العدد الثامن -

السنة الأولى، العدد الثامن، جمادى الأولى 1408هـ، الموافق كانون الثاني 1988م

فكر إسلامي: إلى المتعلّمين وأصحاب المعارف

ليست النهضة بالعلوم والمعارف

إنما بالفكر الحي

إعداد: هيثم بكر

ينهض الإنسان بما لديه من فكر يعين له وجهة نظر في الحياة وهدفاً لها. ولكن هل يكون هذا الفكر بنشر الكتب وإصدار المجلات والنشرات؟ وهل يكون العمل السياسي لنهضة الأمة، بالتالي، بحثاً ونشراً وتأليفاً؟

انه الفكر الذي يحدّد عملاً ويرسم طريقاً، ويؤثر في العلاقات والنظم والدولة.

ارتفاع فكري

النهضة هي الارتفاع الفكري في حياة الإنسان. فهي ليست ارتفاعاً اقتصادياً ولا روحيّاً، ولا حتى أخلاقياً، وإنما هي الارتقاء بالفكر ليس غير.

فالفرق بين الإنسان الناهض والمتخلّف هو التالي: ما معنى وجوده في الحياة. فإذا كان للإنسان هدف واضح يسعى إليه، ويكرّس حياته له ويناضل من أجل تحقيقه، كان إنساناً ناهضاً يعرف ما يريد، ويعمل لما يريد. وذلك بعكس الإنسان الذي يشعر أنه جاء إلى الحياة قسراً دون يستشيره أحد، وبالتالي لا يعرف لماذا هو موجود، وما هو الهدف الذي وُجد من أجله. مثلُ ذلك الإنسان لا يعرف ماذا يريد، ولا يدري لأي شيء يكرس حياته. ومثل ذلك الإنسان تسيّره حاجاته العضوية وغرائزه، فلا يريد إلاّ ما تمليه عليه هذه الحاجات والغرائز. وبذلك صارت هذه الغرائز محور حياته وهدفه الأمثل: غايته في الحياة “تأمين عيش كريم” له في “المستقبل”، و”ضمان” إشباع حاجاته.

إنسانية الإنسان

والغرائز موجودة عند الإنسان والحيوان سواءً بسواء، وكذلك الحاجات العضوية، أما العقل فمختص بالإنسان، بل أن العقل هو مناط إنسانيّته، وبه فقط يمتاز عن سائر المخلوقات. وبفضل هذا العقل كان أفضل المخلوقات، وكانت تلك مسخّرة له.

فالإنسان الناهض ذاك الذي يحقق “إنسانيّته” في حياته، بمعنى أن يجعل العقل، وهو رمز إنسانيته، أساساً لحياته وهدفاً لها. أما أن تكون حاجاته وغرائزه محور حياته وغايته الأسمى مثل باقي المخلوقات، فإن ذاك انحطاط وغايته الأسمى مثل باقي المخلوقات، فإن ذاك انحطاط ما بعده انحطاط. ولذلك كانت النهضة بالارتفاع الفكري، فإذا ارتفع الفكر، فإن الإنسان حينذاك يهتدي إلى الارتفاع الاقتصادي، وقد لا يهتم أن يرتقي اقتصادياً إذا رأى أن لحياته هدفاً أسمى من جمع الأموال وتحقيق الرفاهية.

سبب تخلّفنا

فإذا أردنا أن نعرف سبب تخلّفنا، فإن الجواب يأتي سريعاً: غرائزنا وحاجاتنا محور حياتنا، ومبلغ همّنا وأسمى هدف عند كلّ منّا هو “تأمين” المستقبل، وتحقيق الأموال، في فرديّة ضيّقة، ولو كانت أمّتنا منحدرة، ولو كان يتحكّم بها ويذلّها ويستغلّها أعداؤها! نعم، أي منا لا يأبه لأمتّه ولا يكترث لها، ولا يكلّف نفسه مجرّد عناء التفكير بمشاكلها فضلاً عن أن يناضل في سبيلها ويكرّس حياته من أجلها. وإن كرًّ منّا ليرضى بالذلّ، ويبتلع الإهانات، ويجتر الهوان في سبيل تأمين “المستقبل” لأبنائه. ورغم علم كل منا أن عزته إنما هي من عزة أمته ليس غير، لكنه لا يريد العزة ولا النهضة ولا يفكر فيهما. أما إذا أردنا النهوض والارتقاء، فعلينا بالفكر.

أساس للحياة

ولكن أي فكر تحصل بارتفاعه النهضة؟

إنه الفكر الذي يصلح أن يكون أساساً للحياة، بحيث يحدّد لها هدفاً، ويشق لها طريقاً نحو هذا الهدف: انه الفكر المتعلّق بوجهة النظر في الحياة. فالفكر (أو التفكير) المتعلّق بالحصول على الطعام فكر، ولكنه غريزي منخفض، والفكر المتعلق بتنظيم الحصول على الطعام أعلى منه، وكذلك الفكر المتعلق بتنظيم شؤون الأسرة أو القوم فإنه أعلى منه أيضاً. أما الفكر المتعلّق بتنظيم شؤون الإنسان باعتباره إنساناً فهو أعلى الأفكار، ومثل هذا الكفر فقط هو الذي يحدث نهضة. وعلى دعاة النهضة إذاً أن ينشروا هذا الفكر ويجعلوه أساساً لغيره من الأفكار، وأن يجعلوا العلوم والمعارف مبنيّة عليه وآخذة الدرجة التالية من الاهتمام، حتى يستطيعوا أن يحدثوا نهضة في المجتمع.

أفكار حيّة

والذي يتبادر إلى الذهن من نشر الفكر هو تأليف الكتب وإصدار الصحف والمجلاّت، كطريقة لنشر الفكر، وبالتالي كطريقة للنهضة. وقد يظن البعض أن غزارة الإنتاج في هذا المضمار إنّما هو دليل عافية ودليل نهضة. لكن الواقع ليس كذلك، فالكتب والصحف والنشرات ليس إلا أدوات ووسائل ليس غير، ولا تُحدث نهضة جماعية، وإنما توجد أفكاراً عند من يقرؤها ليس غير. وإذا اقتصر الأمر على إصدار الكتب والمجلات (وهذه المجلة لا تخرج عن هذا الإطار)، توجد لذّة، وقد يوجد علماء ولكن لا توجد نهضة.

وحتى تكون نهضة، لا بد أن تكون هذه الأفكار متداولة، وأن يحصل فيها النقاش، وأن تُربط بالواقع وتُبنى عليها الأعمال. ولذلك لا بد من الاتصال الحي بين من يعطي هذه الأفكار وبين من يتلقاها، ليتمكّن من قرأها من لمس واقعها، ووضع الأصبع على هذا الواقع، ولحثّه على التحدث بها والعمل لإيجادها رأياً عاماً في المجتمع، وفي العلاقات وفي الدولة.

فالفكر، فردياً كان أو جماعياً (رأي عام)، هو ذاك الذي ينبني عليه عمل، ويترتّب عليه توّجه معنيّ. هذا هو الفكر الحي الذي يصلح أساساً للنهضة. وليس الفكر مجرّد تأمّلات وافتراضات في الفضاء، لا يترتب عليا عمل ولا ترشد إلى القيام بعمل، بل لا بد من أن تكون حية متداولة ومؤثرة، بحيث تؤثر في العلاقات والأنظمة. وفرق كبير بين أن تكون نهضة فكرية، وبين أن يكون متعلّمون ومؤلفون وأصحاب أبحاث.

فلا بد من الاتصال الحيّ إلى جانب الكتب، وغلى جانب المتعلّمين. وهذا يؤدي إلى أن تتحوّل هذه الأفكار إلى تشريع وإلى دولة، فتنتقل الأفكار إلى التطبيق العمليّ.

بعد الطريق الفكري، فيجتمع الطريقان معاً دولة وقوانين تقوم بالنهضة في المجتمع، وأفكاراً تُنشر متبوعة بالاتصال الحي فردّياً وجماهيرياً معاً في وقت واحد، لتسير بالمجتمع الناهض الذي يحمل رسالة النهضة إلى غيره من المجتمعات. ولذلك يصل الأمر إلى ذروته من السمو والارتفاع.

طريق خاطئ

والناظر في العالم الإسلام، أو ما يسمونه اليوم بالشرق الأوسط، يلاحظ أنه بدأ يتحسّس النهضة منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حين بدأت استنابول ـ وهي حاضرة الخلافة الإسلامية ـ تحاول أن تقتبس الأفكار التي تظنّ أنها سبب نهضة أوروبا. ثم أصبح هذا التحسّس بعد ذلك واقعاً عمليّاً في أوائل القرن التاسع عشر، بعد غزوة “نابليون” لمصر، وجلوس محمد علي على عرشها واقتطاعه إيّاها من جسم الدولة الإسلامية بواسطة عمولته لفرنسا.

ثم صار أخذُ ما يُظنّ أنّه أفكار توجد النهضة عاماً في البلاد، منذ أن دُكّ عرش الخلافة وحُطمت الراية الإسلامية، وبسط الكفار المستعمرون سيطرتهم على جميع بلاد الإسلام. وها قد مضى نيّف وستون عاماً، ومع ذلك وحتى هذه الساعة لم تحصل نهضة، وإنما وجدت بعض المعارف والعلوم ليس إلاّ.

ولهذا، فقد آن الأوان أن يُدرك أهل هذه البلاد بعد محاولاتهم التي دامت قرنين من الزمان، أن الطريق الذي يسيرون فيه من دراسة العلوم والمعارف وحدها لا توجد نهضة، وأنه قد آن الأوان لأن يبحثوا عن طريق يكون من طرق النهضة فعلاً، وأن يتركوا الطريق التي يسلكون بعد أن أصبح إخفاقها يقيناً مقطوعاً به.

نور يضيء الظلمات

لا بدّ من العودة إلى حكم الإسلام، وإلى جعله أساساً فكرّياً للنهضة. فقد نهض العرب في الماضي على أساس الإسلام، بأن اعتنقوا عقيدته وحملوا أفكاره وطبّقوها في دولة يحاربون دونها. وحملوا رسالة النهضة ـ الإسلام ـ نوراً يضيء ظلمات العالم، ومُنْقذاً للبشرية من دياجير الشرك الجاهلية. ولذلك أقبل باقي الأمم على هذه الرسالة، واعتنقوها وجاهدوا لحملها. وما انحدر المسلمون إلا بعد أن ضعف فهم الإسلام لديهم، فأخذوا يقتبسون من غيره نظماً وقوانين وأفكاراً يظنّونها طريقاً إلى النهضة وموصلاً لها وما هي كذلك، ولا يزالون يتخبّطون، ولا يزال أعداءهم يتحكّمون بهم دون أن تقوم لهم قائمة.

فهل آن للناس، ولا سيما المتعلمين، أن يدركوا ما هي النهضة، وأن يفكروا في الأفكار التي تقوم على أساسها النهضة بعد أن تحسّسوا الكيفيّة التي تبثّ فيها الأفكار لإيجاد النهضة بإتباع نشر الأفكار بالاتصال الحي من أجل أن تلمس الأمة واقعها، وتحث على العمل لإيجادها.

لا جرم أنه قد آن الأوان لذلك، ولا سيّما بعدما جرّب المسلمون كل الطروحات منذ العام 1955 في تلك المرحلة المشاعرية الكاسحة التي شملت الدول العربية، ثم برز للواعين السراب الخادع الذي كانت تنشره بمختلف أساليب الدجل. ولعمري أن ذلك وحده كاف لأن يوقظ من الغفلة، وأن يلفت النظر بقوّة إلى تلمّس الهدى.

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *