العدد 469 -

السنة التاسعة والثلاثون، صفر 1447هـ الموافق آب 2025م

كيف تحوّل أمير الجهاد إلى وزير خارجية؟

يوسف أرسلان

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير- في ولاية أفغانستان

تُعد وزارة الخارجية بوصفها مؤسسة لتنظيم السياسة الخارجية ظاهرةً حديثة، تعود نشأتها إلى أوروبا في القرن السابع عشر. وقد دخلت هذه المؤسسة إلى البنية السياسية للعالم الإسلامي خلال فترة انحطاط الخلافة العثمانية، وأحدثت تحوّلًا جذريًا في نظرة المسلمين إلى السياسة الخارجية. تهدف هذه المقالة إلى بيان أن مقاصد السياسة الخارجية في الإسلام – ومنها حمل الدعوة ونصرة المظلومين- لا يمكن تحقيقها من خلال وزارة الخارجية بالشكل المعاصر، لأن هذه المؤسسة قد أُنشئت أصلًا لخدمة النظام العلماني للدولة القومية، وتأمين ما يُسمى «المصالح الوطنية».

تأسست وزارة الخارجية الحديثة لأول مرة في فرنسا عام ١٦٢٦م. وقبل ذلك، كانت الشؤون الخارجية في أوروبا تُدار من قبل البلاط الملكي أو الكنيسة، بدوافع شخصية أو دينية أو سلطوية، لكن مع نشوء الدول القومية وانتشار الأفكار القومية والعلمانية، أصبحت الحكومات بحاجة إلى جهاز رسمي وثابت ومنظم لإدارة علاقاتها الخارجية. ومن هنا، أُسّست وزارة الخارجية بهدف خدمة «المصالح الوطنية»، والتعامل مع النظام الدولي، وإبرام المعاهدات، وتأمين المصالح السياسية والاقتصادية.

وفي المقابل، فإن السياسة الخارجية في الدولة الإسلامية كانت مبنية على العقيدة الإسلامية والرسالة العالمية للإسلام. فقد كانت السياسة الخارجية جزءًا أساسيًا من واجبات الخليفة. ولم يكن هدف هذه السياسة حماية الحدود الاستعمارية، وإنما كان توسيع رقعة الدعوة الإسلامية، وإزالة العوائق من طريقها، وإقامة سلطان الإسلام في العالم.

أما النظام الحديث للدولة القومية، فقد قَيَّد المفاهيم السياسية ضمن الحدود الجغرافية، وقيّد مفهوم الحرب كذلك، ليصبح مقتصرًا على «الدفاع عن الأرض»، ولهذا سُمِّي المسؤول عن الحرب بـ «وزير الدفاع» بدل «أمير الجهاد». بينما في الإسلام، لا يقتصر الجهاد على الدفاع فقط، بل هو في جوهره فريضة ابتدائية لإظهار الدين، وإزالة الفتنة، وإقامة الحق. هذه كانت رسالة الأنبياء، وقد ورثتها الأمة الإسلامية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل من حمل الدعوة أساسًا لسياسته الخارجية، واتخذ من الجهاد طريقًا لذلك، كما قال الله تعالى: (وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ) [البقرة: 193]. إن سياسة الرسول في الدولة، وغزواته، ومراسلاته إلى الملوك، وسياسة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، كلّها تبرهن بوضوح على هذا الأصل الثابت غير القابل للتغيير، وهو أن الأمة الإسلامية يجب أن تقيم الخلافة، وتسيّر سياستها الخارجية على أساس نشر الإسلام من خلال الدعوة والجهاد، لتقود البشرية وتهديها.

في القرن السادس عشر الميلادي، أسّست الخلافة العثمانية أول هيئة رسمية للشؤون الخارجية تحت اسم «رئيس الكُتّاب» أو «رئيس أفندي»، وقد تزامن هذا مع بداية تراجع الخلافة العثمانية، وكانت هذه الهيئة تُدار من قبل نُخب يونانية نصرانية، كانوا من رعايا الخلافة لكنهم لم يكونوا ملتزمين الإسلام، ولم تكن هذه الهيئة ذات أهمية مركزية، بل كانت تُعنى فقط بالمراسلات الخارجية، وبدأت تتوسع تدريجيًا في القرن السابع عشر.

وفي القرن التاسع عشر، وبالتأثر بعصر التنوير الأوروبي، ظهرت نخبة جديدة في الدولة العثمانية من المثقفين المتغربين، أمثال مصطفى رشيد باشا، وعلي باشا، وفؤاد باشا، ومدحت باشا. وقد قام هؤلاء بتأسيس وزارة خارجية على النمط الأوروبي، واقتبسوا من النظم الغربية، ليطلقوا بذلك مرحلة تُعرف بـ»عصر التنظيمات» (1839- 1876م). في هذه الحقبة، تأسست أول وزارة خارجية رسمية في الدولة العثمانية عام 1836م تحت اسم «نظارة الخارجية»، وكان مصطفى رشيد باشا أول من تولاها. ولم يكن فقط وزيراً، بل كان صاحب الدور الرئيس في صياغة «فرمان كلخانة»، الذي أسّس لمرحلة التنظيمات. وكان رشيد باشا يحمل توجهات تجديدية، وتأثر أثناء عمله الدبلوماسي في فرنسا وبريطانيا بالأفكار الليبرالية الغربية.

ويُعد مدحت باشا أحد أبرز رموز هذا التيار؛ فقد كان من أوائل الداعين إلى المشروطية، وأحد مؤسسي الدستور العثماني عام 1876م. وقد سعى هؤلاء «الإصلاحيون» إلى إدخال القيم الليبرالية الغربية في بنية الدولة العثمانية. ومن أبرز سمات «عصر التنظيمات» أنه أزاح الجهاد فعلياً من السياسة الخارجية للدولة، واستبدل به الدبلوماسية والتعامل مع الغرب على أساس المصالح الوطنية.

وفي الفترة نفسها، أُسّست وزارات أخر على النمط الغربي، مثل وزارات الداخلية، والعدل، والتعليم، والمالية، وأُدخل الهيكل البيروقراطي الحديث، وهو ما لا يزال قائماً حتى اليوم في البلاد الإسلامية.

وعلى الرغم من أن السلطان عبد الحميد الثاني الذي تولى الخلافة من سنة 1876 إلى سنة 1909م وقف بقوة ضد هذه «الإصلاحات» وسعى إلى إحياء دور الإسلام في الدولة، فإن العلماء التقليديين لم يمتلكوا حلًا جذريًا لهذا الانحطاط، بل وقفوا ضد أي تغيير، ومن جهة أخرى، فإن النفوذ الأجنبي والدعم الخارجي لحركة المشروطية ساعد على استمرار هذا المسار. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الإصلاحات كانت في ظاهرها تهدف إلى إنقاذ الدولة العثمانية، لكنها في الواقع لم تُنقذها، بل مهدت الطريق لسقوطها واستبدال الجمهورية العلمانية بها.

وقد بلغت حركة المشروطية أوجها بظهور «جمعية الاتحاد والترقي» وشخصيات كـمصطفى كمال المعروف بـ»أتاتورك» الذي عمد إلى إلغاء الخلافة نهائياً عام 1924م، وأعلن قيام الجمهورية العلمانية التركية. ولم يقتصر أثر هذا التحول على تركيا فقط، بل وصل إلى بقية بلاد المسلمين، مثل إيران وأفغانستان.

ففي إيران، تبنّى المشروطيون الإيرانيون المتأثرون بالدستور العثماني والمفكرين المتغربين، عام 1906م صياغة دستور وبرلمان. وكان رضا شاه بهلوي، الذي بدأ عسكريا مخلصا للمشروطية، بعد وصوله إلى الحكم، من أبرز الداعين إلى تحديث الدولة. وقد واصل سياسة تحديث إيران على أساس الاستبداد، ومركزية الدولة، والقومية الفارسية، وإقصاء العلماء عن السياسة. وقد أعاد تنظيم مؤسسات الدولة على النمط الأوروبي، وسار بإيران نحو دولة علمانية، بدعم من بريطانيا والنخبة المتغربة. وهذه الحركة، بما فيها من تأثيرات غربية، هي التي أدت إلى غرق المجتمع الإيراني في مستنقع القيم الغربية حتى اليوم.

أما في أفغانستان، فقد حاول أمان الله خان في عشرينيات القرن العشرين، مستلهماً التجربة التركية نفسها، إصلاح النظام الملكي واستبدال قوانين حديثة به. وكان محمود طرزي، أحد أبرز المؤثرين في هذا التوجه؛ إذ تأثر كثيرا بالحركة الإصلاحية العثمانية، بعد إقامته لسنوات في أراضي الخلافة. وعند عودته إلى أفغانستان، أنشأ مجلات ونشر أفكارًا تجديدية، وكان له دور محوري في تشكيل فكر أمان الله خان وبعض القادة. ويُعد محمود طرزي المؤسس الفكري لحركة المشروطية في أفغانستان، ومن خلاله بدأت عملية تأسيس مؤسسات الدولة على النمط الغربي، بما في ذلك وزارة الخارجية.

وفي عام 1919م، عُيّن طرزي أول وزير خارجية رسمي لأفغانستان، ومن هنا بدأت عملية «علمنة» السياسة الخارجية في البلاد بشكل ممنهج.

إن وزارة الخارجية في بنيتها الحديثة، مؤسسة علمانية، هدفها حماية مصالح الدولة القومية، وتنظيم العلاقات الدولية، والتعامل مع القوى العالمية، سواء أكانت محارِبة أم غير محارِبة. وقد صُممت هذه المؤسسة لخدمة النظام العالمي للدول القومية، وضمن إطار القيم الليبرالية. ولذلك، ليس مستغربًا أن تكتفي وزارات الخارجية في الدول الإسلامية، في أزمات كقضية غزة، بإصدار بيانات إدانة لفظية فقط، من دون أي تحرك عملي.

ونظرًا إلى كون وزارة الخارجية الحديثة قد بُنيت على مفاهيم غربية، فمن الطبيعي أن يتولى قيادتها شخصيات تميل إلى القيم الغربية، وتفتقر إلى العمق الإسلامي، ويغلب عليها منطق المساومة والمصلحة. وهذا المسار ليس حديث العهد، فقد كانت أول هيئة خارجية في الدولة العثمانية تُدار من قبل نخب يونانية نصرانية غير مرتبطة بالإسلام، ثم في القرن التاسع عشر قادها رموز التغريب كرشيد باشا، واليوم تُدار وزارات الخارجية في العالم الإسلامي من قبل أشخاص لا يلتزمون أحكام الإسلام، بل يتقنون تقديم المصالح على المبدأ، ويرون أن الأهداف الإسلامية مجرد شعارات خيالية أو عوائق سياسية.

إن وزارة الخارجية في الدول القائمة في البلاد الإسلامية هي وليدة عصر انحطاط الخلافة العثمانية، ومحصلة مباشرة للفكر العلماني الغربي. وقد جاءت بديلًا من السياسة الخارجية الإسلامية القائمة على إظهار الدين من خلال الدعوة والجهاد. وبهذا، تحولت السياسة الخارجية للأمة من رسالة عالمية إلى دبلوماسية منهزمة، اقتصادية التوجه، ومحصورة داخل حدود الدول القومية.

وما لم تعد الأمة إلى أصل سياستها الخارجية الإسلامية، وتُحيي دور الجهاد في إطار دولة الخلافة، فإن وزارة الخارجية لن تتمكن، بل لن ترغب أصلًا في تنفيذ النهج الإسلامي، حتى لو تزيّا مسؤولوها بلحى وعمائم وألقاب إسلامية!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *