العدد 358 -

السنة الواحدة و الثلاثين العدد 358 ذو القعده 1437هـ ، آب 2016م

الفـــكـر أســـاس النــهضــة

بسم الله الرحمن الرحيم

الفـــكـر أســـاس النــهضــة

محسن محمد صالح الجعدبي
اليمن – صنعاء

النهضة لغةً: نهض ينهض نهضًا ونهوضًا: أي قام من مكانه. وفي لسان العرب: هي النهوض والبراح عن الموضع والقيام عنه. وفي المنجد في اللغة: نهض أي قام. والنهضة التجدد والانبعاث بعد تأخر وركود، وناهض مناهضة: أي قاوم. وفي الاصطلاح: هي الرقي الفكري الذي يشمل كافة المجالات. ومن خلال المعنى اللغوي تتضح حركة النهوض وفعليتها في الأشياء، سواء على الصعيد الفكري والنفسي أم المادي. وفي كلا المعنيين هناك انتقال من حال إلى حال، وتغير في الهيئة والموضع، وتحرك للحواس في المرء واستحضار طاقته وقواته.
زعم بعض الناس أن السبب في الانحطاط والتخلف اللذين نعانيهما، إنما يرجع إلى التأخر الاقتصادي وما يدخل فيه من نقص للثروة، وتدنٍّ لمعدل الدخل القومي (الأهلي) والفردي، ونقص الموارد الاقتصادية، وعدم توفر المنتجات الصناعية… إلخ، وقالوا إن الأساس اللازم للنهوض هو العمل على إيجاد التقدم الاقتصادي، ولبيان خطأ هذه الفكرة نقول:
أ- إن أميركا الدولة الأولى في العالم، لم تنهض على أساس الاقتصاد أو ما شابهه؛ وذلك أنها كانت، إلى يوم تحررها ونهوضها، مجرد مستعمرة للإنجليز، تستغل بريطانيا كل خيراتها ومقدراتها، وظلت كذلك حتى تحررت. وبعد نهوضها بسنوات عديدة، بدأ يظهر عليها التقدم الاقتصادي والصناعي والعسكري… إلخ، فكيف نهضت واقتصادها ضعيف؟؟.

ب- إن روسيا القيصرية كانت من أضعف الدول اقتصادًا.. وظلت كذلك حتى تغيير النظام القيصري الذي كان مهيمنًا عليها، وبعد سنوات طويلة من مجيء النظام الجديد بدأ يظهر عليها التقدم الاقتصادي، فكيف نهضت وهي متأخرة اقتصاديًا؟؟.
ج- إذا كان الغنى والفقر ومعدل الدخل القومي والفردي هي مقياس التقدم الاقتصادي، أليس من المفروض أن تكون الدول العربية كدول الخليج ونيجيريا كذلك متقدمة أكثر من بعض الدول الناهضة؟ فلماذا كانت الدول الأوروبية ناهضة، وكانت الدويلات العربية غير ناهضة؟.
د- مما سبق من أمثلة توضح فساد فكرة أن الاقتصاد يصلح أساسًا للنهوض، وعلى هذا فالصواب هو أن يُدرك أن التقدم الاقتصادي إنما هو أثر من آثار النهوض وثمرة من ثماره، وليس سببًا أو أساسًا للنهوض، ولا بد للتقدم الاقتصادي أن يكون نتاجًا عن النهضة، وإلا كان ثوبًا مستعارًا يخفي تحته الفقر والجوع والعري، وهو لا يدل على التقدم إلا إذا كانت له جذور راسخة، وإلا كان كالقروية التي ألبسوها لباس متمدنة، فبدت في الظاهر حضرية، ولكن قرويتها تظهر عند أول تصرف لها، ويتمزق القناع الزائف. وكذلك التقدم الاقتصادي، فماذا يحصل لو أن الدول العظمى قررت ضرب أسعار النفط العربي، أو استطاعت بشكل أو بآخر أن تمتنع عن شرائه؟ الذي يحصل هو اختفاء مظاهر التقدم الاقتصادي، لأنها لم تكن قائمة على أساس متين.
النهوض بالتعليم والعلوم:
وأصحاب هذه الفكرة عزوا تخلفنا الواضح إلى انتشار الأمية وقلة المتعلمين ونقص الجامعيين، وعدم ذيوع العلوم وانتشارها، ومن هنا أكثروا من ترديد عبارات مثل (العلم أساس النهضة) و (العلوم سبب نهضة الغرب)… إلخ، والحقيقة أن هذا الرأي فاسد، ولبيان فساده نقول:

أ- لو قارنا نسبة المتعلمين عندنا بنسبتهم عند كثير من الدول المتقدمة، لوجدنا أن نسبتها عندنا ولا سيما في لبنان وفلسطين والأردن والكويت أعلى من مثلها في دول أوروبا الناهضة.
ب- هل كان الشعب العربي الذي قاد الأمة الإسلامية إلى قمم التقدم العلمي متعلمًا؟ أم أن التقدم العلمي حصل بعد نهوض الأمة؟ وهل كان هناك تقدم علمي في أميركا وروسيا قبل نهوضها؟ أم أن نهوض هذه الدول هو الذي صنع التقدم العلمي؟ الجواب واضح.. فليس كل أمة يكثر فيها المتعلمون أمة ناهضة ولا العكس صحيح، وإلا لكان الكثير من دولنا ناهضة، والكثير من الدول الناهضة متخلفة. من هنا نتبين أن النهضة سبب للتقدم العلمي والتعليمي وليس العكس.
النهوض بالأخلاق:
وأصحاب هذه الفكرة يزعمون أن نهوض الأمة يكون بارتقاء أخلاق أفرادها، وأن انحطاطها يكون بانحطاط تلك الأخلاق، ويؤيدون أقوالهم بأبيات من الشعر كقول أحمد شوقي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وكذلك يؤيدون قولهم بنصوص شرعية من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) أو السنة المطهرة كقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
ولبيان فساد رأيهم نقول:
أ- إن البحث قائم على كيفية إنهاض الأمة والمجتمع، وليس إنهاض الأفراد، ومن هنا يجب فهم واقع المجتمع، والعمل على تغييره، ولو فرضنا أن الأخلاق تغير الأفراد ـ وهذا ليس صحيحًا ـ فإن تغير أخلاق الأفراد لا يؤدي إلى تغيير المجتمع؛ لأن المجتمع ليس مكونًا من أفراد وحسب، بل هو مكون من أفراد وعلاقات بين الأفراد، ونظام يرعى تلك العلاقات فيسمح بوجود نوع منها، ويمنع وجود أنواع أخرى، ومن هنا كان لا بد لحصول النهضة والتغيير من أن ينصبَّ البحث على كيفية تغيير المجتمع بأكمله، لا الأفراد. ولا يجوز أن ينصبَّ البحث على الأفراد فقط.
ب- إن الذي يدفع الفرد إلى قبول خلق ما والتمسك به ليس هو الخلق نفسه، بل عوامل خارجة عنه، فمثلًا قد يتمسك الإنسان بالصدق لأنه يرى فيه منفعة له، أو لأن أباه علمه ذلك، أو لأن الناس تحترم الصادق، أو لأن الدين يأمر بذلك… إلخ. ومن هنا كان لا بد إذا أردنا أن يتخلق الناس بخلق معين من أن يحدد للإنسان كافة تصرفاته ومنها الأخلاق.
ج- وليس أدل على عدم أهمية الأخلاق في حد ذاتها قياسًا إلى غيرها، من أن القرآن الكريم لم يتحدث عن الأخلاق بهذا اللفظ سوى في آية ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثم إن فقهاء المسلمين جعلوا بابًا لكل شيء من الأحكام، ولم يجعلوا بابًا مستقلًا في كتبهم للأخلاق، فالأخلاق ثمرة وليست أساسًا.

د- لو قارنا بين الأمم الناهضة، وما لديها من أخلاق من ناحية، وبين الأمم المتخلفة وما لديها من أخلاق من ناحية أخرى، لوجدنا أن الأمم المتخلفة ولا سيما المسلمون هم أكثر الناس أخلاقًا ومع ذلك فهم متأخرون.
ه- ماذا أجدت ملايين الكتب والنشرات والمحاضرات والندوات التي تحدثت عن الأخلاق طوال السنين الماضية؟ هل غيرت شيئًا من واقعنا؟!.
مما سبق نتبين بوضوح، فساد الدعوة إلى الأخلاق كأساس للنهضة، ولكن لا بد من لفت الانتباه إلى أنه ليس معنى قولنا إن الأخلاق لا تصلح كأساس للنهوض أننا نرفض الأخلاق، بل معناه أنها ليست أساسًا، وإن كان لا بد للإنسان من الأخلاق الحميدة، فوجود السلوك الراقي الجماعي الموحد المبني على فكر هو من أسس النهضة.
النهوض بالقوة والسلاح:

ورأى بعض المتعلمين من الناس أن سبب تخلفنا هو عدم امتلاكنا القدرة العسكرية والسلاح القوي… ورأوا بالتالي أن نهوضنا لا يتم إلا إذا توفر لنا السلاح والقوة…الخ.
والحق أن هذه الفكرة هي من أوضح الآراء فسادًا؛ وذلك لسبب واضح ،ألا وهو أننا في الواقع لا نفتقر السلاح، بل إن الأسلحة المكدسة في مخازن العديد من الدويلات العربية تفوق الكميات المتوفرة لدى الكثير من الدول الناهضة، إلا أن سلاحنا لا يظهر عند هجوم (إسرائيل) وأمثالها، وإنما يظهر في الحروب مع الأشقاء والأعياد الوطنية وشرطة مكافحة الشعب (الشغب) وما يسمى الوحدات الخاصة؛ ولهذا فإن السلاح بيد الدول غير الناهضة، إنما هو كالسلاح بيد الطفل أو المجنون لا يوجه إلى حيث ينبغي أن يوجه، وإنما يستعمل في غير مكانه الطبيعي.
– هذه أمثلة على الحلول والأفكار التي طرحت وتطرح ــ كأساس للنهضة، وكل الطروحات من تلك النوعية، إنما يظهر فسادها بنفس الطريقة، ويتحقق إخفاقها، ولكن الذي يجب أن لا يغيب عن البال هو أنه ليس معنى قولنا بفساد تلك الحلول كأساس للنهوض رفضًا لها، بل معناه رفضها كأساس، فإن الاخلاق والاقتصاد والتعليم والأسلحة وغير ذلك هي من الضروريات للأمة، ولا بد من توفرها والعمل لإيجادها، ولكن بعد الحصول على النهضة لا قبل ذلك.

– وقبل الدخول إلى الحل الصحيح والفكرة الصائبة اللازمة للوصول إلى النهضة، والتي تشكل الأساس لها، لا بد من أن نلخص أهم الأسباب التي أدت إلى الخلل في الأفكار المطروحة، وهي ما يلي:
إن المفكرين أصحاب الحلول المطروحة، لم يدققوا البحث في السبب الذي أدى إلى انتكاسة الأمة، بل اكتفوا بالنظرة السطحية، ومن هنا وضعوا معالجات تتعلق بالمظهر لا بالجوهر، وبالقشور لا باللب، وبالتالي وضعوا العلاج الذي قد يصلح لمعالجة آثار المرض لا لمعالجة جرثومة المرض، وكان الأجدى أن يتعمقوا في البحث ويدققوا النظر ليصلوا إلى المطلوب.
وقبل البحث في كيفية النهضة، لا بد من معرفة واقع الإنسان وعلاقته بغيره، والعوامل المؤثرة فيه من نظام ومشاعر وأفكار. فمتى ما كانت المشاعر والأنظمة والأفكار عند الناس منسجمه مع النظام المطبق عليها يتكون مجتمع راقٍ منسجم قابل للنهوض. فالمجتمع ليس مجموعة من الناس فقط بل يلزم أن تربطهم علاقات دائمة وهذه العلاقات هي: الأفكار والمشاعر والنظام الذي يطبق عليهم وإلا لكان مجموعة من الناس لا مجتمعًا. ولا يؤثر في المجتمع دين من يخالف الدين الذي يتبناه المجتمع والنظام طالما كان يتعامل بنظام المجتمع؛ ولذلك لا توجد في المجتمع الراقي أقليات أو مهمشين، ولو برزت بعض الشواذ.

من هنا كان لا بد من وجود مبدأ يغير سلوك الإنسان وتفكيره حتى ينهض؛ لأن سلوك الإنسان هو الدليل على رقيه أو انحطاطه. أما شكله الخارجي وملامحه وزيه فلا قيمة لها عند تقييمه بالارتقاء أو الانخفاض. وعند إرادتنا تغيير سلوك الإنسان فإنه لا بد لنا من تغيير مفاهيمه، لأن الذي يحدد للإنسان سلوكه تجاه الأشخاص والأشياء إنما هو مفاهيمه عنها، والمقصود بالمفاهيم هو (الأفكار التي طابقت الواقع عند الإنسان) لإشباع طاقاته الحيوية من حاجاته العضوية كالطعام والشراب، أو مظاهر الغرائز كحب التملك والميل الجنسي… ويستوي الإنسان والحيوان في هذه القضية؛ فكلاهما يسعى من أجل إشباع طاقاته الحيوية، إلا أن إشباع الحيوان ، عند إرادته إشباع حاجاته العضوية كالطعام مثلًا، فإنه يندفع لإشباع تلك الحاجات بأي كيفية كانت؛ ذلك أن ما يهم الحيوان هو الإشباع فقط، فالحمار مثلًا عندما يحس بالجوع فإنه لا يتردد في التهام أول شيء صالح للأكل يصادفه ما دام يمكنه من سد جوعته، فقد يأكل أوراقًا قذرة، أو أعشابًا نتنة، أو نفايات عفنة… إلخ، وعندما يثور ميله الجنسي فإنه لا يتردد في النزو على أول بهيمة يصادفها دون أي اعتبار ظروف أو شروط، فالمهم عنده إشباع رغبته، ولا يبالي كيفية ذلك الإشباع أو ما هي نتائجه، وهذا بخلاف الإنسان العاقل، فإنه لا يرضى أن يشبع حاجاته العضوية أو غرائزه، إلا بناءً على نظام محدد وبكيفية معينة، فإذا جاع لم يأكل أي شيء يصادفه، بل يبحث عن طعام معين يحبه ويتمكن من الحصول عليه بالطريقة المتفق عليها، ويحاول أن يهيئ الجو المناسب لإشباع تلك الحاجة، وكذلك عندما يثور لديه الميل الجنسي، فإنه يشبعه بالزواج إن لم يكن متزوجًا، أو بزوجته إن كان متزوجًا، وحتى لو قام بالإشباع مع غير زوجته فإنه لا يفعل ذلك إلا ضمن كيفيات معينة، وكلما ارتقى الإنسان كلما ارتقت كيفية إشباعه لحاجاته العضوية وغرائزه، وكلما انحط كلما اقترب في كيفية إشباعها من الحيوان، وأصبح أقرب إلى البهائمية منه إلى الإنسانية وهكذا.

والسبب الذي أدى إلى اختلاف كيفية الإشباع عند الإنسان عن الحيوان هو أن الإنسان يملك دماغًا صالحًا للربط والتفكير والحكم على الأشياء بخلاف الحيوان الذي لا يفكر؛ لأن دماغه غير صالح للربط، إنما يتصرف بناءً على الغريزة (التفكير الغرائزي).
– ومن هنا كان الفكر هو الذي يحدد للإنسان سلوكه أثناء سعيه من أجل إشباع طاقاته الحيوية، ومن هنا فإنه إذا سلك الإنسان سلوكًا خاطئًا فإننا نستنتج أن هناك فكرة في دماغ هذ الإنسان هي التي دفعته إلى هذا السلوك الخاطئ، ولتوضيح ذلك يمكن أن نشبه الإنسان بالسيارة، فالسيارة حتى تسير لا بد لها من محرك، ولا بد للمحرك حتى يعمل من وقود، وكذلك فإن الإنسان لا بد له من عقل يحدد كيفية السلوك، ولا بد للعقل حتى يعمل من فكر يكون له بمثابة الوقود لمحرك السيارة.

وعلى هذا فعند إرادتنا تغيير سلوك إنسان ما من سلوك منحط إلى سلوك راق، فإن الواجب في هذه الحال هو أن نفهم الفكرة الكامنة وراء ذلك السلوك، فمثلًا: إذا أردنا من إنسان أن يترك عادة شرب الخمر فإننا نبحث عن الدافع الفكري وراء سلوكه، فمثلًا : قد تكون الفكرة هي ظنهُ أن الخمر دليل الرجولة أو دليل التقدم، ففي مثل هذا الحال لا بد لنا من إقناعه بفساد تلك الأفكار… فإذا نجحنا في ذلك نكون قد نجحنا في تغيير تلك الجزئية إلا إذا كان إدمانًا فيلزم معالجته صحيًا وفكريًا. وإذا أردنا ان نغير سلوك الإنسان لا بد أن يبنى على فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، أي ما يعرف بالمبدأ.

وإذا بحثنا المبادئ الموجودة على وجه الأرض والتي ينهض على أساسها الإنسان نجد أن هناك ثلاثة مبادئ وهي قواعد كلية ينبثق عنها النظام وتسمى (عقائد) سواء وافقت دينهم أم لا.
ولذلك يقال المبدأ: هو العقيدة العقلية التي ينبثق عنها نظام. وهي حل للعقدة الكبرى عند الإنسان التي هي: ما دوره في الحياة، وما علاقته بما قبله وما بعدها.
ولذلك نقول:
ينهض الإنسان بما عنده من فكر عن الكون والإنسان والحياة، وعلاقتها بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها، سواء أحُلت هذه العقدة حلًا صحيحًا أم خطأ. فمثلًا الرأسمالية حلت هذه العقدة بقولهم ليس موضوعنا من أين أتينا وإلى أين نذهب بعد الموت، المهم أن نتفق على نظام ننظم به حياتنا. ومن أراد الدين فليذهب إلى الكنيسة أو المعبد ولكن لا يشركه في الحياة. إلا أنه في حربه ضد الإسلام يرجع لرابطة الدين فيقول: حرب صليبية، وحرب مقدسة وحتى بينهم وبين الدول التي يريدون استعمارها ونهب ثرواتها كما فعلت أميركا في العراق وفيتنام.
أما الشيوعية ومنها الاشتراكية، فيقولون إن الطبيعة هي التي أوجدت الإنسان، وليس لها علاقة بتنظيم شؤون حياته، وسيذهب من الحياة كما أتى منها. وعلى هذا أُسِّس نظام الاشتراكية حسب قناعته. ولكنها لم توافق عقل الإنسان وفطرته وكبتت غرائزه؛ ولذلك كانت أقصر حضارة في التاريخ عمرها 70 عامًا.

أما الإسلام، فهو ينظر إلى الإنسان بأنه مخلوق خلقه الله تعالى، ويجب أن يسير حياته حسب أوامره ونواهيه في تنظيم شؤونه في الحياة. وهو محاسب على أعماله في الآخرة، قال تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وقال سبحانه: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فنقول إن هذه المبادئ أنهضت الإنسان في الحياة بغض النظر عن صحتها أو بطلانها.
أما المسيحية واليهودية فليست عقيدة ينبثق عنها نظام باستثناء بعض الوصايا في التعامل وبعض المحرمات، وكذلك الوثنيين وغيرهم.

والتساؤلات التي تواجه الإنسان وتحتاج إلى اجابات محددة نوعان: الأول متعلق بالتساؤلات الكبرى أو المصيرية، وبحلها يحس الإنسان بالطمأنينة والارتياح. والثاني متعلق بالتساؤلات الثانوية المتعلقة بحل مشاكل إشباع الحاجات والغرائز، ويمكن تشبيه تساؤلات الإنسان ومشاكله بحبل يحتوي على العديد من العقد، إحدى تلك العقد كبيرة وصعبة الحل، وسائر العقد صغيرة وثانوية، إلا أنه لا يمكن حلها الحل الصحيح إلا بعد حل العقدة الكبرى، إذًا فالعقدة الكبرى هي تساؤلات الإنسان المحيرة عن حقيقة هذه الحياة، وما قبلها وما بعدها، فإذا حُلَّت بالإجابة عن التساؤلات المتعلقة بها صار من السهل أن تُحل سائر التساؤلات أو المشاكل الأخرى، وإلا أدى عدم حلها إلى تخبط الإنسان في حله للمشاكل الأخرى، نتيجة لعدم حل العقدة الكبرى الحل الصحيح الذي يؤدي إلى اطمئنان الإنسان لمصيره، ويمكن تشبيه واقع الإنسان وتساؤلاته المحيرة (عقدته الكبرى) بإنسان يدخل قصرًا فخمًا لأول مرة، بعد أن أمضى حياته في كهف؛ حيث يقف هذا الإنسان حائرًا لا يدري كيف يتصرف خوفًا من نتائج ذلك التصرف، أو خوفًا من عقوبة صاحب القصر له إذا أساء التصرف، فيظل حائرًا يتساءل عن السلوك المناسب ضمانًا لسلامته وعدم الوقوع في المحظور، ولا يطمئن هذا الإنسان إلا بعد أن يعرف ما يجب عليه فعله؛ وذلك من خلال معرفته بصاحب القصر وتعليماته وأوامره ونواهيه.
هذا هو واقع القعدة الكبرى، والذى كان لا بد للأساس الفكري من أن يكون فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبلها وعما بعدها، أي لا بد أن يكون «عقيدة عقلية»؛ إذ إن هذا هو تعريف العقيدة العقلية ـ وبها يستطيع الإجابة عن كافة التساؤلات، فإن توفرت هذه المواصفات، أي القدرة على الإجابة الشاملة الواضحة عن تلك التساؤلات، كان الأساس فكريًا، وكانت العقيدة عقلية. وإذا لم يكن أساسها فكريًا أو عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام لم يصلح أساسًا للتغيير ومن ثم النهضة.
إلا أنه ليس معنى أن الفكرة الكلية حلت العقدة الكبرة حلًا صحيحًا، بل إن هذا يعني أنها تشكل أساسًا فقط، بغض النظر عن كونه صحيحًا، أي مؤديًا إلى النهضة الصحيحة، أما ما يجعل الأساس صحيحًا كفيلًا بإيصالنا إلى النهضة الصحيحة، هو أن يقنع العقل ويوافق الفطرة ويملًا القلب طمأنينة.

إن ما يجعل الأساس أساسًا فكريًا أو عقيدة عقلية، إنما هو كونه فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، وتستطيع أن تجيب عن كافة تساؤلات الإنسان وحل جميع مشاكله وليس بعضها، وذلك أنه من الممكن للفكرة أن تحل مشكلة وتكون فكرة فرعية، أو تحل بعض المشاكل فقط، ولا تستطيع حل كل المشاكل.
كل ما ذكرناه عن النهضة الفكرية التي لا ينهض الإنسان إلا على أساسها، يُلزم بالسير في الفروع مثل العلوم والصناعة وغيرها. فالنهضة العلمية والصناعية والزراعية والعسكرية وغيرها مرتبطة بوجود النهضة الفكرية التي يكون على أساسها استقلال البلاد ورعاية شؤونها بقيادة واعية مخلصة، ورقابة من الأمة والقضاء. فمتى ما احتاجت الدولة أو الشعب أو الجيش إلى أدوات مادية صار دور الدولة توجيه العباقرة والمخترعين إلى إيجاد الحلول للمتطلبات، ومن ثم تحريك المصانع لإنتاج ما يلزم.
فعلى سبيل المثال:

عندما احتاجت بريطانيا لشيء ينبِّهها بقدوم طائرات العدو في الحرب العالمية، وجهت خبراءها فصنعوا الرادار. وعندما احتاجت الدولة العثمانية تحطيم أسوار القسطنطينية احتاجت إلى المدفع العملاق، فقامت بتهريب الخبير في هذا المجال وهو نصراني مسجون في سجون القسطنطينية ودعموه فصنع لها المدفع العملاق… وهكذا يمكن استيراد الخبراء وتعليم أبناء البلد. وعند وقوع وباء في البلد توجه الدولة الأطباء والصيادلة لاختراع مصل مضاد. وعندما تمسكت روسيا بالمبدأ الشيوعي وهي فقيرة أرادت الزراعة ولكنها رفضت شراء المحراث لكي تصنعه؛ فتطورت على أساس الفكر لا الزراعة. وعندما نبحث في التاريخ نجد أن الدولة العباسية أرسلت لأحد ملوك أوروبا ساعة يخرج منها أحصنة صغيرة في كل وقت محدد، فظن الأوروبيون أن فيها جان. ولكن عندما تخلفنا وأرسلت أوروبا مذياعًا فتحه المسلمون وسمعوا الأصوات تخرج منه قالوا إن فيها جانًّا.
أما الطب والصناعة وغيرها في عهد الدولة العباسية والعثمانية؛ فقد فاقت العالم وبهرته، وكانت الأندلس منارة العالم، ومن يريد مزيدًا من المعلومات يمكنه الرجوع إلى كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) والذي كان اسمه (شمس الله تسطع على الغرب) للكاتبة المستشرقة (زكريد هونكه) وكانت أوروبا ترسل أبناءها لأخذ العلم، وليس أخذ الحضارة الفكرية. أما ما هو حاصل اليوم، فإننا نذهب لنأخذ الحضارة الفكرية منهم ونطبقها، ونأخذ العلم ولا نطبقه كما يجب برعاية الدولة.
الخلاصة:

لا تنهض الدولة إلا إذا تبنت المبدأ الذي توعي به المجتمع ويظهر ذلك في:
– أن تكون الدولة راعية للأمة لا جابية لها.
– أن تشجع التعليم والمخترعين، وأن تبني جيشًا قويًا وتكنولوجيا حربية واقتصادية وصناعية متقدمة وكل ما يلزم لذلك.
– أن تنشر المبدأ في العالم. ويتميز المبدأ الراقي في كونه يهتم بجميع البشر وليس باستغلالهم لمصلحة بلد معين.
صراع الحضارات

ولكن عندما لا يكون هم حملة المبدأ إنقاذ العالم من الضياع، وإنما همهم مصلحة أنفسهم. فهم يتآمرون على غيرهم من حملة نفس المبدأ، فكيف بمن يخالفهم؟ فقد تآمروا على الخلافة العثمانية باعتبارها دولة المسلمين، فأرسلوا المستشرقين ليدرسوا حضارتنا ليضربوها، ثم أخذوا أبناء المسلمين ونصارى العرب ليمسحوا هويتهم ويصبحوا مطبوعين بالثقافة الغربية. وكذلك المأجورون الجدد، فقد كان همهم أمرين:
1- ضرب أفكار المسلمين ودولتهم وإثارة النعرات والقوميات والوطنيات.
2- تشويه التاريخ الإسلامي، والبحث عن أي شيء ليهاجموه، سواء خطأ أم يمكن تأويله إلى خطأ.

وأبرزها الدماء التي سفكت على مر الحروب في تاريخ المسلمين، والتي قد تصل إلى مليون شخص، وهذه طبعًا كارثة. ولكن لا يجرؤ المطبوعين بالثقافة الغربية على بيان المجازر التي انتهكها الرأسماليون خلال القرن الماضي فقط، والذي يزيد عن 170 مليون نسمة، ولا يخفى عنكم المجازر التي قاموا بها في الجزائر والعراق وغرب الصين (تركستان الشرقية) والهند وصربيا وفلسطين والشام وليبيا، وغيرهم الكثير الكثير، ولكن نذهب لنعزيهم في أشخاص، ونقف معهم في ما يسمونه محاربة الإرهاب (الإسلام) وكلنا نعلم أن أكثر هذه العمليات وراءها مخابراتهم ليبرروا ذبح المسلمين واحتلال بلادهم.

أما أفكارهم الديمقراطية التي يزعمونها فهي باطلة في بلادهم، فمثلًا الانتخابات في أميركا يعاد فرزها يدويًا، وتحال للقضاء علنًا، والحقيقة أنه كانت تجري مفاوضات خلف الستار ليرضخ الرئيس القادم وقتها لضغوط رؤساء الأموال. فهو مجتمع رأسمالي علنًا. وكذلك فضيحة مونيكا وكلينتون، وكذلك التجسس على 60 مليون شخص في بلد أوروبي حتى على رئيسة الوزراء، ولا ننسى التمييز العنصري والعرقي بينهم. فندعو المدافعين عن أفكار الغرب والمشوهين لتاريخ المسلمين أن يتقوا الله في دينهم والمسلمين، وأن لا يقرؤوا التاريخ قراءة من يريد النيل من المسلمين، إنما نقرؤه للعبرة من أخطاء من لم يطبقوا الإسلام كما يجب. وأن لا يأخذوا القرآن كما أخذ اليهود كتبهم ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *