العدد 358 -

السنة الواحدة و الثلاثين العدد 358 ذو القعده 1437هـ ، آب 2016م

كلمة العدد : طريق التنازل إلى أين تودي بصاحبها؟

بسم الله الرحمن الرحيم

طريق التنازل إلى أين تودي بصاحبها؟

 

أعلنت جبهة النصرة يوم 28\7\2016م، على لسان قائدها الجولاني عن “وقف العمل باسم جبهة النصرة وتشكيل جماعة جديدة باسم جبهة فتح الشام،” مضيفًا بأن “هذا التشكيل الجديد ليس له علاقة بأي جهة خارجية”. كما أعلنت فك ارتباطها عن القاعدة حيث توجه قائدها بالشكر إلى «قادة تنظيم القاعدة على تفهمهم لضرورات فك الارتباط».

ربما نتفهم قيام حركة ما بتغيير اسمها عندما لا يعبر الاسم عن ماهيتها، أو عندما تقوم بالفعل بتغيير أسسها وتنسلخ عن ماهيتها، ولكن إذا كان ذلك التغيير بسبب الضغوطات من هنا ومن هناك، فمما يعنيه ذلك توجه نحو التنازل ربما يؤدي إلى ما هو أعظم، وكذلك فك الارتباط عن مسلمين آخرين مع وجود القناعة بهم ومن ثم اعتبارهم جهة خارجية! فإن ذلك يعد من التنازل وانحدار نحو الخطاب الضيق والوطنية الضيقة، وكذلك تغير فحوى الخطاب أو نوعه أو لهجته، يشير إلى ذلك أنه عندما ذكر قائد جبهة النصرة أن التشكيل الجديد يهدف إلى „العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين الناس كل الناس، والعمل على التوحد مع الفصائل لرص صف المجاهدين ولنتمكن من تحرير أرض الشام من حكم الطواغيت والقضاء على النظام وأعوانه“، لا نعترض على ذلك، ولكن نوع هذا الخطاب يأتي بعدما كانت الجبهة في البداية تركز على الخلافة وتدعو إلى إقامتها، فنجد أنها تخلت عن نوع ولهجة خطابها، وبدأت تستعمل ألفاظا عامة كما ورد؛ لأن ذكر الخلافة يحدد الهدف ويبلوره ويزيل الغموض، نعم إن الخلافة ستقيم دين الله وتحكم بشرعه وتحقق العدل بين الناس، ولكن التخلي عن التلفظ بها وعدم ذكرها يوجد الغموض في شكل الحكم الذي تريده تلك الجبهة. ويعد تصرف الجبهة نوعًا من التنازل، ويفتح طريقًا للتنازل إلى ما هو أكبر. نقول هذا الكلام من باب التحذير لجبهة النصرة من أن تنحدر إلى مثل ما انحدر إليه غيرها، ومن ثم لم يستطيعوا أن يرتفعوا بعدها، ونضعهم أمام قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) وقوله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ).

نعم، لقد حصل مثل ذلك مع قادة جيش الإسلام وقادة أحرار الشام حيث تخلوا عن نوع خطابهم عندما قبلوا بدعم عملاء الاستعمار مثل السعودية وقطر فانصاعوا لأوامرهما فأصبحوا لا يتحركون على الأرض إلا بأوامرهما، ولذلك قال الناطق باسم جيش الإسلام إسلام علوش إنه «لا يوجد قرار دولي بإسقاط النظام الآن» وبذلك لا يتجه نحو دمشق لإسقاط النظام، ليصب كل ذلك في مصلحة نظام الطاغية ومن ورائه أميركا، وقد قبلوا الدخول في المفاوضات مع نظام الطاغية ضمن مجموعة الرياض. وقال مهند المصري القائد العام لأحرار الشام عندما سئل عن الدولة المدنية أي الدولة العلمانية في برنامج أذاعته قناة الجزيرة، وسيلة الإعلام الرئيسة لدولة قطر، يوم 17/3/2016م إن «موضوع الكلام عن الدولة المدنية مؤجل أصلًا» وكل التركيز على إسقاط النظام. فذلك سقوط وتنازل من قائد هذه الحركة إلى أبعد الحدود، ويدل ذلك على خضوعه للمشروع الأميركي الذي أقر في مؤتمر فينّا يوم 14/11/2015م بالحفاظ على النظام العلماني للدولة السورية.

وجماعة الإخوان المسلمين في سوريا أخرجت يوم 25\3\2013م ما أطلقت عليه «عهد وميثاق» بأنها «تلتزم بالعمل على أن تكون سوريا المستقبل دولة مدنية حديثة تقوم على دستور مدني… دولة ديمقراطية تعددية تداولية وفق أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني الحديث ذات نظام جمهوري نيابي… دولة تلتزم بحقوق الإنسان كما أقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية … دولة تحترم المؤسسات وتقوم على فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية… دولة تنبذ الإرهاب وتحاربه وتحترم العهود والمواثيق والمعاهدات الدولية بالقبول بالنظام الديمقراطي…» كلها أفكار تخالف الإسلام، وقد اعتبرت تلك الأفكار الغربية العفنة التي جلبت الويلات على العالم اعتبرتها «أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني الحديث»! في سقوط ما بعده سقوط! ومن ثم دخلت في المجلس الوطني السوري التي أسسته أميركا. فكان تنازلها تنازلًا فظيعًا مدويًا أبعدها عن صف الحركات الإسلامية العاملة على الأرض لإسقاط النظام في سوريا وجعلها في صف العلمانيين العملاء.

وكذلك في مصر تخلت جماعة الإخوان عن شعارها «الإسلام البديل» عندما وصلت إلى الحكم وأقرت الدستور المصري على ما هو في مواده الأساسية من نظام مدني أي علماني وجمهوري ديمقراطي… وعملت على تطبيقه مدة سنة، وفشلت فشلًا ذريعًا في معالجة أية مشكلة، وتراكمت المشاكل ليستغلها المتربصون بها، وأضجر الناس منها ونزعوا ثقتهم من قدرتها على الحكم، فتمكنت الأطراف الأخرى مع الجيش بإسقاطها من الحكم. وفي الأردن عملت هذه الحركة مثل ذلك حيث تنازلت للملك هناك، وقبلت به ملكًا، وبدستوره دستورًا، وبنظامه الديمقراطي نظامًا، بل دافعت عن كل ذلك أيام الانتفاضة على النظام عام 2011م، ولم تعد تمس الملك ونظامه بأية كلمة أو حركة؛ فأصبحت طوع بنان النظام يأخذها يمينًا، أو يأتي بها شمالًا، أو يطرحها أرضًا حيث؛ مزقها ومن ثم أجبرها على الخضوع لقوانينه الجديدة المتعلقة بتشكيل الأحزاب.

وقد رأينا جماعة الغنوشي في تونس كيف تنازلت عن اسمها وعن برنامجها وأصبحت تقول على لسان قائدها «لا نعمل على تطبيق الشريعة، وإنما على أسلمة المؤسسات»! وذلك تحت الضغوطات حتى يراضي النظام، ويخلي سبيله من السجن، وتسمح له بالعمل بعدما قام بن علي بانقلابه عام 1987م فأخرج من السجن، فكان ذلك بابًا من أبواب التنازل يفتح طريقًا للتنازل إلى ماهو أكبر من ذلك. وجاء التنازل المدوي عندما أعلن عن الخروج من الإسلام السياسي والدخول في الديمقراطية والعلمانية تحت مسمى المدنية. وقد قدم التنازل الكبير عندما شارك في الحكم العلماني، ومن ثم تنازل عن الحكم لجماعة بورقيبة العلمانية، وكذلك التنازل الكبير بالاشتراك في وضع دستور علماني مخالف للإسلام. وقال الغنوشي: «نحن ننتمي إلى جيل جديد يمنع فيه قانون الأحزاب والجمعيات والدستور وكذلك قانون المساجد الخلط بين السياسي والديني…» وقال : «هذه المرحلة مرحلة الأيدلوجيات الشمولية بأنواعها، تجاوزناها في تونس وفي العالم…» فهو يعلن أنه يلتزم بقانون شمولي أو مبدئي علماني في الدولة الرأسمالية وضع منذ مئات السنين، بعدما أعلنت الدولة المدنية بعد الإنقلاب على الدولة الدينية في أوروبا والتي كان يحكمها الملوك والقياصرة بالتعاون مع الكنيسة؛ حيث وضع في كافة الدساتير الغربية عدم تأسيس أحزاب على أساس ديني أو أحزاب لا تتبنى فصل الدين عن الحياة. ومن ثم يقوم هو ويتخلى عن مبدئية الإسلام التي أطلق عليها الشمولية ليخضع لشمولية الرأسمالية التي لا تقبل أي مبدأ آخر وتحاربه بضراوة، وتساوي بين الأديان، وتفصلها عن السياسة والدولة، وتجعلها محصورة في الأعمال الخيرية والدعوية أي الوعظ والإرشاد دون الصراع الفكري والكفاح السياسي، ودون أن تعمل للوصول إلى الحكم. وقد صرح الغنوشي قائد حركة النهضة بهذه الأقاويل في مقابلة مع جريدة «الشرق الأوسط» نشرتها يوم 1\6\2016م ليؤكد فيها على علمانيته بفصل الدين عن السياسة، بعدما أعلن خروج حركته من الإسلام السياسي لتدخل في العلمانية لتكون حركة مدنية ديمقراطية أي علمانية.

وقال في المقابلة عندما طلب منه «تفسير الاهتمام الدولي الكبير بمؤتمر حزب النهضة وحضور مئات الدبلوماسيين والإعلاميين والضيوف العرب والأجانب لافتتاحه إلى جانب حضور رئيس تونس وزعيم التيار البورقيبي العلماني الباجي السبسي ومئات العلمانيين والليبراليين واليساريين التونسيين»!! كما ورد في سؤال الصحيفة، وكل هؤلاء جاؤوا ليباركوا للغنوشي وحركته بالخروج من النور إلى الظلمات، فقال الغنوشي :»… ومشاركة رئيس الدولة في افتتاح مؤتمر حركة النهضة تؤكد ما جاء على لسانه من كون حركتنا تطورت فعلًا من حركة إسلامية شمولية إلى حزب مدني وطني متصالح مع الدولة والمجتمع اللذين تبنيا في دستور 2014م بوضوح أن الإسلام دين الدولة والغالبية الساحقة من شعب تونس». علمًا أن هذا الدستور علماني، وأن الإسلام دين الدولة هي عبارة مستعملة في جل الدساتير العربية، حيث لا تعني أن الدستور مستمد من الإسلام وأن الدولة تستند إلى الإسلام، وإنما تعني أن تراعي الدولة المراسيم الإسلامية من أعياد وعطل رسمية تتعلق بهذه الأعياد، وما يتعلق بأماكن العبادة ومراقبة المساجد وتعيين أئمتها وخطبائها ليوجهوا الناس نحو وجهة الدولة، وكذلك بعض النواحي الاجتماعية فيما يسمى بالأحوال الشخصية. ولكن أنظمة الحكم والاقتصاد والنظام الاجتماعي والسياسات التعليمية والخارجية والعسكرية والأمنية الداخلية والقضاء مفصولة عن الدين ولا تستند إلى العقيدة الإسلامية. مع العلم أن مجلة الأحوال الاجتماعية في تونس مستمدة من القوانين العلمانية الغربية.

وقد نقلت صحيفة «لوموند» الفرنسية يوم 19/5/2016م تصريحات راشد الغنوشي مؤسس ورئيس حركة النهضة التونسية التي تتعلق بخروج حركته من الإسلام السياسي لتتحول إلى حزب مدني أي علماني فقال: «نحن نؤكد أن النهضة حزب سياسي ديمقراطي ومدني له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية. نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية» وقال: «نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المسلمة. نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نعرّف أنفسنا بأننا (جزء من) الإسلام السياسي» ويؤكد على فصل الدين عن السياسة قائلًا: «نريد أن يكون النشاط الديني مستقلًا تمامًا عن النشاط السياسي. هذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلًا مهتمين بتوظيف الدين لغايات سياسية، وهو جيد أيضًا للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفًا من قبل السياسيين». فذلك سقوط ما بعده سقوط!

وهناك أمثلة أخرى عن الحركات في العراق والسودان وتركيا والباكستان وغيرها من البلاد الإسلامية، والتي تنازلت عن اسمها وعن برنامجها وعن فحوى خطابها أو نوعه أو لهجته، ومن ثم عن ثوابتها وأفكارها الإسلامية. ومنها من اشترك في الحكم تحت حراب الأميركان الغزاة في العراق، وعمل على تطبيق الدستور الذي وضعه الأميركان كحزب الدعوة وكالحزب الإسلامي الذي يمثل الإخوان، وكذلك في أفغانستان حيث الأحزاب وقبولها بالمساعدات الأميركية والسعودية لتقع تحت ضغوطاتها أيام احتلال السوفيات أو بعده بعدما وصلت إلى الحكم. وكل ذلك يبعد الإسلام عن الوصول إلى الحكم، ويبقي سيادة الكفر قائمة، وكذلك أنظمة الكفر من مدنية أي علمانية وديمقراطية ونظام جمهوري وغير ذلك من الأنظمة التي أقامها المستعمر عندما غير شكل أسلوب استعماره ليبقى مهيمنًا على البلد بهذه الأنظمة ورابطًا إياه به بحيث لا ينفك عنه قيد شعرة، ويقوم بتحقيق ذلك عن طريق العملاء والمتنازلين الذين يحفظون له هذا الوضع الذي أقامه بيديه الآثمتين، ويحول دون سقوطه بواسطتهم علمًا أنه ساقط حكمًا، ودليل ذلك رفض الشعوب لهذه الأنظمة وقيامها بالثورات لإسقاطها وبحثها عن البديل. وتلك الحركات تظن أنها تحسن صنعًا وأن ذلك هو العقلانية وهو الحكمة وقمة العقل!

ويأتي التساؤل هنا: لماذا يحدث مثل ذلك؟
قلنا في كتاب التكتل الحزبي إن من أسباب فشل الحركات التي قامت لنهضة الأمة «أنها كانت تعتمد على أشخاص لم يكتمل فيهم الوعي الصحيح، ولم تتمركز لديهم الإرادة الصحيحة، بل كانوا أشخاصًا عندهم الرغبة والحماس فقط».
فيندفع القائمون على هذه الحركات بحماس حتى إذا أفرغوا جهدهم وحماسهم، وقد طالت الطريق ولم يتحقق الهدف بسرعة، وبدأوا يواجهون الأذى والمشاقات والعوائق والعقبات التي تحول دون تحقيق الهدف بسرعة؛ فعندئذ يتجهون نحو التنازل باحثين عن ذرائع مثل مصلحة الأمة، ومصلحة الدعوة، ومصلحة العاملين فيها، والظروف والأوضاع التي تسمح، واتباع الحكمة والعقلانية، والتدرج في التطبيق، وخداع العدو، وغير ذلك. فأصحاب الإرادة الصحيحة يتخذون قضيتهم حياة أو موت، فلا يتراجعون قطعًا ولا يتنازلون؛ لأنهم على قناعة بصحة مبدئهم، ولم ينطلقوا إلا بعد وعي صحيح وكامل وتام، فلم يندفعوا عن حماس وتأثر بالواقع وبالأجواء، وإنما عن وعي وإدراك كاملين، فهم واثقون كل الثقة بما هم عليه، فكما قال الله لرسوله: )فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ( وطلب منه أن يقول للجميع إنه على وعي كامل وليس مجرد حماس وليست حركة عابرة فقال تعالى: )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(. ونستطيع أن نقول أن هذه الآية لخصت ماهية الحزب الإسلامي؛ من حيث له قائد وأتباع على فكره، ولهم سبيل واضح أي طريقة واضحة، وهدفهم واضح؛ فدعوتهم هي إلى الله لا إلى شيء آخر، أي لنشر دينه وتحكيمه في الأرض، ويدعون على بصيرة، أي عن وعي وإدراك تامين، ولا يستعينون إلا بالله؛ فلا يشركون معه أحدًا.

ولا يقعون تحت الضغوطات والإغراءات التي تعتبر سرابًا، فيكتشفون أنها كانت خداعًا وقد خسروا كل شيء. فكما قال تعالى: )وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (. فعرض نظام قريش في مكة الملك والمال والجاه والنساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله ثبته فلم يتنازل قيد أنملة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: „والله يا عمَّاه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه“ معلنًا مبدئيته وثباته حتى الموت، متخذًا قضيته قضية سيادة الإسلام قضية حياة أو موت أي قضية مصيرية. وقد حذره الله إن ركن إلى ما يقولون فإنه سيذوق عذاب الدنيا والآخرة ولا يجد نصيرًا.
وذكرنا في كتاب التكتل الحزبي أن من أسباب فشل تلك الحركات „ أنها لم تعرف طريقة لتنفيذ فكرتها، بل كانت تسير في وسائل مرتجلة وملتوية، فضلًا عن أنه كان يكتنفها الغموض والإبهام“. مع العلم أن الله قد أوحى لرسوله الطريقة لتنفيذ الفكرة، فعندما قال سبحانه وتعالى ) لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا( فهناك الشريعة والمنهاج أي الطريقة التي ستتبع في تنفيذ الفكرة. فقد ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية: „والشرعة هي الشريعة بعينها… وأما المنهاج فإن أصله الطريق البين الواضح… فمعنى الكلام: لكل قوم منكم جعلنا طريقًا إلى الحق يؤمه، وسبيلًا واضحًا يعمل به“. أي لكل أمة من الأمم التي جاءها رسول من الله شريعة وطريقة واضحة يعمل بها الرسول ومن تبعه. علما أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وطريقته هي المهيمنة والناسخة لكل الشرائع والطرق؛ لأنه ورد في بداية الآية: )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ( فالكتاب قد احتوى العقيدة والشريعة والطريقة. فالعقيدة واحدة عند كل الأنبياء“. ولكن الشرائع والطرق مختلفة، وآخرها شريعتنا وطريقتنا التي أوحاها الله لرسوله، وقد اتبعها هو وصحبه الكرام، فثبتوا عليها حتى أتاهم نصر الله ولم يتزحزحوا عنها قيد أنملة، ولم يحيدوا عنها قيد شعرة. وتفاصيل هذه الطريقة موجودة في السيرة النبوية؛ فهي طريق إلى يوم القيامة كالشريعة الباقية إلى يوم القيامة تحمل وتطبق. وقد طلب الله الثبات على الشريعة والطريقة والاستقامة عليهما من دون أي خروج عنهما قائلًا: )فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (وحذره صلى الله عليه وسلم ومن معه كما حذرنا نحن؛ حيث إن الخطاب للرسول هو خطاب لنا ما لم يرد تخصيص، بل ورد هنا تأكيد على التعميم عندما ذكر ) وَمَنْ تَابَ مَعَكَ (، فقد حذرنا من عدم الثبات على الطريقة ومن الخروج عنها وعن الشريعة بقوله: ) وَلَا تَطْغَوْا (. وأعلمنا أنه بصير بما نعمل وأنه يراقبنا، وعقب بذلك في زيادة من التحذير ألا نتجه إلى الظالمين ونستعين بهم متوهمين أن ذلك سيحمينا أو سيعجل بالنصر فقال عز وجل:) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (. فالركون إلى الظالمين أي الاستعانة بهم أو التحالف معهم أو الرضوخ لمطالبهم فحرمته حرمة شديدة تودي بصاحبها إلى النار، ولن يتحقق له النصر؛ فلن يكون معه الله ولن ينصره. والظالمون سيستخدمونه ويستنفذون منه أهدافهم ويرمونه على قارعة الطريق ذليلًا مخذولًا.
وذكرنا في كتاب التكتل أن من أسباب إخفاق تلك الحركات „أن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يضطلعون بعبء الحركات لم تكن لديهم رابطة صحيحة سوى مجرد التكتل الذي يأخذ صورًا من الأعمال، وألفاظًا متعددة من الأسماء“. ولذلك لا يضير هذه الحركات أن تبدل اسمها وشكلها وخطابها، فالقائمون عليها لا تربطهم الرابطة المبدئية الراسخة، وإنما هي مجرد تكتل أي تجمع يجمع أفرادًا متحمسين يقومون بأعمال معينة، ويتلفظون بألفاظ مختلفة غير مضبوطة؛ فيمكن أن يغيروا ألفاظهم كما يغيروا اسمهم.

ونلاحظ أن هذه الحركات لم تتبنَّ أفكارًا محددة ومبلورة، ولذلك ذكرنا في كتاب التكتل الحزبي أن من الأسباب الرئيسة في إخفاق الحركات التي قامت وحاولت النهوض بالأمة: „أنها كانت تقوم على فكرة عامة غير محددة، حتى إنها كانت غامضة أو شبه غامضة، علاوة على أنها كانت تفقد التبلور والنقاء والصفاء“. فالحركات التي تدعو إلى الإسلام لا تحدد أفكارها، وتجعلها غامضة أو شبه غامضة؛ فتصبح قابلة للتغير والتكيف مع الظروف والأوضاع ونوع الضغوطات والإغراءات.

لقد اقتضت حكمة الله أن يؤخر النصر ويجعل للكافرين جولات يفوزون فيها إلى حين وهم مهزمون في النهاية؛ حيث قال تعال: ) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (، وعندما يتأخر النصر وتطول الطريق وتزيد المشقة يبدأ الابتلاء، ولذلك أراد الله أن يبتلي المؤمنين ليكشف الكاذبين ويظهر الصادقين، فقال تعالى: ) الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (. واقتضت حكمته أن يميز الخبيث من الطيب حتى ينصر دينه بالصادقين وبالطيبين لا بالخبيثين من انتهازيين ووصوليين وراكضين وراء المصلحة والمنصب، فقال تعالى: ) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( فالأحداث الجسام والمصائب والبلايا العظام تكشف معدن الرجال، ولذلك لا ينصر الله إلا الصادقين، ولا يعز دينه إلا بالصادقين الذين صدقوا وثبتوا على مبدئيتهم الإسلامية ولم يبدلوا ولم يغيروا ولم يتنازلوا حتى يأتي الله بنصره فقال تعالى: ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (. فهم على مبدئيتهم، مقتدون بقائدهم إلى الأبد محمد صلى الله عليه وسلم والذي أظهر مبدئيته بقوله: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».

وفي النهاية ستنهزم المدنية أي العلمانية والديمقراطية وغيرها من مبادئ الكفر، وسيبنتصر مبدأ الإسلام، ويسود الإسلام ويعم الأرض بالخير والأمن والعدل والأمان، ويستخلف الله المومنين الصادقين الثابتين كما قال: ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( وذلك وعد الله ) وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ.

تعليق واحد

  1. جزاكم الله عنا خير الجزاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *