العدد الثامن -

السنة الأولى، العدد الثامن، جمادى الأولى 1408هـ، الموافق كانون الثاني 1988م

فكر إسلامي: بين المتكلمين والرد عليهم

أشار ابن القيم في كتابه “أعلام الموفقين عن رب العالمين” [ج1، ص55] إلى اختلاف الصحابة في مسائل الأحكام العملية دون أصول العقائد فقال: قد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المسلمين وأكمل الأمة إيماناً، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات مانطق به الكتاب العزيز والسنة النبوية كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم.

وحكى الكرابيسي أن الشافعي رحمه الله سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال: سل عن هذا حفصاً الفرد وأصحابه أخزاهم الله.

وقد حدث البغدادي في “الفرق بين الفرق” [ص 14] فقال: ثم حدث في زمن المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر والاستطاعة من معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم، وتبرّأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وابن عباس، وأنس بن مالك وعبد الله بن أوفى، وعقبة بن نافع الجهني وأقرانهم.

ويقول ابن خلدون في مقدمته [ص 325]: فأما السلف فغلّبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. وهذا معنى كثير منهم: اقرأها كما جاءت، أي آمنوا بأنها من عند الله ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له.

نشأ علماء فقه وحديث وعلماء كلام. أنكر علماء الفقه والحديث على علم الكلام وعلمائه، ولم يستطع علماء الكلام أخذ موقف معادٍ من علماء الحديث والفقهاء المجتهدين، أهل الأثر، لسلامة عقيدتهم وشدّة تقواهم. كان علمهم للعمل فأرشدوا الأمة للعمل بما طُلب وأريد منها. أما علماء الكلام فكان علمهم من باب الترف الفكري والجدل السفسطائي وخاضوا فيما لم يُطلب منهم فكانوا كثيري الكلام. كثيري الشك، تكلّفوا العلم الذي لم يعلّمه الله العباد، فلم يزدادوا منه إلا بعداً. وقد أدرك ذلك جلّة من علماء الكلام في أواخر أيامهم وعادوا عما نُهُوا عنه، وعادوا إلى العب الصحيح من مناهل الإسلام الصافية. ومن هؤلاء العلماء الإمام الغزالي، الذي يقول في “إحياء علوم الدين” [ج1 ـ ص38]: فقد عرفت العلم والمحمود والمذموم، مثار الالتباس، وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف، أو تتدلى بحبل الغرور وتتشبه بالخلف. فكل ما ارتضاه السلف من العلوم قد اندرس. وما أكبَّ الناس عليه فأكثره مبتدع ومُحدث. وقد صح قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. فقيل ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي والذين يحيون ما أماتوه من سنتي» وفي آخر « هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم».

ويقول الإمام الجويني بعدما رجع عن علم الكلام في “الرسالة النظامية”: “لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق، وهرباً من التقليد. والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق. وكان يقول لأصحابه: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام. فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به.

أما الإمام الرازي، فله كتاب في رجوعه عن علم الكلام يسمى” أقسام اللذات”، يقول فيه: “لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً. ورأيت أقرب الطريق طريقة القرآن: أقرّ في الإثبات (الرحمن على العرش استوى) (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (هل تعلم له سمياً). وأقر في النفس (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(ولا يحيطون به علماً(هل تعلم له سمياً). ثم قال: من جرّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي.

ونذكُر في هذا المقام، أن أبا الحسن الأشعري كان في بادئ الأمر معتزلياً على يد الجبائي، ثم اتخذ له مذهباً آخر وهو ما سماه مذهب (أهل السنة والجماعة) الكلامية، ومن ثم يقال انه ترك مذهبه هذا إلى مذهب ابن حنبل وسجّل كتاباً في ذلك أسماه: “الإبانة عن أصول الديانة”. وقد شكك أتباع الأشعري الذين بقوا على مذهبه الوسط بصحة نسبة هذا الكتاب إلى أبي الحسن الأشعري لأنه يخالف مذهبهم.

وهذا المنهج الخاطئ (منهج المتكلمين) دعا كثيراً من علماء المسلمين لأن يقفوا منه موقف الرافض. وسنذكر غيضاً من فيض مما ذكر عنهم.

يقول احمد بن حنبل رحمه الله: من ضيق علم الرجل أن يقلّد في اعتقاده رجلاً. [ “تلبيس إبليس” ص95]. ويقول : لا يفلح صاحب الكلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه رحل دغل (أي ريبة) [ “جامع بيان العلم” لابن عبد البر ص156].

ويقول كذلك: لا تجانسوا أهل الكلام وإن ذبّوا عن السنّة [ “مناقب الإمام أحمد بن حنبل“، ص 156].

وكان الإمام أحمد يكره الكلام ويمنع منه ويغضب لسماعه، ويأمر باتباع الأثر ويقرأ: ]وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال[ [ “طبقات الحنابلة“، ج2 ص270].

وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف [ “إحياء علوم الدين“، ج1، ص95].

يقول الإمام مالك بن أنس: الكلام في الدين أكرهه. ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل. وأما الكلام في الدين وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إليّ. لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل. [ “جامع بيان العلم” ص95].

ويقول الإمام مالك: أو كلّما جاء رجل أجد من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام لجدل هؤلاء. [ “جامع بيان العلم” لابن عبد البر ص95].

وقال سحنون صاحب الإمام مالك: من العلم بالله السكوت عن غير ما وصف به نفسه. [ “جامع بيان العلم“، ص95].

وقال الحسن البصري: قال مطرف وهو من سادات التابعين: الحمد لله الذي من الإيمان به الجهل بغير ما وصف به نفسه. [ “جامع بيان العلم” ص97].

ولما مرض الشافعي دخل عليه حفص الفرد فقال له: من أنا؟ فأجابه الشافعي: حفص الفرد لا حفظك الله ولا رعاك حتى تتوب مما أنت فيه.

وقال الشافعي أيضاً: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفرّوا منه فرارهم من الأسد. [ “إحياء علوم الدين” ص95].

وقال الشافعي: إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد أنه من أهل الكلام ولا دين له. [ “تلبيس إبليس” ص96].

ويقول أيضاً: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله: لئن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام. [ “آداب الشافعي ومناقبه” لأبي حاتم الرازي ص182].

ويقول الشافعي أيضاً: حكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام. [ “تلبيس إبليس” ص96].

وكان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء. ويقول أحدهم إذا خالفه صاحبه قال كفرت. والعلم أن يقال فيه أخطأت. [ “آداب الشافعي ومناقبه” ص185].

وعن معمر بن سليمان عن جعفر عن رجل من علماء أهل المدينة قال: إن الله علّم عِلمه العباد، وعَلِمَ علماً لم يُعلّمه العباد، فمن تكلّف العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعداً. قال والقدر منه. [“جامع بيان العلم” ص96].

قال ابن عبد البر: أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع، في جميع الأمصار، في طبقات العلماء. وإنما العلماء أهل الأثر والفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم. [ “جامع بيان العلم” ص95].

وقال أيضاً: ليس في الاعتقاد كلّه في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله أو صح عن رسول الله أو أجمعت عليه الأمة. وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه. [“جامع بيان العلم” ص96].

وقال أبو عبد الله محمد بن خويز منداد المصري المالكي في الكتاب “الشهادات في تأويل قول مالك“: لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء. قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام. فكل متكلم هو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تُقبل له شهادة في الإسلام، أبداً ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها. [ “جامع بيان العلم” ص96].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *