العدد 450-451-452 -

السنة الثامنة والثلاثون، رجب – شعبان – رمضان 1445هـ الموافق شباط – آذار – نيسان 2024م

رمضان شهر العناوين الكبرى والمفاهيم العظمى

محمد سعيد العبود

لقد اختصَّ الله سبحانه وتعالى شهر رمضان المبارك بمزايا وخصائص كثيرة:

 فهو شهر الصيام: وهذه العبادة هي الركن الرابع من أركان الإسلام؛ قال الله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣)، وكما ورد في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». متفق عليه.

وهو شهر القيام: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وهو شهر القرآن: الذي أنزل فيه كما قال الله تعالى: (شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ)، وهو شهر فيه ليلة القدر، ليلة مباركة خير من ألف شهر، قال تعالى: (لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ٣ تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ٤ سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ ٥). وهو شهر يستجاب فيه الدعاء، حيث ذكر الله تعالى آية الدعاء في أثناء آيات الصيام، فقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦).

وهو شهر الذكر وتلاوة القرآن ومدارسته وإتباع ذلك بالصدقات وفعل الخيرات: ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ».

وهو شهر التوبة والغفران: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ».

وهو شهر الجهاد والفتوحات والانتصارات: ففيه نصر الله المسلمين في معركة بدر الكبرى، وفيه كان الفتح الأعظم، فتح مكة البلد الحرام، وفيه انتصر المسلمون على الفرس في معركة القادسية أعظم معارك الإسلام مع الفرس، وفيه فتح المسلمون الأندلس، وفيه معركة حطين وعين جالوت وغيرها الكثير من الفتوحات والانتصارات. فهو شهر جهاد في سبيل الله لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله في الأرض بحمل الدعوة بطريق الجهاد، فهو شهر الدعوة إلى الله بالطريقة الشرعية.

وهو شهر تشع فيه أجواء الإيمان وتبرز فيه مفاهيم الإسلام وتتهيأ النفوس لقبول دعوة الحق، فهو شهر الدعوة وفرصة الدعاة إلى الله.

ومن أهم ما يجب التركيز عليه في الدعوة مفهوم الوحدة الإسلامية التي يوحي بها إثبات رؤية الهلال والتأكيد على وحدة الصيام التي تشيع جوًّا من الوحدة في البلاد الإسلامية؛ حيث تسقط حدود سايكس بيكو من أذهان المسلمين رغم ما تحاوله أنظمة الضرار من تأكيد على هذه الحدود من خلال اصطناع رؤية خاصة بكل بلد وادعاء اختلاف المطالع الذي ثبت بطلانه.

إن مفهوم الوحدة في إثبات رؤية الهلال وتوحيد عبادة الصيام يذكر الدعاة بواجب عظيم أن يبينوا هذا الحكم الشرعي وأن يظهروا دلالته في وجوب العمل لتوحيد الأمة الإسلامية فكريًّا وشعوريًّا بمفاهيم وأفكار الإسلام، وتوحيدها سياسيًّا بتطبيق أحكام وأنظمة الإسلام في دولة واحدة وبيعة إمام واحد بخلافة على منهاج النبوة، تحقيقًا لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ ٩٢).

إن وحدة الصيام من أهم الأحكام التي تؤكد مفهوم وحدة الأمة التي فرض الله عليها أن تعتصم بحبل الله جميعًا ولا تتفرق بعد أن جاءها العلم والبينات من ربها في القرآن الكريم وهدي النبي الأمين محمد عليه الصلاة والسلام؛ حيث يقول الله عز وجل: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡعَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ١٠٣ وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ١٠٥).

وأكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الوحدة فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا». أخرجه مسلم.

وكذلك حديث عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ». رواه مسلم.

وعن عرفجة بن أسعد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ».

هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تقرر أن وحدة الأمة قضية مصيرية، وأنها تراق الدماء دونها وتزهق الأرواح في سبيل الحفاظ عليها، ومن خلال هذه العناوين وما تحمله من مفاهيم، يجب ترسيخ مفهوم رابطة العقيدة الإسلامية وما ينبثق عنها من أفكار ومفاهيم، وإسقاط مفاهيم وروابط القومية والوطنية والإقليمية والإثنية والعرقية وكل الطروحات التي يروج لها أعداء الإسلام التي يراد بها تفريق كلمة المسلمين وتمزيق صفوفهم وهدم كل ما يوحدهم من أفكار وأحكام. ويجب على الدعاة تذكير المسلمين بوحدتهم في دولة الخلافة التي انصهرت فيها شعوب على اختلاف مناطقها ولغاتها وأعراقها وألوانها وأنسابها وذابت فيها كل الفوارق الطبقية والاجتماعية؛ فنجحت في النهوض نجاحًا منقطع النظير لم يحصل له مثيل في الدنيا من قبل أو من بعد، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».

وعلى هذا يجب تغيير الحالة النمطية التي اعتادها الناس في رمضان من خلال الدروس والمواعظ المكرَّرة التي تفرضها الأنظمة لكي لا تغير في ثقافة الأمة شيئًا نحو وحدتها وإقامة دولتها وتحكيم شريعة ربها.

إن الأمة بحاجة إلى الدعوة لإشاعة مفاهيم الوحدة وما يوجدها من بلورة الأفكار والمفاهيم وما يحققها من العمل التكتلي والدعوي ونصرة حملة الدعوة لإقامة الدولة التي تجمع كلمة الأمة لتصبح كلمة الله هي العليا.

وإن العناوين التي تدفع الأمة باتجاه العزَّة والعمل لإعزاز الدين يجب إبرازها وإظهارها وجعلها محور العمل الدعوي في رمضان، حيث الأمة أكثر استعدادًا للاستماع وقبول مفاهيم الإسلام وأفكار الإيمان في جو إيماني يشعُّ في رمضان، كيف لا وهو شهر الصبر والنصر وشهر الجهاد والفتوحات!

فالحديث عن هذه العناوين يبعث في الأمة روح القوة والثبات على دعوة الحق حتى تحقق مبتغاها في نصرة الدين وإقامة سلطان الإسلام، سائلين الله عز وجل أن يعجل تحقيق مسعى المسلمين بالنصر والتمكين لدين الإسلام عبر دولة الإسلام، دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة بإذن الله، إنه سميع قريب مجيب، والحمد لله رب العالمين.

وإننا في هذه المحن التي تمر بالأمة، والتي آخرها إجرام يهود في غزة، متحدِّين كل المسلمين في كل بلادهم، والتي ما زالت مآسيها قائمة، والحكام يقفون بمؤازرة أعداء الله، يمنعون المسلمين من أن يقتحموا الحدود الوهمية التي فرضها الغرب الكافر عليهم، ويمنعون الجيوش من أن تقتحم الحدود وتقاتل يهود، ويتآمرون مع أمريكا ويهود أنفسهم على قتل المسلمين، حتى إن بعضهم، كأردوغان مثلًا، ليمد يهود بالمواد الغذائية ويتذرع أن هناك اتفاقات مسبقة معهم عليها، (وكأنه قبل غزة يجوز أن يمدهم بها) بينما يمد أهل غزة بتأييدهم بتصريحات جوفاء، لا تسمن ولا تغني عن جوع. وابن سلمان الذي لم يقبل أن يلغي حتى احتفالاته الماجنة على أرض الحجاز، والذي ينتظر أن تنتهي مجازر غزة ليستأنف جهوده في إيجاد حالة تطبيع مع يهود. وابن زايد الذي يحتفل مع يهود في أعياد استقلالهم ويمدهم في طغيانهم. إلى الإيراني الذي ترك أهل غزة يموتون ويسحقون معلنًا بذكاء مبتكر، أننا يجب أن نفوِّت على نتنياهو عزمه على توسيع الحرب، ظانًّا أنه غير مفضوح عند الأمة أن موقفه هذا هو موقف أمريكي. إلى المصري الذي يقف موقفًا لم يسبقه إليه أحد من أشباهه بأن يمنع عن أهل غزة الطعام بينما لا يفصلهم عنه إلا جدار، والذي استنفر مخابراته العسكرية والأمنية ضد العسكر وضد الناس ليمنع أي تهديد لنظامه، وأي خرق للاتفاق مع يهود… وهكذا نرى أن لكل حاكم قصته المشؤومة مع الأمة…

والغرب وهؤلاء الحكام يخافون من أن يتحرَّك الناس في رمضان تأييدًا لغزة؛ لذلك يقترحون الهدنة في رمضان ليستأنف القتال بعده، فهل تخوُّف هؤلاء في محله، إن أكثر ما نسمعه في مثل هذه الأوضاع من (مشايخ السلطان): لا نملك إلا الدعاء، بل إننا نملك الدعاء وأكثر: إننا نملك الدعوة وإيقاظ الهمم، واستنفار الشعوب لتتظاهر مظاهرات مليونية تدعو الحكام لاستنفار جيوشها وفتح حدودها، والاقتحام على يهود ديارهم… إننا نملك أن ندعو الجيوش لتفكر بالتغيير على هؤلاء الحكام، بالقيام بتنفيذ أوامر الله لا تنفيذ إرادة الحكام، إننا نملك أن نجعل الأمة تأخذ دورها في إقامة الحكم بما أنزل الله…

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقائع الجارية هي أعلى أنواع الطاعة. والصيام، بما جعل الله فيه من فضل ومن خير، يجعل الأجر مضاعفًا، وفي الوقت نفسه يجعل المسلم يشعر أنه يأثم، وقد يكون إثمه مضاعفًا إذا لم يقم بشيء من ذلكم… إننا علينا أن نجعل من هذا الرمضان فرصة مراجعة حقيقية، فجرح غزة غائر وكبير، فلنجعل من قول (آه) كبيرة تزلزل العروش، وتعيد الحقوق… فلنجعل من رمضان هذا، والذي وضعنا له عنوان أنه (شهرالعناوين الكبرى والمفاهيم العظمى) فليكن ذلك فعلًا وقولًا، فلنسجل ما علينا فعله حتى يسجل من يأتي بعدنا ما قمنا به.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *