الأمة كيان حيٌّ لا يموت… وقبل المولود لا بد من مخاض
3 ساعات مضت
المقالات
38 زيارة
عبد المحمود العامري – ولاية اليمن
إن ما أصاب أمة الإسلام من تصدع وتمزق لم يكن صدفة، بل كان نتيجة هزة عنيفة أطاحت برأس الأمة، الخلافة فانهارت المنظومة السياسية، وتعطلت أجهزة الحكم، وتكسرت الأوصال. فوقعت الأمة كعملاق أُسقط أرضاً شاخصةً عيناها، منخسفاً صدغاها، واعتقد كثير من الجهلة والخونة أن هذا العملاق قد مات إلى الأبد، لكن الحقيقة أن قلب الأمة لا يزال نابضاً لم يتوقف، ولم يمت.
إن هدم الخلافة لم يكن حدثاً عابراً في التاريخ، بل كان أخطر كارثة سياسية حلّت بالأمة الإسلامية منذ بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فغيابها يعني تعطيل أحكام الإسلام، وإقصاء الشريعة عن الحكم، وتمزيق وحدة الأمة، وتسليم رقابها للكافر المستعمر.
كيف تم الهدم؟
كانت الخلافة العثمانية، رغم ما أصابها من ضعف في أواخر عهدها، هي آخر مظلة سياسية تجمع المسلمين تحت راية واحدة، وتحكمهم بشرع الله وتدافع عن ديارهم. ومع دخول القرن العشرين، تكالبت قوى الكفر بقيادة بريطانيا وفرنسا، وبدعم من عملائهم في الداخل، على تفكيك هذه الدولة. وأخطر أدواتهم كان مصطفى كمال عليه لعنة الله والناس أجمعين الذي نفّذ مشروع الإلغاء بعد الحرب العالمية الأولى. فبعد أن أعلن نفسه قائداً للجيش التركي، وقاد حملة «تحرير وهمية»، انقلب على الخليفة وألغى الخلافة رسمياً في 3 آذار/مارس 1924م، بقرار من البرلمان التركي، وسُجن وطُرد كل من عارضه.
من أسباب هدم الخلافة العثمانية
نقول إن ما جرى من إلغاء رسمي للخلافة على يد عميل الإنجليز مصطفى كمال، لم يكن مجرد قرار سياسي، بل زلزالاً حضارياً هز كيان الأمة، بعد أن تآمرت عليها قوى الكفر مستغلة ثغرات قاتلة داخل الجسد الإسلامي، والضعف الداخلي في الدولة وتفكك مؤسساتها، وانتشار الفساد الإداري، وغياب الاجتهاد السياسي والشرعي، واعتماد الدولة على الولاءات الشخصية لا على الكفايات.
ولعل أبرز هذه الأسباب:
1- ضعف فهم الإسلام: أي ضعف فهم المسلمين لدينهم حين انفصلت المفاهيم عن الواقع، وصار الإسلام شعائر بلا نظام حياة، ومواعظ بلا تطبيق عملي، فقد الناس الإحساس بالإسلام كدين منه الدولة. وانحسر الفقه في الطهارة والعبادات، وتُرك الحكم والاقتصاد والاجتماع للهوى والتقليد، فصار الإسلام في أعين الناس فكرة مثالية وحصل القصور، فتحول الإسلام في حياة المسلمين إلى طقوس فردية، لا نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً يحكم الحياة. فغابت الأحكام وتقلصت مظاهر تطبيق الشريعة.
2- دخول الغزو الثقافي الغربي بلاد المسلمين: لم يُطلق الغرب الرصاص، بل أطلق الكتب والمفاهيم والمناهج التي مزقت عقل المسلم. فروّج أن حضارته عقلانية مأخوذة من الإسلام نفسه، وأن الديمقراطية لا تخالف الإسلام! فانخدع بها بعض المفكرين، وبدأت الأمة تنسلخ من عقيدتها وهي تظن أنها تتطور. فدخل الغرب بعقله وقيمه، وأوهم الأمة أن نهضته مأخوذة من حضارتها، وروّج لقيم القومية والديمقراطية والعلمانية، حتى أصبح كثير من المسلمين يدافعون عن أدوات استعمارهم وهم لا يشعرون، وأبرز هذه الدول الغربية (بريطانيا، فرنسا، روسيا) خططت وحرّضت على تفكيك الخلافة العثمانية، وساعدت الحركات الانفصالية، واستغلت أي خلل لضرب الخلافة من الداخل.
3- دور العملاء والجواسيس: أبرزهم مصطفى كمال، الذي استُخدم لهدم الخلافة رسمياً عام 1924م باسم «الإصلاح والتحديث»، بينما هو في الحقيقة وكيل الغرب في تنفيذ مشروع الهدم.
4- عسكرة العمل السياسي: بدل العمل مع الأمة، لجأت بعض الفصائل والقادة إلى استخدام القوة العسكرية كوسيلة للحكم، ما أسقط المعايير الشرعية وعمّق الانقسامات. ففقدت البيعة معناها، ولم تتحقق شروط الحكم الشرعي، وبدأ الانحدار مع ضعف الأمة وتهميش دورها في المحاسبة والنصرة.
5- التساهل وتغاضي الخلفاء عن انفصال الولايات بالاستقلال عن مركز الخلافة، كما حصل في الشام والأندلس، ما أدى تدريجياً إلى نزع قدسية الوحدة السياسية الإسلامية، وتمهيد الطريق لثقافة «الدولة القُطرية» التي استكمل الغرب ترسيخها بعد إسقاط الخلافة رسمياً عام 1924م، فصارت الأمة مقطعة بلا راعٍ، ولا دولة تجمعها، ولا جيش ينصرها.
6- منح صلاحيات مفرطة للولاة وتوسيع صلاحياتهم: إعطاء الولاة سلطة واسعة دون رقابة، فتح شهوتهم للسيادة، فاستقلوا بقراراتهم، وتمردوا على مركز الخلافة وتحولت الولايات إلى دويلات. هكذا سقطت وحدة الدولة، وتهيأت الساحة لأعداء الإسلام للتدخل، والسيطرة، ثم الهدم. فأطماع الحكم والتوسع جعلتهم يتصرفون كملوك مستقلين، ففُقدت هيبة الخليفة.
7- استخدام المفاهيم الإسلامية الخاصة بالقيادة العسكرية والتغافل عن المفاهيم الفكرية وخاصة في الفتوحات العثمانية، حيث تم التركيز على التوسع العسكري دون تربية الأمة على مشروع الإسلام الفكري والسياسي، فغابت الغاية من الرسالة وحمل الدعوة الإسلامية.
8- إغلاق باب الاجتهاد: جمد الاجتهاد في مسائل الدولة والمجتمع، وتوقف العقل عن الإبداع في إطار الإسلام.
9- التخلف العلمي والصناعي: في الوقت الذي تقدّمت فيه أوروبا، تراجعت الدولة العثمانية، فتعمق الشعور بالدونية والانهزام الداخلي.
10- خسارة الأراضي بلا رد: تجرأ الأعداء على اقتطاع أراضٍ من الدولة الإسلامية كإيران والبلقان والجزيرة، دون رد يذكر، فاهتزت صورتها داخلياً وخارجياً.
11- تزييف الوعي العام للأمة وتسهيل الغزو التنصيري: تحت شعارات «الإنسانية والتعليم والمساعدات»، فتسلل التبشير النصراني، ينشر الفتنة ويجند أبناء الأمة ضد دينها وأمتها من خلال نشر أفكار التغريب، والتعليم الأوروبي، والمفاهيم الليبرالية والديمقراطية، وتم تصوير الخلافة بأنها «تخلّف وظلم».
12- تصاعد النعرات القومية: أُثيرت النعرات القومية (العربية، التركية، الكردية، الأرمنية…) وتم تأسيس حركات انفصالية تُحمل المسلمين شعار «الاستقلال» و»التحرر»، فاستُبدلت برابطة العقيدة رابطة الدم والعرق، بينما الهدف تمزيق الخلافة.
13- التغلغل اليهودي والصهيوني: كان لليهود دور فعّال في دعم مشروع التمزيق بتمويل وتخطيط ودعم أوروبي كامل، واستغلالهم كأدوات للهدم من الداخل.
14- غياب الحزب السياسي المبدئي القائم على الإسلام آنذاك: حيث كان المسلمون بلا تكتل سياسي واعٍ يعمل على منع الانهيار أو إعادة البناء مباشرة.
15- الخيانة من بعض الزعامات المحلية: من أبرزهم (الشريف) حسين الذي تحالف مع بريطانيا فيما يسمى الثورة العربية الكبرى، مقابل وعود كاذبة بإنشاء «مملكة عربية» فكان أحد المعاول لهدم الخلافة.
16- الحرب العالمية الأولى: دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا فهُزمت، وكانت تلك الذريعة الكبرى لتقسيم تركتها، ومن ثم القضاء على ما تبقى من كيان الخلافة وكان دور بريطانيا المباشر هو الدور الأبرز في هدم الخلافة، فقد دعمت الحركات القومية، وزرعت العملاء، وروّجت للأفكار الغربية عن الوطنية والدولة المدنية. وقام اللورد كرزون وزير خارجيتها، بعد هدم الخلافة، بقوله الشهير في البرلمان البريطاني: «لقد قضينا على تركيا، ولن تقوم لها قائمة بعد اليوم، لأننا قضينا على قوتها الروحية: الخلافة والإسلام».
بعد هدم الخلافة… من خان ومن أضل؟
بعد أن أسقطت دولة الخلافة، انفتح الباب أمام الاستعمار الكافر ليعيث في الأمة فساداً، ويُعيد تشكيل خارطتها السياسية بما يخدم مصالحه. وقد ثبت بالتاريخ والوثائق أن الحركات القومية والوطنية كانت رأس الحربة في هذه الجريمة، فبدل أن تدافع عن وحدة الأمة وعزتها، خدمت الأجنبي، ومزّقت الأمة، وحاربت الإسلام باسم «التحرر» و»الاستقلال»!
لقد ثبت بالتواتر السياسي أن هذه الحركات، من قوميين عرب وفرس وأتراك، ومن دعاة «الاستقلال الوطني»، لم تكن سوى أدوات بيد الاستعمار تنفّذ مخططاته، وتزرع الانقسام، وتُضفي الشرعية على أنظمة لا تمت للإسلام بصلة. فالأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة تكشف حجم المؤامرة الدولية والمحلية على الإسلام والمسلمين، وتوضح أن ما جرى لم يكن مجرد انتقال سياسي، بل عملية مدروسة لهدم الإسلام من جذوره، ومن أهم هذه الأسرار:
1- صناعة عملاء بثوب وطني: الغرب بقيادة بريطانيا، لم يلغِ الخلافة بيده، بل صنع شخصيات «وطنية» كمصطفى كمال، ألبسوه عباءة التحرر والاستقلال، بينما هو ينفذ مشروع إلغاء الحكم الإسلامي. فبريطانيا كانت وراء الستار وهو وأتباعه كانوا أداتها، والوثائق البريطانية تثبت تنسيقه معهم والدعم الكامل الذي تلقاه. وحتى اليوم يعترف بعض ساسة الغرب أنهم «ألغوا الخلافة بأيدٍ مسلمة».
2- تحالف الغرب مع الحركات القومية والعلمانية: تم ترويج القومية التركية والعربية لتحطيم الوحدة الإسلامية. فالقومية فرّقت، بينما كانت الخلافة توحّد. وتم دعم هذه الحركات بالمال والإعلام والتدريب. فلم تكن الكارثة الكبرى في تاريخ الأمة الإسلامية، سوى نتيجة لمخطط شيطاني نفذته أدوات خبيثة تنكّرت بلبوس الوطنية والقومية، فمزّقت الأمة إلى دويلات، وأحالت الدولة الجامعة إلى كيانات ممزقة، بلا قيادة، بلا مشروع، بلا كرامة.
3- الهجوم الفكري قبل السياسي: تم ضرب مفهوم الخلافة في عقول المسلمين قبل إلغائها. رُوّج لفصل الدين عن الدولة، وتم تحريف معاني الجهاد، والشورى، والخلافة، حتى أصبح المسلمون لا يدركون قيمتها.
4- توقيت الإلغاء كان مدروساً: بعد إنهاك الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، واحتلال أراضيها، وفرض معاهدة لوزان المهينة، أعلنوا إلغاء الخلافة في 3 آذار/مارس 1924م مستغلين ضعف المسلمين.
5- سكوت العلماء وخذلانهم: كثير من العلماء سكتوا أو باركوا، أو اشتغلوا بالفروع، بينما رأس الإسلام يُقطع. وقلة من العلماء نددوا فتم نفيهم أو قتلهم.
6- قمع الإسلام وتجفيف منابعه بعد الإلغاء: أغلق مصطفى كمال المدارس الشرعية، حوّل المساجد إلى متاحف، منع الأذان بالعربية، وكتب القرآن بالحروف اللاتينية، وألغى الحجاب علناً، واستبدل بالشريعة القانون السويسري!
7- الخوف من نهضة الأمة مجدداً: الغرب يدرك أن الإسلام لا يموت، فكان لا بد من إلغاء الخلافة ومحاربة من يعمل لها حتى لا تكون نقطة انطلاق من جديد. واليوم ما زالوا يرتعدون من مجرد الحديث عن الخلافة.
قامت عدة حركات لعودة الخلافة ولكنها أخفقت حيث إنها حاولت إحياء الأمة بعيداً عن منهج الإسلام، من قومية ووطنية وعلمانية وديمقراطية… كلها هباء منثور، كمن أراد تقسيم تركة رجل حيّ لم يمت بعد!
والأصل أن المنهج أولاً… فلا قيمة لعمل لا يقوم على أمر الله، ففي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رواه مسلم. هذه القاعدة النبوية الصريحة تُغلق الباب أمام كل عمل لا يستند إلى الإسلام منهجاً وشريعة، مهما بدا ظاهرُه نافعاً أو مبهراً. فهي ميزان لا يُحابي، تزن به الأمة أعمالها، وحركاتها، ومشاريعها، بل وحتى نواياها.
وإذا ألقينا نظرة صادقة على ما قامت وتقوم به حركات التغيير الوطنية أو القومية أو الإقليمية نجد أن الانحراف لم يكن فقط في النتائج، بل في المنطلقات والمنهج ذاته. لم تكن هذه الحركات مخلصةً لله كما يبدو، ولم تنطلق من عقيدة الإسلام، بل من فكر غربي دخيل، صنعه المستعمر، وزيّنه المستغربون.
فوقفت وتربعت في المستنقع وتريد تغيير المستنقع وهي غارقة فيه وليس الحديث عن هذه الحركات من باب احترام الرأي الآخر أو تقويم جهود الآخرين، بل لبيان الانحراف السافر، والسفه المنهجي، وخطورة سوء العاقبة في الدنيا والآخرة عسى أن يثوب من التبس عليه الأمر من أتباعهم، فيعودوا إلى الجادة، ويرجعوا عن الغيّ قبل فوات الأوان. فهم من رفعوا ويرفعون هذا النظام الرأسمالي لإطالة عمره.
فبعض أفراد الحركات الإسلامية رغم حسن النية، وبعض الجهد، فإن الخلل المنهجي، والانزلاق نحو أنظمة الحكم الجاهلية، أو الاندماج في أدوات النظام الدولي الكافر، قد أفقد الكثير منهم البوصلة فظهرت هذه الحركات واختلفت في المنهج والتصور:
– حركات إصلاحية تسعى لتحسين الواقع دون تغييره جذرياً.
– حركات صوفية وتعبدية انعزلت عن السياسة.
– حركات جهادية واجهت الأخطاء ولكن افتقرت للمشروع السياسي.
– حركات دستورية انخرطت في أنظمة الطاغوت.
– وحركات انقلابية لم تحقق التغيير المنشود بسبب غياب الفكرة السياسية الواعية.
– حركات تراثية كالسلفية وجمعية إحياء التراث.
وهذا الواقع الذي نعيشه اليوم لا يحتاج إلا للتغيير الجذري، وحقيقة لا يوجد غير حزب التحرير الذي يعمل في الأمة وقد تأسس في الخمسينات على يد الشيخ الأزهري العلامة تقي الدين النبهاني رحمه الله، تبنى الحزب طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدولة الإسلامية، فركز على بناء الوعي السياسي، والتثقيف الحزبي، وطلب النصرة من أهل القوة، دون اللجوء إلى العنف، أو الدخول في أنظمة الكفر القائمة. ورفض أي مساومة أو تنازل، واضعاً قول النبي صلى الله عليه وسلم«يَا عَمِّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ»، شعاراً عملياً لمسيرته. ومع أن الأنظمة العميلة سعت لتشويه صورة العمل الإسلامي الجاد، فأنشأت حركات مدجنة تحت عباءة الدين، تُسوّق للأنظمة وتمنع التغيير الحقيقي، بل وتحارب دعاة الحق، فإن حزب التحرير بقي ثابتاً على مبدئه، لم يبدل ولم يتلون، ولم ينحنِ للرياح مهما اشتدت، ولم يستمد مشروعيته من أنظمة الحكم، بل من الإسلام وحده.
إذا إن أي عمل لا يكون «عليه أمر الله ورسوله» فهو مردود. فليكن المنهج الإسلامي الخالص هو نقطة البداية، والبوصلة والطريق. فيكفي تخبطا وسيرا في الطريق المعوج حيث إن محاولات النهضة كانت بين التخبط والتوجيه الاستعماري فلم تكن الكارثة التي حلت بالأمة الإسلامية مع هدم الخلافة وليدة اللحظة، بل سبقتها محاولات كثيرة لوقف التدهور، لكنها كانت كلها محاولات فاشلة لسبب جوهري: غياب الفكرة الصحيحة والطريقة المستقيمة والوعي السياسي الشرعي.
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في كتيب التكتل الحزبي: «منذ القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) قامت حركات متعددة للنهضة… لكنها لم تنجح، وإن تركت أثراً لمن جاء بعدها».
وسبب فشلها كما وضّح:
– لم تُبنَ على فكرة واضحة محددة.
– لم تسلك طريقة مستقيمة.
– لم يقم بها أشخاص واعون.
– لم تتأسس على رابطة شرعية صحيحة.
فبعض الحركات الإسلامية قد حاولت تفسير الإسلام بما يوافق الواقع الفاسد، وتطويعه لتبرير بقاء الأنظمة الوضعية، بدل تغييره بالحق.
لهذا، فإن المراجعة الجذرية لمجمل العمل الإسلامي باتت ضرورة لا رفاهية. وأصبح العدو الحقيقي للإسلام يدرك عودة الخلافة إلى منصة الحكم كما صرح نتنياهو في قوله لا نريد خلافة على شواطئ البحر المتوسط، وكذا من سبقوه من أعداء الإسلام، ففي ظل هذه التصريحات المتكررة لقادة الغرب، وعلى رأسهم هذا النتن حول رفضهم القاطع لقيام الخلافة، يتجلى بوضوح الخوف العميق الذي يعتريهم من عودة الإسلام كقوة سياسية موحدة. وتكرار تصريح النتن مؤخراً بأن «إسرائيل لن تسمح بقيام خلافة إسلامية عند حدودها الشمالية أو الجنوبية، أو في الضفة الغربية»، مؤكداً أن حكومته «لن تتراجع أو تخضع» في هذا الشأن، وهذا التصريح ليس الأول من نوعه، فقد سبق أن أعرب قادة غربيون عن مخاوفهم من عودة الخلافة الإسلامية. على سبيل المثال، حذر توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، في عام 2005 من «حركة تسعى إلى إزالة دولة إسرائيل وإلى إخراج الغرب من العالم الإسلامي وإلى إقامة دولة إسلامية واحدة تحكم بالشريعة الإسلامية عن طريق إقامة دولة الخلافة لكل الأمة الإسلامية»، كما أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كانون الأول/ديسمبر 2002 عن قلقه من أن «الإرهاب الدولي أعلن حرباً على روسيا بهدف اقتطاع أجزاء منها وتأسيس خلافة إسلامية».
هذه التصريحات المتكررة تعكس إدراك هؤلاء القادة بأن الخلافة الإسلامية تمثل تهديداً حقيقياً لمصالحهم في المنطقة، وأنها قد تعيد توحيد الأمة الإسلامية تحت راية واحدة، ما يعزز من قوتها ونفوذها على الساحة الدولية.
وفي المقابل، فإن هذه المخاوف الغربية تؤكد أن فكرة الخلافة الإسلامية ليست مجرد حلم بعيد المنال، بل هي مشروع واقعي وفرض رباني يسعى المسلمون لتحقيقه، مستندين إلى تاريخهم المجيد وتعاليم دينهم الحنيف. وإن الله سبحانه وتعالى قد وعد بنصر عباده المؤمنين فقال: ]وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ[(النور: 55).
لذا، فإن محاولات الغرب إجهاض مشروع الخلافة ستبوء بالفشل، لأن إرادة الله فوق كل إرادة، ولأن الأمة الإسلامية بدأت تستعيد وعيها وتنهض من سباتها، متجهة نحو تحقيق وحدتها واستعادة مجدها وعزتها.
ولن تنجح الأمة في نهضتها، إلا إذا عرفت الفكرة والطريقة والرابطة، وعملت لإقامة الإسلام في دولته، على بصيرة ووعي. فنهضتنا لا تكون إلا بالإسلام، وبطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدولة، لا بالأنظمة القومية ولا بالدعوات المضللة. ولا يخفى على أحد أن الحركات القومية والوطنية هي أدوات الاستعمار وسكين في خاصرة الأمة، فمنذ أن هدمت الخلافة، وسيف الانقسام ينهش جسد الأمة، لم يكن ذلك مصادفة ولا قدَراً محتوماً، بل نتيجة مؤامرة مدروسة، نفذتها قوى الاستعمار عبر الحركات القومية والوطنية، التي لعبت الدور الأبرز في تفكيك وحدة المسلمين وتمزيق دولتهم الجامعة.
وقد أشار كثير من الباحثين المنصفين والمطلعين على كواليس التاريخ إلى أن هذه الحركات لم تكن سوى صناعة استعمارية هدفها القضاء على الإسلام السياسي، وتقديم بديل مشوّه قائم على القومية والحدود المصطنعة. فهؤلاء لم يقيموا أوطاناً، بل زرعوا كيانات وظيفية تخدم العدو وتؤذي الأمة، فهذه الحركات التي ادعت أنها ستحرر الأمة وتقودها، ارتضت بالحكم الذي صنعه الغرب الكافر، فلم تكن إلا خناجر في خاصرتها، ابتعدت عن وحدة المسلمين، وحاربت كل العاملين لعودة الخلافة حسب ما يملى لها من حكام الجور بل وانتشر الجهل والفساد والتبعية…
وبعد مرور قرن على تحكُّمهم المطلق في بلاد المسلمين، وهم ينهلون من ثقافات الغرب الكافر كيف يراهم الغرب الكافر وماذا قدّموا للأمة؟ وماذا خسروا بعد فقدان أمهم الحاضنة؟
الجواب باختصار:
1- تصنيفهم في ذيل الأمم: إن الغرب الكافر صنف جميع تلك الدويلات الكرتونية أنها ما زالت مصنفة كـ»دول العالم الثالث»، عاجزة عن النهوض، منهارة اقتصادياً، غير منتجة علمياً أو صناعياً، بلا أفق حضاري أو مشروع نهضة. أي أصابها الضعف والهوان فظلت عاجزة عن التقدم، تدور في فلك التبعية، بلا مشروع نهضوي حقيقي.
2- الخيانة الكبرى: لم تقاتل هذه الأنظمة أعداء الأمة قط، بل حمت كيان يهود، ودعمته بأموال الأمة وحاربت كل مقاوم وكل حامل دعوة ينهج من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بدل أن تحارب الغزاة. فلم تدخل أي دولة من هذه الدول الكرتونية في حرب جادة مع أعداء الأمة، وإذا تحركت جيوشهم فإما لحماية العروش أو لقمع شعوبهم، أو في مسرحيات حربية انتهت بتوسيع نفوذ الكافر وتقسيم المسلمين أكثر. وهذا ما نراه أمام أعيننا وأكبر دليل على ذلك سكوتهم المخزي عما يفعله كيان يهود في غزة من حصار مطبق وإبادة جماعية.
3- تجفيف منابع الإسلام: وقفوا جميعاً سداً منيعاً ضد دعاة التغيير الحقيقي، وشيطنوا كل عمل إسلامي يهدف لإقامة الشرع، وشرعنوا الفساد السياسي والاجتماعي كتحلل الأخلاق والدين وازدادت أعداد تاركي الصلاة ومانعي الزكاة، وارتفعت معدلات السفور والانحلال، وتفشى الفساد بأنواعه حتى أصبح الإسلام غريباً في أرضه، وحُورب تحت شعار الوسطية والاعتدال.
4- الانهيار الاقتصادي والفساد المالي: دمرت اقتصادهم الديون الربوية، وتضخمت البطالة، وسُرقت ثروات الأمة وأودعت في بنوك الغرب سرحة بلا رجعة، لا إنتاج، لا اكتفاء ذاتي، لا صناعة حقيقية. فقط تبعية مذلة ومخزية. انهارت العملات، تفشت البطالة، ارتفعت الديون، وسُرقت الأموال العامة، بينما نُهبت موارد الأمة لمصلحة الاستعمار.
ولن تعود الأمة لمكانتها، إلا إذا نبذت هؤلاء الحكام وهذه الحركات وعادت لمشروع الإسلام، تحت قيادة مخلصة واعية، تحمل الإسلام على بصيرة، كما أمر ربنا: ]قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ[[يوسف: 108]
5- تمزيق النسيج المجتمعي: أذكوا نيران الفتن الطائفية والمناطقية، وبثوا الشك والريبة بين شرائح الأمة عبر أجهزة أمنية قمعية تعمل لحماية النظام لا الأمة.
6- الخضوع المطلق للغرب: عملوا جميعاً تحت مظلة الاستعمار الغربي، وانصاعوا لمقرراته وأوامره، وربطوا مصير الأمة بمنظمات كافرة كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، فالمسلمون اليوم ممتهنون يتحكَّم بهم حكام رويبضات قسَّموا بلادهم وحكموهم بالحديد والنار وساموهم سوء العذاب، لاحقوا أشرافهم واعتقلوا الصادقين ومن يعمل لنصرة الدين، وجعلوا البلاد مسرحاً لدول الكفر، وصار المسلمون أرقاماً تتلى بين قتلى ومشردين، وصُنِّفوا باسم العالم الثالث، وتحكَّم بهم صندوق النقد الدولي وشرعة الطاغوت المتحدة تحت قيادة رأس الكفر أمريكا، ولم يبقَ لهم محل بين الأمم والدول، في حين كانت دولتهم هي الدولة الأولى في العالم قرونا مديدة.
إذا هذه الأحزاب والكيانات التي أنشأها الغرب بعد إسقاط الخلافة هي دول ضرار، لا تصلح أن تكون نواة نهضة، ولا حاضنة لحكم الإسلام. بل لا بد من اقتلاعها من الجذور، وإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة على أنقاضها، فهي وحدها القادرة على توحيد الأمة، ورد الكرامة، وتحقيق العدل، ونصرة المستضعفين ولا يخفى على الجميع النتائج الكارثية التي نتجت بعد هدم الخلافة: أبرزها:
1- تمزق الأمة إلى أكثر من 50 كياناً وطنياً هزيلاً، يخضع لحدود سايكس بيكو، تفكك وحدة الأمة الإسلامية ما أضعف قوتها وجعلها عرضة للتدخلات الأجنبية.
-
غياب الحكم بالإسلام وسيادة قوانين الغرب الوضعية، وتعطيل جميع الأحكام الشرعية ما أدى إلى تفشي الظلم والفساد وسفك الدماء دون حسيب أو رقيب.
3- نهب ثروات المسلمين واستباحة بلادهم من فلسطين إلى العراق وسوريا واليمن…الخ خاصة النفط والمعادن، واستُخدمت هذه الثروات لتمويل مشاريعهم، بينما بقيت شعوب الأمة تعاني من الفقر والحرمان.
4- ضياع الهوية الإسلامية وسيطرة فكر قومي ووطني علماني مزّق الولاء والبراء.
5- عدم الاعتصام بحبل الله وأصبح المسلمون متفرقين والله ينادينا ويحثنا ]وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ[
6- فقدان السيادة السياسية: أصبحت الدول الكرتونية في بلاد المسلمين تابعة للغرب في قراراتها السياسية والاقتصادية، وفقدت القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة تخدم مصالح شعوبها.
7- ضاعت فلسطين.
8- فقدت المرأة المسلمة حقوقها التي كفلها لها الإسلام، وأصبحت عرضة للاستغلال والتمييز وسلعة للتجارة.
9- تهميش دور العلماء والدعاة الحقيقيين وإعلاء مكانة علماء السلاطين، ما أدى إلى تضليل الأمة.
10- فقدت الأمة الإسلامية دورها في نشر الإسلام والدعوة إليه، وأصبحت في موقع التلقي لا العطاء.
وهناك العديد والعديد مما فقدناه بعد هدم دولة الإسلام لا يسعنا المجال لسرد ذلك. ]إِنَّهُمۡ يَكِيدُونَ كَيۡدٗا ١٥وَأَكِيدُ كَيۡدٗا ١٦ فَمَهِّلِ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَمۡهِلۡهُمۡ رُوَيۡدَۢا ١٧[ [الطارق: 15-17]
فلا يجوز لمسلم أن يثق بهذه الأنظمة، أو أن ينخدع بشعاراتها، بل يجب أن يضعها في قفص الاتهام، ويُنكر عليها، ويرتبط فقط بمشروع الإسلام، مشروع الخلافة الراشدة على منهاج النبوة ]وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ[ [الحج: 40]
فالواجب الشرعي والسياسي على كل مسلم غيور أن يعمل بجدّ لإعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، كما بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمخاض الذي تمر به الأمة اليوم هو تمهيد لولادة الخلافة الراشدة، وإن هذه المعاناة التي نعانيها هي جزء من سنن الله في التغيير، فيا أبناء أمة الإسلام لا تيأسوا من روح الله، ولا تصدقوا من أعلن موتكم، بل أفيقوا، واصطفوا مع العاملين لإعادة الرأس إلى الجسد، فتقوم الخلافة، ويعود العز، ويتحقق وعد الله بنصره لعباده الصادقين.
]وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ[ [النور: 55]
]إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ[ [غافر: 51]]وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ١٧٣[ [الصافات.
1447-03-09