً لطيفاً مخففاً (يحل محل «العالم الحر») لإضفاء صبغة شرعية دولية على الخطوات والإجراءات التي تعكس مصالح الولايات المتحدة وباقي القوة الغربية(*). ومن خلال صندوق النقد الدولي وباقي المؤسسات الاقتصادية يقوم الغرب بخدمة مصالحه الاقتصادية التي يعتقد أنها ملائمة. وفي أي استفتاء يجري بين الشعوب غير الغربية فإن صندوق النقد الدولي سيحضى بدون شك بدعم وزراء المالية والبعض القليل من غيرهم، إلا أنه سيحصل على نتائج سلبية كاسحة من كل فرد آخر، الذي سيوافق جيورجي آرباتوف Georgy Arbatov في وصفه لمسؤولي صندوق النقد بأنهم «بلشفيون جدد يحبون مصادرة أموال الناس الآخرين، ويفرضون قواعد غريبة وغير ديمقراطية للأداء السياسي والاقتصادي ويضيقون الحرية الاقتصادية».
أن الهيمنة الغربية على مجلس الأمن الدولي وقراراته، التي يتخللها أحياناً امتناع الصين، قد أفرز تفويضاً شرعياً من الأمم المتحدة للغرب باستخدام القوة لإخراج العراق من الكويت وإتلاف أسلحته المتطورة والقضاء على قدرته على إنتاج هذه الأسلحة. كما أن هذه الهيمنة قد أفرزت الإجراء الذي لم يسبق له مثيل من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في جعل مجلس الأمن يطالب ليبيا بتسليم المتهمين بتفجير طائرة البان أميركان 103 ومن ثم بفرض المقاطعة عندما رفضت ليبيا ذلك. وبعد انتصاره على أكبر الجيوش العربية لم يتردد الغرب في إلقاء ثقله حول العالم العربي. فالغرب في الواقع يستخدم المؤسسات الدولية والقوة العسكرية والمصادر الاقتصادية لإدارة العالم بأساليب من شأنها أن تصون هيمنته وتحمي مصالحه وتقوي قيمه السياسية والاقتصادية.
أن هذا هو على الأقل نظرة غير الغربيين إلى العالم الجديد، وهناك جانب كبير من الحقيقة في نظرتهم هذه. أن الفوارق في القوة، والصراعات من أجل الحصول على القوة العسكرية والاقتصادية والمؤسساتية هي إذن إحدى مصادر الصدام بين الغرب وباقي الحضارات. والاختلافات الثقافية وبكلمة أخرى القيم والمعتقدات الأساسية، هي المصدر الثاني لهذا الصراع والصدام. ويرى نايبول V.S Naipaul أن الحضارة الغربية هي «الحضارة العالمية» التي «تلاءم كل البشر». وعلى المستوى السطحي فإن جزءاً كبيراً من الحضارة الغربية قد اخترق باقي العالم بالفعل. إلا أنه على المستوى الأعمق والأساسي فإن المفاهيم الغربية تختلف جذرياً عن تلك السائدة في حضارات أخرى. فأفكار الغرب حول الفردية، الليبرالية، الدستورية، حقوق الإنسان، المساواة، الحرية، سيادة القانون، الديمقراطية، الأسواق الحربة، فصل الكنيسة عن الدولة، لا تجد غالباً إلا صدى قليلاً لدى الحضارات الإسلامية أو الكونفوشية أو اليابانية أو الهندوسية أو البوذية أو الأرثوذكسية. كما أن محاولات الغرب لنشر هذه المفاهيم ولدت بدلاً من ذلك رد فعل ضد «إمبريالية حقوق الإنسان» والتأكيد أكثر على القيم المحلية، كما يمكن مشاهدته في مساندة الأجيال الشابة للأصولية الدينية في الثقافات غير الغربية. إن مجرد احتمال وجود «حضارة عالمية» هو فكرة غربية، تتناقض مباشرة مع خصوصية معظم المجتمعات الآسيوية وتركيزها على ما يميز شعباً معيناً عن الآخر. والواقع أن هاري تريانديس Harry Triandis أجرى مراجعة لمائة دراسة مقارنة حول القيم في مختلف المجتمعات وتوصل إلى «أن القيم الأكثر أهمية لدى الغرب هي الأقل أهمية عالمياً».وفي عالم السياسية، بالطبع، فإن هذه الفوارق تتوضح أكثر في الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وباقي القوى الغربية لحث باقي الشعوب على تبني الأفكار الغربية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. أن شكل الحكومة الديمقراطية المعاصرة انبثق من الغرب. وعندما تطور هذا الشكل في المجتمعات غير الغربية فإنه كان نتاجاً للاستعمار أو لفرضه من قبل الغرب.
أن المحور الأساسي للسياسة العالمية في المستقبل سيكون غالباً، على حد قول كيشور محبوباني Kishore Mahbobani، الصراع بين «الغرب وباقي العالم» «The West vs. The Rest»، وكيفية استجابة الحضارات غير الغربية لقوة وقيم الغرب. فمن جانب تستطيع الدول غير الغربية، كبورما وكوريا الشمالية، محاولة انتهاج طريق الانعزال من أجل حماية وتحصين مجتمعاتها ضد النفوذ أو «الإفساد» الغربي وبالتالي الابتعاد عن المشاركة فعلياً في المجتمع الدولي الخاضع لهيمنة الغرب. أن تكاليف هذا السلوك عالية وهناك بعضة دول فقط انتهجته بشكل تام. والاحتمال الثاني هو ما يشبه الانحياز في نظريه العلاقات الدولية، أي محاولة الالتحاق بركب الغرب وقبول قيمه ومؤسساته. والاحتمال الثالث هو محاولة «موازنة» الغرب عن طريق تنمية وتطوير القوة الاقتصادية والعسكرية والتعاون مع باقي المجتمعات غير الغربية ضد الغرب، مع الحفاظ في نفس الوقت على القيم والمؤسسات المحلية، أي باختصار محاولة التحديث وليس التغريب.
البلدان الممزقة
في المستقبل، وفيما يميز الناس أنفسهم بانتمائهم الحضاري، ستصبح الدول التي تقطنها أعداد كبيرة من السكان من حضارات متعددة كالاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا مرشحة للتفتت. وبعض الدول تتمتع بدرجة محترمة من التجانس الثقافي إلا أنها منقسمة على نفسها حول انتماء مجتمعها إلى حضارة معينة أو أخرى. وهذه جميعاً تعتبر دولاً ممزقة. أن قادتها يتمنون عادة اتباع استراتيجية انحياز bandwagoning وتحويل بلدانهم إلى أعضاء في العالم الغربي، إلا أن التاريخ والثقافة والعادات السائدة في بلدانهم غير غربية. وأضح مثال للبلد الممزق هو تركيا. فقادة تركيا في نهاية القرن العشرين قد اتبعوا خطى كمال أتاتورك وعرّفوا تركيا باعتبارها دولة حديثة علمانية قومية غربية. فهم حالفو تركيا مع الغرب ضمن حلف الناتو وأثناء حرب الخليج؛ كما أنهم طلبوا الانضمام إلى الجماعة الأوروبية. إلا أنه في نفس الوقت تساند عناصر في المجتمع التركي نوعاً من النهضة الإسلامية وترى أن تركيا هي مبدئياً مجتمع مسلم شرق أوسطي. إضافة إلى ذلك، وبينما تعتبر النخبة في تركيا البلد مجتمعاً غريباً، فإن النخبة في الغرب ترفض قبول هذا الوصف لتركيا، أن تركيا لن تصبح عضواً في الجماعة الأوروبية، والسبب الحقيقي، كما قال الرئيس أوزال، «إننا مسلمون وهم مسيحيون، لكنهم لا يعلنون ذلك». فبعد أن أدارت ظهرها لمكة، ثم بعد أن رفضت من قبل بروكسل، فأين تنظر تركيا الآن؟ أن طشقند قد تكون الجواب. أن نهاية الاتحاد السوفياتي تعطي تركيا الفرصة لأن تقود حضارة تركية ناهضة تشمل سبع دول من حدود اليونان إلى حدود الصين. وبتشجيع من الغرب تبذل تركيا جهوداً مضنية لخلق هذه الهوية الجديدة لها.
وأثناء العقد الماضي كانت المكسيك في وضع مماثل إلى حد ما لوضع تركيا. فكما أن تركيا تركت منافَسَتَها التاريخية لأوروبا وحاولت الانضمام إليها، كذلك توقف المكسيك عن تعريف نفسها باعتبارها معارضة للولايات المتحدة وهي تحاول بدلاً من ذلك تقليدها والانضمام إليها ضمن منطقة التجارة الحرة لأميركا الشمالية NAFTA. والقادة المكسيكيون منشغلون بالمهمة الشاقة لإعادة تحديد الهوية المكسيكية، وقد أدخلوا إصلاحات اقتصادية من شأنها أن تؤدي إلى تحولات سياسية أساسية. وفي سنة 1991 وصف ليس مستشار كبير للرئيس المكسيكي كارلوس ساليناس بالتفصيل التغييرات التي كانت تجريها حكومته. وبعد انتهائه من الكلام علقت قائلاً: «أن هذا شيء مؤثراً جداً. يبدو لي أنكم مبدئياً تريدون تحويل المكسيك من دولة أميركية لاتينية إلى دولة اميركية شمالية». فنظر لي بدهشة وقال: «بالضبط! هذا بالضبط ما نحاول القيام به، إلا أننا لا نستطيع أبداً أن نعلنه صراحة بالطبع». وكما تشير ملاحظاته، ففي المكسيك كما في تركيا، توجد عناصر مهمة في المجتمع تقاوم اعادة تحديد هوية البلاد. في تركيا يجب على القادة ذوي الميول الأوروبية أن يومئوا باحترام للإسلام (قيام اوزال بأداء فريضة الحج)؛ كذلك قادة المكسيك ذوو الميول الأميركية الشمالية يجدون أنفسهم مضطرين لاحترام أولئك الذين يصرون على تعريف المكسيك كبلد أميركي لاتيني (قمة الدول الأميركية الناطقة بالأسبانية المنعقد في وادي الحجارة برعاية الرئيس ساليناس).
وتاريخياً فإن تركيا هي أكثر البلدان تمزقاً. أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن المكسيك هي أكثر البلدان تمزقاً. إلا أن روسيا تعتبر أكثر البلدان تمزقاً على المستوى العالمي. أن السؤال حول ما إذا كانت روسيا جزءاً من الغرب أو القائدة لحضارة سلافية أرثوذكسية متميزة قد تكرر دائماً خلال التاريخ الروسي. لقد حجب انتصار الثورة الشيوعية في روسيا هذا الموضوع، هو الانتصار الذي استورد عقيدة غربية ثم عدلها لتلائم ظروف روسيا، ثم تحدي الغرب باسم هذه العقيدة. أن هيمنة الشيوعية قد أوقف الخلاف التاريخي حول التغريب مقابل الروسنة. ومع زوال الشيوعية يواجه الروس مرة أخرى هذا السؤال.
أن الرئيس يلتسين يتبنى المبادئ والأهداف الغربية، ويحاول جعل روسيا دولة «طبيعية» وجزءاً من الغرب. مع ذلك فإن النخبة الروسية وعامة الناس منقسمون حول هذا الأمر. ومن بين أكثر المنشقين اعتدالاً يعتقد سيرجي ستانكفيش Sergi Stankevich أن على روسيا أن ترفض الاتجاه «الأطلنطي» الذي من شأنه أن يحولها «أوروبية، وجزءاً من الاقتصاد العالمي بأسلوب سريع ومنظم، والعضو الثامن لمجموعة السبعة، مع التركيز الخاص على ألمانيا والولايات المتحدة باعتبارهما القوتين المهيمنتين ضمن التحالف الأطلنطي». وبينما يرفض ستانكفيش أيضاً سياسة أوروآسيوية خالصة، إلا أنه يعتقد أن على روسيا أن تعطي الأولوية لحماية الروس في البلدان الأخرى، مع التركيز على العلاقات التركية والإسلامية وتشجيع «اعادة محترمة لتوزيع ثرواتنا وخياراتنا وارتباطاتها ومصالحنا في اتجاه آسيا، نحو الشرق». أن أصحاب هذه القناعة ينتقدون يلتسين لتقديمه مصالح الغرب على مصالح روسيا، ولتقليصه قوة روسيا العسكرية، ولفشله في دعم الأصدقاء التقليديين كصربيا، ولدفعه خطوات الإصلاح الاقتصادي والسياسي بطريقة آذت الشعب الروسي. ومما يشير إلى هذا الاتجاه الشعبية الجديدة لأفكار بيتر سافيتسكي Petet Savitsky، الذي كان يرى في العشرينات أن روسيا تمثل حضارة أورو آسيوية مميزة. أما المنشقون المتطرفون فيبدون وجهات نظر أكثر قومية وعنصرية، وأكثر عداء للغرب وللسامية، وهم يحثون روسيا على اعادة تطوير قوتها العسكرية وتأسيس علاقات وثيقة مع الصين والبلدان الإسلامية. والشعب في روسيا منقسم مثل النخبة. فقد كشف استطلاع للرأي في روسيا الأوروبية أجري في ربيع 1992 أن 40% من الشعب له مواقف إيجابية تجاه الغرب بينما 36% لهم مواقف سلبية. فروسيا في بداية التسعينات، كما كانت معظم تاريخها، بلد ممزق.
ولإعادة تحديد هويته الحضارية يجب على البلد الممزق أن يحقق ثلاثة شروط. أولاً، يجب أن تكون النخبة السياسية والاقتصادية عموماً مؤيدة ومتحمسة لهذه الخطوة. ثانياً، يجب أن يكون الشعب مستعداً لقبول اعادة التحديد هذا. وثالثاً، يجب أن تكون المجموعات السائدة ضمن الحضارة المتلقية راغبة ومستعدة لاحتضان التغيير. هذه الشروط الثلاثة موجودة إلى حد كبير في حالة المكسيك. والشرطان الأولان موجودان إلى حد كبير في حالة تركيا إلا أنه لا يبدو توفر أي من الشروط هذه في حالة محاولة روسيا الليبرالية واللينينية ـ الماركسية كان بين عقيدتين تشتركان، رغم الخلافات الرئيسية، في نظراتهما وأهدافهما النهائية في الحرية المساواة والرفاهية. أما روسيا التقليدية والاستبدادية القومية فقد يكون لها أهداف مختلفة كلياً. أن الديمقراطي الغربي يستطيع أن يفتح حواراً مثقفاً مع ماركسي سوفيتي. إلا أنه سيكون شبه مستحيل ظاهرياً إجراء حوار كهذا مع روسي تقليدي. فإذا رفض الروس ـ وهم يتوقفون عن التصرف كماركسيين ـ الديمقراطية الغربية وبدأوا التصرف كروس وليس كغربيين، فإن العلاقات بين روسيا والغرب مرشحة مرة أخرى للتباعد والخلاف.
الرابطة الإسلامية الكونفوشية
أن العراقيل التي تحول دون انضمام البلدان غير الغربية إلى الغرب متنوعة جداً. فهي أقل ما تكون في حالة البلدان الأميركية اللاتينية والأوروبية الشرقية. وهي أكثر في حالة البلدان الأرثوذكسية التي كانت تشكل سابقاً الاتحاد السوفيتي. وهي مع ذلك أكثر في حالة المجتمعات الإسلامية والكونفوشية والهندوسية والبوذية. لقد استطاعت اليابان أن توجد لنفسها موقفاً مميزاً كعضو مشارك في الغرب: فهي من الغرب في بعض الأوجه، إلا أنها بالتأكيد ليست جزءاً من الغرب في مجالات مهمة. وتلك الدول التي لا تريد، أو لا تستطيع، بسبب الثقافة والسلطة والقوة أن تنضم إلى الغرب تتنافس معه عن طريق تطوير قوتها الذاتية اقتصادياً وعسكرياً وسياسيا. وهي تقوم بذلك بتشجيع التنمية الداخلية وبالتعاون مع بلدان غير غربية أخرى. وأوضح أشكال هذا التعاون هو العلاقة الكونفوشية الإسلامية التي قد برزت لتحدي مصالح الغرب وقيمة وقوته.
أن البلدان الغربية، بدون استثناء تقريباً، تقلص من قوتها العسكرية؛ وكذلك تفعل روسيا تحت قيادة يلتسن. بينما تقوم الصين وكوريا الشمالية وعدة دول شرق أوسطية بزيادة وتوسيع قدراتها العسكرية بشكل ملحوظ. وهي تقوم بذلك عن طريق استيراد الأسلحة من المصادر الغربية وغير الغربية، إضافة إلى تطوير صناعاتها العسكرية محلياً. وإحدى نتائج ذلك ما أسماه تشارلس كروتهامر Charles Krauthammer «دول الأسلحة»، ودول الأسلحة ليست غربية. ونتيجة أخرى هي إعادة تعريف الحد من التسليح، الذي هو مفهوم وهدف غربيان. فأثناء الحرب الباردة كان الهدف الأساسي للحد من التسلح هو إيجاد توازن عسكري بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والاتحاد السوفيتي وحلفائه من جهة أخرى. أما في عالم ما بعد الحرب الباردة، فإن الهدف الأساسي للحد من التسلح هو منع المجتمعات غير الغربية من تطوير قدرات عسكرية تستطيع تهديد الاتفاقيات الدولية والضغوط الاقتصادية والسيطرة على انتقال تقنيات الأسلحة والتسلح.
أن الصراع بين الغرب والدول الكونفوشية ـ الإسلامية يركز أساساً، وليس بشكل مطلق، على الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية، الصواريخ البالستية والوسائل الأخرى المتطورة لحمل هذه الأسلحة ووسائل التوجيه والسيطرة والقدرات والإلكترونية الأخرى اللازمة لتحقيق هذا الهدف. أن الغرب يشجع الحد من الانتشار كمبدأ عالمي ويشجع معاهدات الحد من التسلح والتفتيش كوسائل لتطبيق هذا المبدأ. كما أنه، أي الغرب، يهدد بفرض أنواع من المقاطعة ضد أولئك الذين يشجعون انتشار الأسلحة المتطورة، فيما يعرض في نفس الوقت بعض الفوائد والمزايا لأولئك الذين لا يقومون بذلك. واهتمام الغرب ينصب طبيعياً على الدول التي هي معادية للغرب بالفعل الآن أو احتمالاً في المستقبل.
من ناحية أخرى فإن الدول غير الغربية تؤكد على حقها بامتلاك ونشر أي أسلحة تراها ضرورية لأمنها. وقد استوعبت هذه الدول أيضاً وبشكل تام الحقيقة خلف رد فعل وزير الدفاع الهندي الذي أجاب عندما سئل عن الدرس المستفاد من حرب الخليج: «لا تحارب الولايات المتحدة ما لم تمتلك الأسلحة النووية». أن الأسلحة النووية والكيماوية والصواريخ ينظر إليها باعتبارها تمتلك القدرة على معادلة القوة التقليدية المتفوقة للغرب. أن الصين تمتلك الأسلحة النووية؛ والباكستان والهند لهما القدرة على تصنيعها. وكوريا الشمالية وإيران والعراق وليبيا والجزائر يبدو أنها تحاول الحصول عليها. وقد أعلن مسؤول إيراني كبير أن جميع البلدان الإسلامية عليها أن تمتلك الأسلحة النووية، وفي سنة 1988 ذكرت التقارير أن الرئيس الإيراني أصدر أمراً يدعو إلى تطوير «أسلحة كيماوية وبيولوجية ونووية، ودفاعية وهجومية».
والمهم مركزياً في تطوير القدرات العسكرية المضادة للغرب هو النمو المستمر في قوة الصين العسكرية وفي وسائلها وأساليبها لخلق هذه القوة. وبدعم من نمو اقتصادي مذهل تزيد الصين من إنفاقها العسكري وتتحرك بخطى محمومة نحو تحديث قواتها المسلحة. فهي تشتري الأسلحة من دول الاتحاد السوفيتي سابقاً؛ وهي تطور الصواريخ البعيدة المدى؛ وفي سنة 1992 قامت بإجراء تفجير نووي بقوة 1 ميغاطن. كما أنها تحاول تطوير قدرات استعراض وتوجيه القوة، حيث حصلت على تقنية الأوضاع الجوي وتحاول الحصول على حاملة طائرات. أن بناءها العسكري وتأكيدها على سيادتها على بحر الصين الجنوبي يحفز سباق تسلح محلي متعدد الأطراف في شرق آسيا. والصين هي أيضاً مصدِّر رئيسي للأسلحة والتقنية العسكرية. فهي قد صدرت مواد إلى ليبيا والعراق يمكن استخدامها لتصنيع الأسلحة النووية وغاز الأعصاب. وهي قد ساعدت الجزائر على بناء مفاعل نووي يصلح لأبحاث وصناعة الأسلحة النووية. وهي قد باعت إيران تقنية نووية يعتقد المسؤولون الأميركيون أنها يمكن أن تستخدم فقط لصنع الأسلحة. كما أنها شحنت أجزاء لصواريخ ذات مدى حوالي 500 كلم إلى باكستان. وكوريا الشمالية تمتلك برنامج تسليح نووي منذ مدة، كما أنها باعت صواريخ متطورة مع تقنيتها إلى سوريا وإيران. أن تدفق الأسلحة وتقنية صنعها هو بشكل عام من شرق آسيا إلى الشرق الأوسط. مع ذلك فهناك بعض التدفق في الاتجاه المعاكس؛ فالصين قد حصلت على صواريخ ستينغر من باكستان.
إذن لقد ظهرت رابطة عسكرية كونفوشية ـ إسلامية إلى حيز الوجود، صممت لتشجيع امتلاك أعضائها للأسلحة والتقنيات العسكرية اللازمة لمواجهة القوة العسكرية للغرب. وهي رابطة قد تستمر أو لا تستمر. إلا أنها حالياً، وعلى حد تعبير ديف ماكردي، «اتفاقية دعم ثنائية بين خارجين عن الصف، تدار من قبل مصنعي الأسلحة ومن يدعهم». فهناك إذن نوع جديد من التنافس التسليحي يحدث بين الدول الكونفوشية ـ الإسلامية وبين الغرب. ففي سباق التسلح التقليدي كان كل طرف يطور أسلحته وقوته لمعادلة أو الحصول على التفوق ضد الطرف الآخر. أما في هذا النوع الجديد من التنافس فإن أحد الأطراف يطور قوته وأسلحته بينما لا يحاول الطرف الآخر معادلتها وإنما الحد من أو منع هذا البناء العسكري، بينما في الوقت نفسه يعمل على تقليص قدراته العسكرية الذاتية.
مضامين للغرب
أن هذا المقال لا يقول أن الهوية الحضارية سوف تحل محل الهويات الأخرى، أو أن الدول القومية ستزول، أو أن كل حضارة ستصبح كياناً سياسياً منسجماً واحداً، أو أن المجاميع المختلفة ضمن الحضارة الواحدة سوف لا يتصارعون أو يتقاتلون فيما بينهم. أن هذا المقال يطرح فرضية أن الخلافات والفوارق بين الحضارات حقيقة ومهمة؛ أن الشعور الحضاري يتزايد؛ أن الصراع بين الحضارات سوف يحل محل الصراع الأيديولوجي وباقي أشكال الصراع كالأسلوب المهيمن عالمياً للصراع؛ أن العلاقات الدولية، التي هي تاريخياً لعبة كانت تمارس ضمن الحضارة الغربية، يتم إزالة الصفة الغربية عنها بشكل متسارع لتصبح لعبة تشترك فيها الحضارات غير الغربية كلاعبين وليس فقط كقطع لعب؛ أن المؤسسات الدولية والسياسية والأمنية والاقتصادية الناجحة ستتطور على الأغلب ضمن الحضارات وليس فيما بينها؛ أن الصراعات بين المجموعات في الحضارات المختلفة تكون أكثر شيوعاً، وأكثر استمرارية وأكثر عنفاً من الصراعات بين المجموعات ضمن الحضارة الواحدة؛ أن الصراعات المصحوبة بالعنف بين المجموعات من الحضارات المختلفة هي الأكثر احتمالاً والأكثر خطورة كمصدر للتصعيد الذي قد يؤدي إلى حروب عالمية؛ أن المحور الرئيسي للسياسة الدولية سوف يكون العلاقات بين «الغرب والآخرين»vs. the Rest ؛The west أن النخب في بعض البلدان غير الغربية الممزقة سوف تحاول أن تحول بلدانها جزءاً من الغرب، إلا أنها في معظم الأحيان سوف تواجه عراقيل رئيسية لتحقيق ذلك؛ أن البؤرة المركزية للصراع في المستقبل القريب ستكون بين الغرب وعدة دول إسلامية ـ كونفوشية.
أن هذا لا يعني الدفاع عن الرغبة بالصراع بين الحضارات، إنما هو فرضيات وصفية لما قد يكون عليه المستقبل. فإذا كانت هذه الفرضيات مقبولة ومعقولة فمن الضروري التمعن في مضامينها العملية للسياسة الغربية. وهذه المضامين يجب تقسيمها إلى مزايا على المدى القصير وتكيف على المدى البعيد. فعلى المدى القصير من الوضاح أنه من مصلحة الغرب تشجيع تعاون وتوحد أكثر ضمن حضارته، خاصة بين جزئياتها الأوروبي والأميركي الشمالي؛ وإشراك المجتمعات الأوروبية الشرقية والأميركية اللاتينية ضمن الغرب لقرب ثقافتها من الثقافة الغربية؛ وتشجيع وصيانة علاقات التعاون مع روسيا واليابان؛ ومنع تصعيد الصراعات المحلية ضمن الحضارة إلى صراعات رئيسية بين الحضارات؛ والحد من توسع القوة العسكرية للدول الكونفوشية ـ الإسلامية؛ وتبطئة عملية تقليص القدرات العسكرية الغربية والحفاظ على التفوق العسكري في شرق وجنوب غرب آسيا [أي الشرق والأوسط… المترجم]؛ واستغلال الخلافات والصراعات بين الدول الإسلامية ـ الكونفوشية؛ ودعم المجموعات ضمن الحضارات الأخرى التي تتعاطف مع قيم الغرب ومصالحه؛ وتقوية المؤسسات الدولية التي تعكس وتضفي الشرعية على مصالح الغرب وقيمة وتشجيع انضمام واشتراك الدول غير الغربية في هذه المؤسسات.
أما على المدى البعيد فهناك إجراءات أخرى يجب اتخاذها. أن الحضارة الغربية هي غربية وحديثة. أما الحضارات غير الغربية فقد حاولت أن تصبح حديثة دون أن تتغرب. وإلى يومنا هذا نجحت اليابان فقط في تحقيق هذا الهدف. وستحاول الحضارات غير الغربية باستمرار الحصول على الثروة التقنية والمهارات والآلات والأسلحة الضرورية للتحديث. كما أنها ستحاول أن توفق بين هذا التحديث وقيمها وثقافاتها التقليدية. وستزداد قوتها الاقتصادية والعسكرية مقارنة بالغرب، ولذلك سيجد الغرب نفسه مضطراً بشكل متزايد ليتكيف مع هذه الحضارات العصرية وغير الغربية التي تكاد تجاريه في القوة إلا أن قيمها ومصالحها تختلف بشكل كبير عن تلك التي للغرب. أن هذا سيتطلب أن يحافظ الغرب على القوة العسكرية والاقتصادية الضرورية لحماية مصالحه فيما يتعلق منها بهذه الحضارات. كما أنه سيتطلب من ذلك أن يطور الغرب تفهماً أكثر عمقاً للمرتكزات الدينية والفلسفية الأساسية للحضارات الأخرى، وللطرق التي يرى فيها أبناء تلك الحضارات مصالحهم. أن هذا سيتطلب جهوداً لتشخيص وتحديد العناصر المشتركة بين الغرب والحضارات الأخرى. سوف لن يكون هناك في المستقبل المنظور حضارة عالمية، ولكن بدلاً من ذلك عالم متعدد الحضارات، كل واحدة منها عليها أن تتعلم كيف تتعايش مع الأخريات c
1994-02-01