العدد 81 -

السنة السابعة رجب 1414هـ,كانون الثاني 1994م

الخطر الأميركي في الصومال

حين أرسل الرئيس الأميركي السابق جورج بوش قواته إلى الصومال أطلق على عملية الغزو اسم «إعادة الأمل»، وحاول تصويرها بأنها عملية إنسانية محضة لا تستهدف سوى تمكين جياع ذلك البلد من الحصول على المعونات الأجنبية التي كانت ترسل إليهم وتستولي عليها الميليشيات المحلية المتنازعة وتتاجر بها.

وكما هي عادة أميركا بجعل الأمم المتحدة تتبنى تصوراتها وتنفذ قراراتها (كما حدث في حرب الخليج الأخيرة) وتحمي مصالح واشنطن وتبرر أطماعها تحت غطاء «الشرعية الدولية»، سرعان ما أصدر مجلس الأمن القرارات اللازمة لتغطية السيطرة الأميركية على الصومال من خلال تشكيل حملة عسكرية متعددة الجنسيات.

ومن المؤسف أن الدول القائمة في العالم الإسلامي بدلاً من أن تتنادى للتصدي للغزو الأميركي لبلد إسلامي، كانت أولى الدول التي تطوعت للمساهمة في عملية تمويه الغزو الأميركي ومؤازرته عسكرياً بإرسال قواتها للمشاركة في حملة الأمم المتحدة.

وفي البداية كان لابد من إظهار أن الهدف الأميركي المعلن حقيقي. ولذلك قامت القوات الأميركية ومعها قوات الأمم المتحدة بإيصال بعض المعونات للجياع. وجرت تغطية هذه المناورة بشكل إعلامي مضخم، شاركت فيه الصحف الغربية وغير الغربية ووكالات الأنباء العالمية، وشبكات التلفزيون، لدرجة حملت بعض المسلمين العاديين على التعبير عن ارتياحهم لما آلت إليه الأمور في الصومال، غافلين عن الهدف الحقيقي للغزو نتيجة لانخداعهم بهذه الحملة الإعلامية الدولية.

غير أن هذا التمويه لم يطل، إذ سرعان ما تظاهرت أميركا بتسليم زمام الأمور للأمم المتحدة، وبدأت بسحب بعض قواتها من الصومال متظاهرة بأنها إنما كانت تسعى لهدف إنساني، وبأن الأمم المتحدة هي التي ستتولى تحقيق هذا الهدف. ولوحظ أن القوات الأميركية وبعدها قوات الأمم المتحدة لم تمل حين غزت الصومال على تجريد الميليشيات المحلية من أسلحتها، مع أن القاصي والداني يعلم أن هذه الميليشيات والأسلحة التي كانت بين يديها هي سبب الفوضى والاضطراب، وهي التي كانت تحول دون وصول المعونات الإنسانية الأجنبية لمستحقيها.

وما أن بدأ الانسحاب الأميركي العسكري الظاهر من الصومال حتى أوعزت واشنطن لقادة هذه الميليشيات ومعظمهم من عملائها بمناوشة قوات الأمم المتحدة. وسلطت الأضواء على عيديد باعتباره سبب الاضطراب الرئيسي. وتصاعدت الاشتباكات بين قوات الأمم المتحدة من جهة وقوات عيديد من جهة أخرى. ووقعت مجازر، وتدهور الموقف العسكري لقوات الأمم المتحدة، مما جعلها تلح على واشنطن لإعادة قواتها للصومال بل وتعزيزها في ضوء الظروف المستجدة. وبعودة القوات الأميركية صعدت الصدام مع قوات عيديد ومع المدنيين العزل الذين أخذوا ينظرون للعملية الأميركية ولعملية الأمم المتحدة في الصومال نظرة مختلفة عن السابق، حيث أدركوا أن هذه القوات لا يهمها إطلاق الصواريخ على جموع الصوماليين العزل لا يمكن أن تكون قد جاءت لإطعام جياعهم.

وأعلنت الأمم المتحدة عن جائزة لمن يعطي معلومات تؤدي إلى إلقاء القبض على عيديد، الذي اعتبر مجرماً دولياً فاراً من وجه العدالة، الأمر الذي عزز موقف عيديد بين أوساط شعبه، وجعله رمز للكفاح ضد الغزاة.

ومع أن عيديد دأب على استقبال مراسلي الصحف الغربية ووكالات الأنباء المختلفة وشبكات التلفزيون العالمية، إلا أن مقره ظل سراً، الأمر الذي يدعو للاستغراب والتساؤل والدهشة، وخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن معظم مراسلي الصحف ووكالات الأبناء وشبكات التلفزيون من رجال المخابرات الغربية.

ومع وقوع خسائر بشرية بين صفوف القوات الأميركية الغازية في عملياتها ضد قوات عيديد، وما ترتب على ذلك من ردود فعل داخل أميركا وخاصة في الكونغرس، ومع ملاحظة شركاء أميركا الغربيين أن ما تقوم به في الصومال بعيد كل البعد عن الأهداف المعلنة للحملة الدولية، نشأ تطوران: أولهما أن بعض هذه الدول كإيطاليا وفرنسا انتقدت أميركا علناً، وأخذت تهدد بسحب قواتها من الصومال؛ والثاني أن الولايات المتحدة تظاهرت بأنها مضطرة للتراجع عن قرارها بملاحقة عيديد، وأنها ستسعى فقط لبناء المؤسسات الرئيسية للدولة في الصومال حتى يتولى الصوماليون بأنفسهم مهمة حفظ الأمن والنظام والاستقرار في بلادهم، كما حددت موعداً نهائياً لسحب قواتها من الصومال هو 31/03/1994.

وجاء رد عيديد سريعاً، فأعلن أن قواته مستعدة لوقف إطلاق النار ضد القوات الأميركية وقوات الأمم المتحد، وأنه يقبل بالمهمة الإنسانية لهذه القوات، كما رحب بالتصريحات الأميركية الخاصة بالمصالحة الوطنية بين الفصائل الصومالية المتنازعة.

وقامت واشنطن بإيفاد أوكلي للاجتماع بقادة هذه الفصائل والبحث معهم في موضوع المصالحة الوطنية وبناء السلطة الصومالية. ومن أجل هذه الغاية اجتمع سراً بعيديد… كما أوعزت أميركا للأمم المتحدة بالتحرك في هذا الاتجاه، فكانت رحلة بطرس غالي للصومال، ودعوته لمنظمة الوحدة الأفريقية للتدخل وبذل جهودها في المصالحة.

ولكن هل صحيح أن أميركا جاءت للصومال من أجل أهداف إنسانية كما ادعت ولا تزال تدعي؟ وهل صحيح أنها عازمة على إنشاء سلطة وطنية صومالية تتولى إدارة أمور الصومال بحيث تنتفي الحاجة لوجود القوات الأجنبية في تلك البلاد، وبالتالي تنسحب منها أميركا كما أعلنت، بنهاية آذار المقبل؟

للإجابة على هذين السؤالين لابد من بيان الهدف الحقيقي لواشنطن في الصومال. إذ المعروف أن الصومال منذ استقلالها الشكلي وهي تحت الهيمنة الأميركية، حتى عندما قطع زياد بري صلاته ظاهرياً مع واشنطن، ووثق علاقاته مع موسكو، التي اعتادت في عهد الوفاق التغطية على عملاء أميركا وخاصة في أفريقيا، كما فعل مع نظام أنغولا، والنظام الأثيوبي في عهد هايلي مريام. وحين انهار حكم زياد بري وسيطر مهدي محمد قبل أن تندلع المعارك بينه وبين قوات عيديد ظلت الصومال تحت الهيمنة الأميركية. واتخذت المجاعات التي اكتوى بنارها الشعب الصومالي مبرراً للتدخل الأميركي السافر الذي تمثل في عملية «إعادة الأمل». فما هو الهدف الحقيقي إذن لتلك العملية؟ إنه مرتبط بعودة أميركا لسياسية القواعد العسكرية الأجنبية التي كانت تعتمدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي فقدت مبررها الأساسي خلال حقبة الوفاق، والتي عادت أهميتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال الخطر الشيوعي، وحلول أخطار جديدة تتصورها أميركا على مصالحها الخارجية الحيوية. وابرز هذه المصالح نفط منطقة الخليج الذي دبرت له خطة جهنمية انتهت بالسيطرة عليه. وصار لابد لواشنطن من قواعد عسكرية سواء في منطقة الخليج أو حولها لضمان استمرار هذه السيطرة. ومن هنا تأتي أهمية القرن الأفريقي والصومال بوجه خاص. وهذا يعني أن أميركا عازمة على الاحتفاظ بقاعدة عسكرية لها في الصومال. فأميركا متخوّفة من الصحوة الإسلامية التي تجتاح العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وبالتالي فهي تخشى أن تعود الأمة الإسلامية واحدة فعلاً من جديد، الأمر الذي لن يقضي على مصالحها الحيوية في المنطقة وحسب، بل وسيؤدي إلى تهديد دورها العالمي ونفوذها في مختلف القارات. وهذا ما يفسر احتفاظها بقاعدة عسكرية ضخمة في دييغو غارسيا، وبوجود عسكري دائم في الخليج، وما تقوم به حالياً في الصومال، وما تسعى له في الجولات من خلال مفاوضات ما يسمى بالسلام مع العرب.

ولذلك لابد من تفويت الفرصة على أميركا في الصومال حالياً وفي غيرها فيما بعد، لأن هذه القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة الإسلامية تستهدف الحيلولة دون نهضة المسلمين وبناء حياتهم على أساس الإسلام وحمل رسالتهم للعالم، خاصة بعد أن أصبح الإسلام وبناء الدولة الإسلامية هدف الجماهير الإسلامية في مختلف أقطار العالم الإسلامي.

أما كيف يتم تفويت الفرصة على أميركا فهي عملية تبدأ أولاً باعتبار الإسلام دعوة بناء الحياة على أساس قضية مصيرية عند المسلمين تستحق من كل مسلم أن يقدم حياته ثمناً لها.

فإذا وجد هذا الاستعداد، واشتعلت جذوة الإيمان في النفوس، لا يلبث هذا الإيمان أن يفتح عيون المسلمين على المخلصين الواعين ليقودوهم نحو التغيير الحاسم وبغير ذلك، فإن المآسي التي شهدتها الأمة من قبل والتي تشهدها الآن ليست سوى جزء يسير مما ستشهده في المستقبل، ونسأل الله العافية

م. نافع

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *