العدد 358 -

السنة الواحدة و الثلاثين العدد 358 ذو القعده 1437هـ ، آب 2016م

إشكاليةُ هجرةِ المسلمين إلى الغرب (دوافعُها، خطورتها، تداعياتها) (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

إشكاليةُ هجرةِ المسلمين إلى الغرب
(دوافعُها، خطورتها، تداعياتها) (1)

صالح عبد الرحيم – الجزائر

1- خلفيةُ بروز مشكلةِ الهجرة والإقامةِ في بلاد الغرب.

بسبب ما يلقاه المسلمون اليومَ في بلدانهم على يد حكامهم من قمع وظلمٍ واضطهاد وقهر، وما يكابدون من متاعب وتحدياتٍ معيشية وفقر، وما يجابهون من سوء الأوضاع بسبب انعدام الرعايةِ بعد زوال دولتِهم وانحسار سلطانهم واحتلالِ بلدانهم وتقسيمِ أوطانهم، برزت للوجود مشكلة كبيرة وظاهرة خطيرة، اسمها: هجرة المسلمين إلى بلاد الكفار، إلى أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا وغيرها… وسواء أهاجروا أم هُجِّروا – كما حدث مثلًا لأهل فلسطين قبل وبعد النكبة في 1948م، الذين هُجِّروا إلى أقطار الدنيا كلها – فالأمر هو نفسه على مستوى النتائج والتداعيات. كان المسلمون في السابق (قبل زوال ظل الخلافة) كلما انكسروا على جبهة من الجبهات ضد أعدائهم فروا بدينهم إلى بعض البلاد الإسلاميةِ المنيعة، وهو ما حدث مثلًا للمسلمين في الأندلس قبل قرون عندما جنحوا إلى بلاد المغرب (شمال أفريقيا)، ولإخواننا الشيشان (ومَن جاورهم) في روسيا القيصرية عندما قدموا إلى بلاد الشام والأناضول بعدما تلقت الدولةُ العثمانية ضرباتٍ قاسية على جبهات القتال مع الروس، علمًا أن الضغطَ والاضطهاد في روسيا السوفياتية تواصلَ على المسلمين حتى بعد سقوط الخلافة حين هُجِّر الكثير منهم إلى أماكن شتى إبان الفترة الشيوعية، الستالينية تحديدًا. إلا أنه لما ذهب حكمُ الإسلام عن بلاد الإسلام بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلا ذلك من نكبات بعد الحرب العالمية الثانية، حلت بالأمة وبالبلاد الإسلامية ظروف قاسيةٌ لا تطاق، لم تكن معروفةً من قبل، فاستُبيحت الأمةُ من كل جانب، واستُبيح المسلمون في دمائهم وأموالهم، كما استُبيحوا في أرضهم وعرضِهم. فاستفحل الأمرُ وتعقَّدت المشكلةُ وزاد التآمرُ والاضطهاد والإبعاد، وبدأ المسلمون يَشُدُّون الرحالَ إلى بلاد الغرب الكافر فُرادى وجماعاتٍ. ولم يكن ذلك هروبًا مؤقتًا من جحيم البطش الاستعماري والإذلال والقهر، وإنما كان (بتدبيرٍ من الغرب الكافرِ نفسه) مؤامرةً خبيثةً وخطةً محكمةً وهدفًا سياسيًا سيجني منه العدو المتربصُ لاحقاً فوائدَ ومكاسبَ عظيمةً، وهو ما نراه اليومَ من نتائج وخيمةٍ على الأمة، وإفرازاتٍ خطيرة غيرت وجهةَ النظر في الحياة لدى أكثرِ أبناءِ المسلمين (ممن غاد إلى هناك) عبر الاحتواء والاحتكاك والعيش طويلًا في كنف الرأسمالية والعلمانية السافلة، وأجواءِ الحضارة الغربية المناقضِة للإسلام في الكليات وفي الجزئيات!! فلم يكن فتحُ أبواب أوروبا وأميركا وغيرها – لأبناء المسلمين تحديدًا – عملًا إنسانيًا بريئًا، ولم يكن فتحُ أبوابِ الهجرة للمسلمين إلا غرضًا مبدئيًا ذا دوافع سياسيةٍ بامتياز، يجري فيه استقدامُ الكفاءات والأيادي العاملة، وتهجيرُ الأدمغة «المشتغِلة» من أصحاب العلوم والمهارات، ومن الفاعلين سياسيًا والمثقفين والمتعلمين إلى البلاد الغربية من خلال الترشيح ثم القبول، عبر قوانينِ الهجرةِ بالقرعة والانتخابِ، وقوانين اللجوءِ السياسي المدروسةِ والمرتبةِ والمصممةِ بإحكام لاستقطاب ما يلزم الغربَ من الأيادي والعقول، ولم يكن ذلك إلا بهدف توطيد ركائز القوةِ الفكرية والعلميةِ والثقافية والسياسيةِ والاقتصادية في بلاده، وفي نفس الوقت لتثبيت وجودِه وبقائِه في أمة الإسلام أطول ما يمكن. فوُجد جراء ذلك في بلاد الغربِ اليومَ بالتواطؤ مع عملائه في هذه البلاد واقعٌ جديد اسمه الجالية، أو الجاليات. فكان ذلك بمثابة إسفين يدق الأمةَ من جهتين، ويضرب في اتجاهين متضافرين: الأول هو إفراغُ البلاد الإسلامية من الكفاءات في شتى المجالات عبر الهجرةِ الطوعية والقسرية ومغادرةِ الأوطان باتجاه الغرب؛ حتى صار لكل قطر من هذه الأقطار التي صنعها الاستعمارُ في بلاد المسلمين جالية عنده، أي في دولةٍ أو أكثر من دولة، يكثر عددُ أفراد الجالية فيها أو يقل بحسب علاقةِ الدولة ببلاد المسلمين. مثلًا: الجالية الهندية والباكستانية في بريطانيا، الجالية المصرية في أميركا، الجالية الجزائرية في كل من فرنسا وأميركا وكندا، الجالية المغربية في كل من بلجيكا وفرنسا وإسبانيا وأميركا، الجالية التركية في ألمانيا، الجالية اليمنية في أميركا…

وأما الثاني – وربما هو الأخطر – فهو تقويةُ دعائم دولِ الغرب في بلاد الكفر في جميع المجالات، وفي جميع الاتجاهات، وعلى جميع الأصعدة والجبهات!! فكانت النتيجةُ حتمًا ما نراه اليومَ من إسهام المسلمين أنفسِهم في إدامة محنتِهم وتكريسِ سوءِ أوضاعهم بتعزيز هيمنةِ الكفار ونفوذِ الغرب عدوِّهم في بلاد المسلمين، بل وفي العالم أجمع. ثم لم يكن مِن هذه التداعيات الرهيبة والخطيرة بعد استقرار الوضع على هذه الشاكلة بعد عقود من الزمن سوى ما نحن بصدد عرضه ومعالجته في هذه الصفحات، وهو ليس الهجرةَ نفسَها بقدر ما هو نظرة المسلمين اليوم إلى الهجرة بأعداد كبيرة إلى بلاد الغرب، وهو أخطر ما في الأمر، بعدما أصبحت هذه الهجرةُ اليومَ عند جمهرتهم حُلمًا لضمان مستقبلٍ أفضل، وطريقًا لتحسين الوضع المادي، ومخرجًا من دوامة ضغط الواقع المرير، يستهوي النساءَ والرجال إلى حد لا يوصف، وهدفًا يداعب أحلامَ شباب المسلمين على وجه الخصوص! فبات وجودُ المسلمين بعدد معتبٍر وبشكل دائمٍ ومتزايدٍ في بلاد الغرب يَطرح اليومَ إشكاليةً حقيقيةً على فقهاء ومجتهدي هذا الزمان، والمقصود بقولنا «هذا الزمان» هو زمنُ غيابِ الدولةِ الإسلامية أي الخلافة، وزمنُ هيمنةِ الحضارة الغربية.
وليس المقصود بالهجرة التي نحن بصدد النظر فيها (كواقع سياسي نعيشه اليومَ) هو السفرُ إلى خارج البلاد الإسلامية، أو الخروج من دار الإسلام (حال وجودها) إلى دار الكفر لجلب مالٍ أو استقدام سلعةٍ أو تجارةٍ أو تحصيل علمٍ أو خبرةٍ، أو السفرُ بغرض التداوي أو النزهةِ والاستكشافِ أو الاطلاعِ على أعمال وأحوال الشعوب في البلاد المختلفة (مما قد يصب في خدمة الأمة الإسلامية ولو بشكل من الأشكال)، فلذلك ضوابط شرعيةٌ من الفقه معروفةٌ من أيام الدولة الإسلامية الأولى، فلم يكن المسلمون يعيشون بمعزِل عن العالم، وإنما كانوا دائمي الاحتكاك مع غيرهم من الشعوب والأمم في بلادهم وفي بلاد غيرهم. وإنما المقصود هو ما طرأ على حال الأمةِ من انفلاتٍ منذ بضعةِ عقودٍ في موضوع تركِ المسلمين بلادَ المسلمين بغرض الاستقرار والاستيطان في بلاد الكفار من جميع القارات بأعدادٍ متزايدة، بسبب الضغط والقهر الاستعماري الغربي، وهو ما كوَّن في كل بلدٍ غربي جاليةً منهم!! (وهو موضوع هذا المقال).

فنجد مثلًا مما ورد في تشخيص ظاهرةِ الهجرة هذه، وكذا في التفريقِ بين أصناف وبواعث المهاجرين، ما جاء في قول أحد الباحثين في هذا الشأن ضمن مقالٍ بعنوان «الإقامة خارج ديار الإسلام… أحكام وضوابط» ملخصًا عواملَ وملابساتِ ظهورِ مشكلةِ الهجرة وإقامةِ المسلمين في غير بلاد الإسلام، كما يلي:

«الوجود الإسلامي خارج الوطن الإسلامي يتطور سريعًا كمًّا وكيفًا بين من يريد من إقامته هناك استفادةً ظرفيةً عابرةً وبين من يريد الاستقرار، وقد بدأ المسلمون الهجرةَ إلى الدول الغربية بعد منتصف القرن العشرين، جماعاتٍ ووحدانًا، وأُسَرًا وأفرادًا، بسبب ظروفٍ شتى حلت بهم وببلادهم. ولم تكن هجرتهم إلى تلك البلاد، وتكوينُهم بعد ذلك جاليةً (أو جالياتٍ) كبيرةً لها انتشارها وامتدادها، منبثقةً عن تخطيط منهم أو من دولهم، بل كل ذلك كان نتيجة ظروفٍ ألمـَّت بهم أو نكباتٍ حلت ببلادهم. وأيضًا لم تكن بواعثُ تلك الهجرة متحدةً في أهدافها ومسبباتها بل كانت متفاوتة… وَوَجد فقهاءُ الإسلام أنفسَهم أمام ظاهرة لم تكن مألوفةً من قبل، ولا عهد لسلفهم بها. فبدلًا من إقامة المسلمين في بلادهم الإسلامية والتنعم في ظل مجتمع مسلم (أفراده إجمالًا مسلمون)، وهو وإن لم يلتزمْ كلَّ أحكام الشريعةِ الإسلامية في حياته، إلا أنه لم ينحلَّ عن جميع معالمها، إذا بهم – أو بكثير منهم – يُؤثرون الإقامةَ في مجتمع لا يمتُّ إلى الشريعة بصلة، وإن بدا لأول وهلةٍ أنه مجتمع مثالي (في أعينهم)!!

فتحيـَّرت أفهامُ العلماءِ أمام هذه الظاهرة، واختلفت أقوالُهم في بيان الحكم الشرعي… فمن محرِّمٍ للإقامة خارجَ ديار الإسلام، وداعٍ المهاجرين المسلمين للعودة إلى بلدانهم الأصلية، ومن متحمِّسٍ لتوسيع هجرةِ المسلمين وتعميق أثرِها في بلاد الغرب، ومن وقائلٍ آخر بالتوفيق بين التقيد بالثوابت الإسلامية وبين مقتضيات المواطنةِ للمسلمين خارج البلاد الإسلامية، مع ضرورة العملِ بشتى الوسائل لتحصين المسلمين هناك وتقويةِ كيانهم دون إخلال بالأنظمة المرعية، وتحديدِ الثوابت الإسلامية التي يتعرضُ المسلمون خارج البلاد الإسلامية لتغييرها، ورسمِ السبل للحفاظ عليها..» [انتهى كلام الباحث فضل الله ممتاز].

2- النظرة الواقعيةُ للمسألة، وهي رؤيةُ العلماءِ المعاصرين (أي ما بعد ذهابِ الخلافة) ورؤيةُ أصحابِ الإسلام المعتدل!

فيبدو أن أصحاب «الإسلام المعتدل» كانوا سباقين في إعطاء الجوابِ فيما يتعلق بإشكالية وجود عدد كبير من المسلمين – وهم اليوم أجيال – يعيشون منذ عقود بين ظهراني الكفار في الدول الغربية، وذلك فيما أسمَوه فقهَ الجالية أو فقهَ الأقليات الإسلامية. إذ المسألةُ عندهم سهلة ميسورة، يَـحُلُّها لهم الاعتدالُ نفسه، والنظرةُ المقاصدية المصلحيةُ للشريعة، فهم يرون بالمجمل أن على المسلمين الموجودين الآن في بلاد الغرب، خصوصًا الذين خرجوا من البلاد الإسلامية واتجهوا إلى الدول الغربية – فضلًا عن الذين نشؤوا هناك من أبناء الجالية، أو ممن أسلم من أهل تلك البلاد – عليهم أن يندمجوا تمامًا في المجتمعات التي هم فيها، وأن يتعايشوا مع مواطني تلك البلاد كأوروبا وأميركا وأستراليا وكندا وغيرها…مع الفارق أن يتمسكوا هم بدينهم! وأن لا مانع (شرعًا) من البقاء هناك بشكل دائم، خصوصًا بعد ما صاروا أجيالًا ولم يعودوا جيلًا واحدًا. فنجد من كلامهم في هذا الشأن (وذلك بشكل متناغمٍ لافت، لا ينمُّ إلا عن تخطيط مسبق وتدبير مبيَّت من الجهات الفاعلة على الساحة الدولية) أنَّ على المسلمين الذين يعيشون في أية دولةٍ من دول الغرب (أوروبا أو غيرها) أن يكون ولاؤُهم لدولتهم ولوطنهم هناك، وعليهم أن يكونوا أكثرَ وطنيةً من أهلها الأصليين! (قالها مثلًا عبد الفتاح مورو مؤخرًا على الجزيرة هكذا صراحةً). ويرى أصحابُ «الإسلام المعتدل» (الذي هو في الحقيقة نسخةٌ مشوهة من العلمانية، بل هو أساسًا خطةٌ من خطط الغربِ لمحاربة الإسلام) أنَّ على هؤلاء، بل من مصلحتهم، أن يعتبروا أنفسَهم مواطنين من نفس الدرجة، مؤدِّين ما عليهم من واجباتٍ يفرضها الانتماءُ لتلك الدول، ومطالبين بل مدافعين عن حقوقهم وفق قوانين الإقامة والجنسية والمواطنةِ المعمولِ بها في تلك البلدان، بل فارضين أنفسَهم هناك على اعتبار أنهم أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من تلك الأوطان، ومن نسيج تلك المجتمعات التي تدين بالديمقراطية وتعيش في فضاء واسعٍ من الحرية والمساواة بين بني الإنسان، وهو فضاء رحبٌ يسع الجميع، مفقودٌ تمامًا في بلاد المسلمين. كما يضمن في نظرهم التعايشَ والمحافظةَ على الهوية، ويتيح للجميع ممارسةَ الشعائر والتمسكَ بالدين الذي يختاره الإنسان. وذهبوا إلى القول بواجب الانخراط في المنظمات والأحزاب والجمعيات، وفي الحياة السياسية والاقتصادية ضمن القواعد المعمول بها حيث هم؛ وذلك من أجل ضمانِ مصالحِهم عبر التأثير في السياسات والبرامجِ الحكومية في الدول التي هم فيها.

إلا أن أصحابَ منهج الاعتدال لما رأوا أن ذلك ربما يصطدم مع الإسلام في بعض مفاهيمِه وأحكامه (بحسبهم)، عمدوا إلى الطريقة السحرية في عملية التكييفِ والتكيفِ، وهي: تغييرُ خطاب القرآنِ والسنةِ بما يتفق مع روح العصر. والعصر هنا هو زمن العلمانية، التي تحكم الدنيا كلَّها اليوم. فهل يجب أن تتغير الأحكامُ الشرعية («القديمة») لكي تجيبَ على تساؤلات الزمان ومتطلباتِ المكان، وتَحُلَّ إشكاليةَ وجودِ مسلمين تعدادهم بالملايين في بلاد الغرب (بين 6 و 7 ملايين من الجزائر وحدها مثلاً)؟ نعم، بحسب هؤلاء، إنه فقه الجالية أو فقه الأقليات. فكان لازمًا عندهم بالنتيجة أن يخلوَ خطابُ المسلمين في بلاد الغرب تمامًا من أية ألفاظٍ وعباراتٍ تحمل العداءَ (الذي لم يعد في نظرهم عداءً مبدئيًا بل تاريخيًا) وتحملُ معاني شرعيةً من مثل: الكفار، الجهاد، الغرب الكافر، الآخَر، دار الكفر، الغرب عدو المسلمين، القيم الغربية الزائفة، الرأسمالية النتنة، أوروبا الاستعمارية، العلمانية المقيتة، الاقتصاد الربوي، الخليفة، الخلافة… إذ لم يعد معقولًا ولا مقبولًا أصلًا بنظرهم استعمالُ هذه المصطلحات في الأوساط السياسةِ والثقافية والإعلاميةِ هناك في الغرب!!.

ومع أن الذهابَ إلى بلاد الغرب ابتداءً بهدف الاستقرار يطرح أكثرَ من سؤال عند بحث مناط الحكم، بل يثير أكثرَ من شبهة ورأيٍ عند الباحثين، كون الدولة الإسلامية غائبة، فوفق هذه النظرة الوسطيةِ المعتدلة يجوز للمسلم أن يعيش في أي مكان يختاره، طالما أن الأرض أرض الله، وأرض الله واسعة! فله أن يختار أيَّ بلدٍ (في الغرب تحديدًا) ليستقر فيه، خصوصًا وأن جميع البلاد – البلاد الإسلامية أو غيرها – دارُ حرب أو دار كفر، حتى بحسب الاصطلاح الفقهي «القديم» الذي تجاوزه الواقعُ وتجاوزه الزمن، ولم يعد له أي معنى في دنيا اليوم – في نظرهم. أما وقد صار وجود المسلمين واقعًا، وهم اليومَ (في أوروبا وأميركا تحديدًا) بالملايين، فلا بد لوضعهم من علاج في الشريعة. فكان أن انبرى طائفةٌ من أصحاب هذا الاعتدال الزائف والواقعيةِ المميتة إلى إخضاع النصوص وتكييف معانيها مع ما يمليه الظرفُ مكانًا وزمانًا، وما يمليه ضغطُ النظام الدولي الجديد، واستنبطوا فقهًا يفي بغرضهم. فكان أن أفتوا بجملة من الأحكام: منها على سبيل المثال حتميةُ ولزومُ الاندماج والخضوعِ للقانون في تأدية الشعائر كصلاة الجمعة مثلًا، وفي شكلِ اللباس خصوصًا ما تعلق بلباس الفتاةِ والمرأةِ المسلمة في المهجر، والإيفاء بواجبات المواطنةِ كواجب التنديد من قِبَل المسلمين في كل حادثة مما يسميه الغربُ «إرهابًا»، بل وبكل ما يمس بثوابت المجتمعات التي هم فيها (من حرياتٍ وديمقراطية وقيم مجتمعية كالمساواة وحقوق المواطنة وغيرها…) بل أفتوا بواجب تركِ هموم بلادِ المسلمين إلى المسلمين في بلاد المسلمين، أي بعدم نقل ما يسمونه مشاكلَ الشرق الأوسط واهتماماتِ بلدانهم الأصلية لا إلى أوروبا، ولا إلى أميركا، ولا إلى أستراليا، ولا إلى كندا!! وقد رأينا كيف تصرف أبناءُ الجالية في أوروبا مؤخرًا وفرنسا تحديدًا عقب أحداث شارلي أبدو وأحداث باريس الأخيرة ولسان حالهم يقول (رافعين لافتاتٍ): دعونا وشأنـَنا، واتركونا نعيش في هدوء وطمأنينةٍ وبسلام وانسجامٍ مع إخواننا (في الإنسانية) في وطننا الجديد، ولا تحمِّلونا تبعاتِ إسلامِكم وصراعاتِ الشرق الأوسط، فإسلامنا ليس كإسلامكم! (إسلام أوروبي، إسلام أميركي، إسلام فرنسي، إسلام ألماني، بريطاني، بلجيكي،كندي، نمساوي، نرويجي، دنمركي… فلكل بلد همومه الخاصة ومشاكلُه الخاصة واهتماماتُه الخاصة)!! ولأول مرة ربما رأينا لافتاتٍ تُرفع في مسيرات في الشوارع في بعض عواصم البلاد الأوروبية مكتوب عليها: «مسلمون، مسيحيون، يهود، كلنا معًا ضد الإرهاب!!». فهل نجح الكفار في شَرذمَة المسلمين إلى هذا الحد؟؟

وقد سمعنا خطابَ بعض الدعاةِ والخطباء في بعض مساجد تلك البلاد، وقد حمـَّلوا مسؤوليةَ صعودِ أحزابِ اليمينِ المتطرف في أوروبا كالجبهة القومية أو الوطنية في فرنسا، وحزب الفجر الذهبي في اليونان، وحزب التقدم في النرويج، والديمقراطيون السويديون في السويد، وحزب الحرية النمساوي في النمسا، وحزب ألمانيا القومي الديمقراطي في ألمانيا، وحزب الشعب الدنمركي في الدنمرك، وحزب استقلال بريطانيا في بريطانيا (وهو الأقل تطرفًا) وما يماثلها في غيرها من الدول، حمَّلوا صعودَ هذه الأحزابِ إلى التصرفات الهوجاء والأعمال الإرهابية التي يقترفها المسلمون من ذوي النظرة المتشددة تجاه الغربِ بسبب التزمت وسوء فهمِ الإسلام (بحسبهم)!! مع أن هذا غيُر صحيح، فلأميركا والدول المناوئة لأوروبا الموحدة، والمناوئة للاتحاد الأوروبي في الموقف الدولي، دور كبير وفوائدُ ومآربُ في إيجاد قلاقل وتأجيجِ الصراعاتِ الداخلية في البلدان الأوروبية، وفي تصاعد الخطاب اليميني المتطرف تحديدًا. وقد سمعنا أيضًا خطابَ بعض رموزِ الجاليات المسلمةِ والدعاةِ والخطباءِ من أمثال عدنان إبراهيم في فيينا بالنمسا، وبن بية الموريتاني في فرنسا وغيرهم، وخطابَ كثير من أئمة المساجد في العواصم الغربية يدعو صراحةً إلى تبني الفكر الديمقراطي، وإلى قيم المواطنةِ والتوافق والتعايش ونبذ التطرف، ويدعو إلى الانسجام الكاملِ والاندماج التام في تلك المجتمعات بما يمليه واجبُ المواطنة، ولكل دينه وعقيدته!! فكان أن تضاعفت المشكلةُ ليس بسبب وجود «دعاة» (في أوروبا وأميركا) إلى إسلام علماني مخففٍ بنكهة البلد الذي جاؤوا منه فحسب (!!!)، ولكن أيضًا (وفي الوقت نفسه) بسبب تدخلِ حكوماتِ الدول الغربية نفسِها في صناعة خطباء ودعاة على المقاس، يَفُون بغرض تحديدِ نوع الإسلامِ الذي تريده كلُّ دولةٍ من هذه الدول الغربية في داخلها! وبالنتيجة أصبح وجود المسلمين بشكل دائم في بلاد الغرب هاجسًا ومشكلةً كبيرةً تُوظف فكريًا وسياسيًا داخليًا من طرف كل دولةٍ من دول الغرب، كما يجري توظيفُها دوليًا أيضًا. ونحن نسأل: فهل صار وجودهم في الغرب أيضًا مشكلةً تُوظف ضد المسلمين عالميًا وعبئًا جديدًا على الأمة الإسلاميةِ وهي في طريقها إلى النهضة من جديد؟؟ نعم هذا هو الحال! وهذا ما نقوله.

كما يرى أصحابُ «الإسلام المعتدل» أنه يجب على المسلمين عمومًا في تلك البلاد أن يخضعوا لشروط الهجرة أو اللجوءِ التي تحصَّلوا بموجبها على دوام الإقامةِ، أو تمكنوا على أساسها من أخذ جواز السفر أو الجنسية (حسب الحالة)، فالمسلمون عند شروطهم. ثم قالوا: ماذا يقال لأبناء المسلمين وأحفادِ المسلمين الأوائل الذين سافروا إلى الغرب بدوافع مختلفة ولأسباب شتى، ثم انتهى بهم الأمرُ إلى التوطن هناك بشكل دائم؟ هل يُعقل أن تُطلب العودةُ إلى بلاد المسلمين من هؤلاء بعدما استقروا فيها طويلًا أي لعشرات السنين؟ وماذا عن آبائهم وأحفادهم؟؟ وعلى أي اعتبار من جهة العقل أو الشرع؟ بل هل يُعقل أن يُطلب ممن أسلم من أهل تلك البلاد أن يتركوا بلادَهم وأن يدخلوا البلاد الإسلامية، أي أن ينتقلوا من دار كفرٍ إلى دار كفرٍ، فهل يصح هذا الكلام؟ وقالوا أيضًا: كيف إذًا تنتقل الخبراتُ والعلومُ والتكنولوجياتُ والتجاربُ من البلاد المتقدمة إلى بلاد المسلمين (المتخلفة) لولا الهجرة والوقوفُ على أحوال الأمم والشعوب الأخرى وأعمالِهم من أجل استجلابِ علومِهم وصناعاتِهم وإنجازاتهم، والاطلاعِ على سلبياتهم ومساوئهم ومفاسدهم عبر الاحتكاك والتعايشِ والمكوثِ في الغرب لفترات طويلة، أو بالأحرى أطول ما يمكن؟؟

نقول: إن المدقق في أمر هذا الخطاب إزاء هذه المشكلة يجد أن منطلقَ ثقافة الاعتدال كلها هو التسليمُ بالواقع والنظرةُ النفعية الواقعية للأمور، والقفزُ على وجوب وجودِ الدولة في حياة المسلمين. كما يكتشف سريعًا أن أصل الداء عند هؤلاء إنما هو نظرةُ فصل الدين عن الحياة وعن السياسة التي جاءت من الغرب (وباتت تسري كالدم في عروقهم)، فمن تداعيات ذلك أن صار كلُّ شيء في أذهانهم مقلوبًا، سواء فيما تعلق بأفكار الإسلام، أم بفهم الواقع في بلاد المسلمين أم في الغرب، أو بغير ذلك. فصار من غرائب وعجائب تداعياتِ ذلك، هذه النظرةُ المعكوسة لحقيقة الدولةِ ولمفهومِ المجتمع في الإسلام، وهذه النظرةُ الواقعية لأحوال وأوضاع المسلمين عمومًا عبر العالم بعد زوال دولتهم، حيث باتوا يُسلِّمون بواقع سيطرة الكفار، وبميثاق الأمم المتحدة، وحيث صار بالتالي تطبيقُ الإسلام وتنفيذُ أحكام الشرعِ موكولًا عند أصحاب هذا الانبطاح إلى جهود الأفراد وآحادِ الأمة بَدلَ الكيان السياسي الذي على المسلمين إيـجادُه!

ومن أثر ذلك أيضًا، هذا الاضطرارُ إلى الالتواء والتكيُّفِ مع الواقع بعد كل مصيبة تصيب المسلمين، وبعد كل نكبةٍ أو نكسة تَحُل بالأمة بسبب عدمِ الانضباطِ بالشرع، وبسبب فقدان البدائل والمعالجات في زمن غيابِ دولةِ الخلافة، وهو دون شك من تداعيات هذه الرؤية المشوَّهة والمغلوطة لمعنى السياسة ولمعنى الدولة ولمعنى المجتمع. ومن ذلك نظرتـُهم لوجود المسلمين في الغرب، ونظرتـُهم القائلة بلزوم هجرةِ المزيد منهم إلى الغرب! بل إن من تداعيات هذه النظرةِ المصلحية الواقعيةِ للشريعة، أنَّ أصحاب هذه الانهزامية باتوا اليومَ فعلًا خطةً من خطط الغرب في محاربة الإسلام، وأصبحوا أداةً من الأدوات التي يوظفها أعداء الأمة فكريًا وسياسيًا من أجل صرف المسلمين عن استعادة دولتهم وقوتهم.

ونظرًا لما لذلك من صلة بموضوع الهجرة (من حيث ربط العَرَض بأصل الداء)، لا بأس أن نعرج على شيءٍ من ذلك التوظيفِ الفكري السياسي الخطير والتسخيرِ العجيب الذي يستهدف أسسَ الإسلام ومفاهيمَه في العمق، وهو دون شك من محدَثات الأمور. ويتعلق الأمر بما أوجده الغربُ لديهم من نظرة ملتويةٍ مقلوبةٍ لمقاصد أحكام الشريعة الإسلامية، تكاد تُلغي ما جاء به الوحي من عند الله جملةً وتفصيلاً، من حيث إن هذه النظرةَ تُناقض تمامًا ما قصَدَه علماءُ الأصول من سلف الأمةِ في هذا الباب (ليس هذا محل إثباته). مفادُ هذه الرؤية تطويرُ خطاب القرآنِ الكريم لكي يستجيب بحسبهم لمتطلبات العصر ومستلزمات معالجة حالِ المسلمين في هذا الزمان، وتعليلُ شريعةِ الإسلام ومعالجاتِه بالمقاصد والمعاني وفق منهج واقعي منبطحٍ سقيم في «الاستنباط» يجعل للمنفعة والمصلحةِ التي دل عليها العقلُ في هذا العصر – أي في زمن هيمنةِ حضارةِ الغرب ومفاهيمِه على حياة المسلمين – حجِّيةً تكاد تأتي على أحكام الشريعة كلها!

ذلك أن مبنى الشريعة برمتها عند رواد هذا التلاعب والالتواء من المعتدلين هو جلبُ المصالح ودرءُ المفاسد (مع أولوية الثاني على الأول) بما يفيد لزومَ إعادةِ فهم النصوص، ولزومَ إعمالِ الحكمةِ والعقلِ ومبدأِ التدرج سواء في عملية الالتزام وتطبيق الأحكامِ، أو في الدعوة إلى الله بغرض النهوض بواقع الأمة والعودةِ إلى الإسلام!! فبالنظر إلى وجوب مراعاةِ المقاصدِ في تحقيق المصالح ودفع المفاسد، لا يصح بزعمهم ولن يكون من الحكمة بنظرهم حملُ الناس على أحكام الشريعةِ كلها وحقائقِ الإسلام جملةً، لكي لا يدفعوها جملةً فتكون فتنة! فوجب التدرج! فلا يصح ذلك عندهم تحديدًا مع مَن في الغرب مِن أبناء الجالية لأن وضعَهم يتطلب إسلامًا مخففًا؛ لئلا يتركوا الالتزامَ بالأحكام الشرعيةِ (جملةً) بحكم ضغطِ الواقعِ والمحيط في بلاد المهجر، وهو مفسدة!! فذلك فقه الجالية!

فمن هذا المنطلق أيضًا (جريًا وراء المقاصد!) هم اليومَ بصدد التنازل عن كل الألفاظ والمصطلحات الشرعية في الموروث الفقهي والأصولي، من أجل التأصيل لما يريدونه أن يكون في شريعة المسلمين أصلًا في الاجتهاد والتشريع، أي علمًا موازيًا لعلم أصولِ الفقه («القديم»)، لتُصبح المقاصدُ أصلًا فيه أو علمًا يعضده أو يكون بديلًا عنه يفي بحاجة العصر في «الاستنباط» مبناه أسبقيةُ القيم (« الإنسانية العالمية») على الدين، وهو ما يعني بالنهاية أن التحسين والتقبيحَ في الأفعال مرده إلى جهة العقل – الذي هو مشتركُ البشر جميعاً – قبل الوحي ونصوصِ الشرع. لذلك وجب عندهم تغييرُ خطاب الدين الإسلامي، أي تطويرُ خطابِ القرآن والسنة بما يتفق مع هذه النظرة الإنسانيةِ الحديثة؛ ولهذا سهل عليه إبعادُ كل المفردات الموجودة في أقوال السلف ضمن كتب ومؤلفات الأولين! وهذا في نظرهم هو ما سيجعل خطابَ المسلمين معقولًا ومقبولًا لدى جميع البشر في العالم (أي في عواصم الغرب تحديدًا)، وهو ما سوف يلغي الحواجزَ بين الناس على اختلافهم (وتباين أيديولوجياتهم) ويستهوي الشبابَ في الغرب خصوصًا، ويفتحُ بالتالي الأبوابَ لدعوة الإسلام مستقبلًا من خلال الجاليات والمهاجرين إلى الغرب خاصةً، ويفتح لها آفاقًا جديدةً في العالمين (أي في لندن ونيويورك وطوكيو وباريس)!! وللقارئ أن يتخيل أيَّ إسلامٍ سيصل إلى هؤلاء الغربيين بهذه الطريقة «الحديثة الواعدة» البعيدةِ كل البعد عن طريقة الإسلام الثابتةِ في حمل الدعوة إلى الناس، المتمثلةِ في وجوب حـملِه عن طريق الدولةِ بالدعوة والجهاد في سبيل الله، (نعم) بأساليب وتقنياتِ ووسائلِ ومقتنياتِ وأدواتِ العصر الحديثة المتغيرة دومًا مع المكان والزمان. وله أيضًا أن يتصور مدى ما سيصيب منظومةَ المسلمين الفقهيةَ والقيميةَ واللغويةَ والتشريعيةَ ووجهةَ نظرهم في الحياة جراء هذا النهجِ الجديد الواقعي السقيم الذي يقفز على وجوب وجودِ الدولةِ في حياة المسلمين ووجوب استعادةِ دولةِ الإسلام أولًا، وما سيَلْحَق بهم جراء هذا الطرحِ المشوَّه الحداثي العجيب، الذي يكرس عمليًا في واقع المسلمين (كما في أذهانهم) «تفوقَ» نظرةِ الغربيين وسيطرةَ منظومةِ الرأسماليين وهيمنةَ دُول الكفارِ المستعمرين، ويغيب منه دائمًا وجوبُ إعادة دولةِ الخلافةِ مجسِّدةِ وحدةِ المسلمين، ومَكمنِ قوةِ وعزِّ المؤمنين، وممثـِّلةِ أمةِ الإسلام في العالمين! والله تعالى يقول: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ).

والمدقق في أمر هذا الخطاب يكتشف (أيضًا) سريعًا أن هذه النظرةَ المصلحيةَ المشبوهةَ التي سُلطت على الشريعة الإسلامية (بوحي من الغرب) أصبحت اليومَ تتجاوز خطيئةَ تحريفِ الفقه ومصطلحاته إلى الوقوع في تحريف أصوله، كما باتت بشكل عجيبٍ تَخلط بين الثوابت والمتغيرات، أي بين الأحكام الشرعية من جهة، والوسائل والأساليب من جهة أخرى، لتصبح عندهم كأنها شيء واحد. وباتت بشكل غريبٍ تُجرِّيء عقولَ أصحابها على أصول الشريعة تمامًا كما جرَّأتهم على تفاصيلها (وما زالت)، بل حتى على أحكام الشرع الثابتةِ القطعيةِ منها، وذلك من مِثْلِ ما تعلق بشكل نظامِ الحكم في الإسلام (أي نظامِ الخلافة)، وأحكامِ الردة وأهل الذمة، وأحكام الجهاد في سبيل الله وكيفيةِ حمل الدعوة، ووضعِ المرأة في الإسلام، وأحكامِ نظام الاقتصاد من مثل موارد بيتِ المال كالجزية والخراج، وأحكامِ السياسة الخارجية كأحكام دار الحرب ودار الإسلام ووجوب العيش في دار الإسلام، وما تعلق بنظامِ العقوبات وغير ذلك، وهي أحكام واضحة ثابتةٌ لا تتغير. وباتت هذه المصطلحاتُ لا تَرِد على ألسنتهم البتة. كما باتت هذه المنهجية المخترَعة في «الأخذ من الإسلام» (!!) تُضفي – كما أسلفنا – في ذات الوقت على المصلحة العقلية حجيةً في «استنباط» الأحكام ما أنزل الله بها من سلطان، وما لها في كتابه ولا في سنة رسوله من برهان، وهو ما يُفضي في النهاية إلى جعلِ العقل حَكمًا على الشرع وإلغاءِ الكثير من فقه الأولين وألفاظِه ومصطلحاتِـه بحجة عدم مواكبةِ العصر، أي بحجة تغيُّر الزمان، بل إلى نسف أو إعادةِ النظر في الكثير من مقرَّرات أصول الفقه (القديمة في نظرهم)، بما يتفق مع مفاهيم الغرب عن الحياة التي تجعل المصلحةَ والمنفعةَ كما يراها عقلُ الإنسان الحاضر – أي في زمن هيمنةِ حضارة الغربِ الكافر ووجهةِ نظره في الحياة – مقياسًا في الأعمال وفي التشريع، بحيث لن يصير بعدئذٍ ما يتوصلون إليه من أحكامٍ ومعالجاتٍ أحكامًا شرعيةً البتة! ومن ذلك ما سمي فقه الجالية أو فقه الأقليات.

فَمِن نظرةِ هذه المدرسة السقيمة ظهر اليومَ للمسلمين في كل أنحاء العالم عبر الإعلام الموجَّه وكأنهم أخذوا الرخصةَ من مشايخ المسلمين وعلمائهم ممن برزت أسماؤهم في هذا العصر في مسألة الاستقرار في بلاد الكفار، ولم يكن ذلك في الحقيقة إلا بتدبيرٍ سياسي وترويجٍ إعلامي من الغرب! وصار كأنه لا حرج ولا مشكلة ولا ضير من سفر المسلمِ والمسلمةِ إلى بلاد الغرب للمكوث فيها بشكل دائمٍ، ليس للتعلم أو العلاج أو غيره مما هو ظرفي ومؤقت ومبرر، وإنما للعيش فيها، شريطةَ أن يبقى متمسكًا بدينه!!! نعم يمكنه التمسك بدينه لو كان دينه عقائد وعبادات وأخلاق فقط!.. فهل شريعةُ الإسلام عبادات وأخلاق فحسب؟؟؟ فمن هذا يظهر جليًا أن التأثُّرَ بالأفكار المنبثقة عن العلمانية وعن فكرة فصل الدين عن الحياة وفصل الدين عن السياسة – وهي وجهةُ نظر الغربِ في الحياة قاطبةً – هو ما جعل المسلمين لا يرون تناقضاً بين دوامِ وجودِهم في بلاد الغربِ الرأسمالي العلماني الكافرِ وبين إسلامهم!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *