العدد 450-451-452 -

السنة الثامنة والثلاثون، رجب – شعبان – رمضان 1445هـ الموافق شباط – آذار – نيسان 2024م

قبس من الحياة العلمية والفكرية في ظل دولة الخلافة الإسلامية

معاوية عبد الوهاب

قال الله تعالى: (الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ١) [إبراهيم: 1]

فسبحان من أخرج هذه الأمة من الظلمات إلى النور، وسبحان من جعل الهدى ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها على يد جنود ودعاة دولة الخلافة، حتى صارت بلاد المسلمين تشعُّ بالفكر والحضارة والنور والهدى من سور الصين إلى جبال البيرينيه. ومن يتأمل تاريخ المسلمين عامة، يصيبه الذهول من هذا الواقع الذي كان نورًا على نور. وسنقف عند شيء من جانب الحياة الفكرية عند المسلمين في ظل دولة الخلافة، يوم كانت لهذه الأمة دولة تحكم بما أنزل الله، لنرى كيف كانت حياتها الفكرية، وكيف كانت حياتها العلمية في شتى العلوم:

* العلماء يرفعهم الأمراء على سرير الحكم!

كانت دولة الخلافة تُعلي شأن أهل العلم وتوقِّرهم، وتفتح لهم المجال لبث علومهم، ونشرها وإذاعتها بين الناس، بل وترفع منزلتهم وتوقرهم وتحترمهم، حتى إن كثيرًا من أهل العلم أجلسهم الأمراء معهم على سرير الإمارة.

فهذا التابعي العالم الجليل أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي، كان مولى لامرأة من بني رياح بن يربوع، ورغم أنه كان مولى فقد كان ابن عباس يرفعه على سرير الإمارة عندما كان ابن عباس واليًا على البصرة، بينما قريش أسفل من السرير، فتغامزت به قريش، فقال ابن عباس: هكذا العلم يزيد الشريف شرفًا، ويجلس المملوك على الأسرة… سِيَرُ أعلام النبلاء للذهبي (7/ 232)

وهذا الفقيه عبدالرحمن بن عسيلة المرادي، بقي إلى زمن الخليفة عبدالملك بن مروان، وكان يجلس معه على السرير.. سير أعلام النبلاء للذهبي (6/ 5)

وكان عطاء بن رباح عبدًا أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلّاء، ودخل ذات يوم على الخليفة عبدالملك وهو جالس على السرير، وحوله الأشراف، فلما بصر به عبدالملك، قام إليه، فسلَّم عليه، وأجلسه معه على السرير… سير أعلام النبلاء للذهبي (9/ 92)

وهذا عبدالله بن أبي زكريا أبو يحيى الخزاعي، كان عمر بن عبدالعزيز يجلسه معه على السرير.. سير أعلام النبلاء للذهبي (9/ 342)

وكان سالم بن عبدالله بن عمر من أوعية العلم ومن أهل الفقه في المدينة المنورة، ودخل مرّة على الخليفة سليمان بن عبدالملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثة، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبدالعزيز في المجلس. فقال له رجل من أخريات الناس: ما استطاع خالك أن يلبس ثيابًا فاخرة أحسن من هذه، يدخل فيها على أمير المؤمنين؟! فقال له عمر: ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثيابك هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك!… سير أعلام النبلاء (4/ 461)

* وقوف الولاة والأمراء بين يدي العلماء:

بلغ من شأن العلم في دولة الخلافة أن الخلفاء والولاة لم يكونوا يرفعون العلماء على سرير الإمارة ليجلسوا إلى جانبهم فحسب، بل كان الخلفاء والولاة والأمراء يجلسون بين يدي العلماء مثلهم مثل أي طالب علم آخر.

فقد جاء أمير المؤمنين سليمان بن عبدالملك، إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى، انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، فلما انصرفوا قال سليمان لولديه: يا بنيّ لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلّنا بين يدي هذا العبد الأسود… العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (5/ 208)

وعندما حج الخليفة هارون الرشيد مشى الرشيد مع مالك بن أنس إلى منزله، فسمع منه الموطأ وأجلسه معه على المنصة، فلما أراد الرشيد أن يقرأه على مالك، قال الرشيد: أخرج الناس عني حتى أقرأه أنا عليك. فقال الإمام مالك: إن العلم إذا منع من العامة لأجل الخاصة لم ينفع الله به الخاصة. وقال له هارون: يبلغ أهل العراق أني سألتك أمرًا من الأمور سهلًا فأبيت علي؟ فقال مالك: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعلك في هذا الموضع، فلا تكنْ أول من ضيع العلم؛ فيضيعك اللّه تعالى، ولقد رأيت من ليس هو في حسبك ونسبك يعز هذا العلم ويجله، فأنت أحرى أن تجله… سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (2/ 204)، فأمر له معن بن عيسى ليقرأه عليه، فلما بدأ ليقرأه قال مالك بن أنس لهارون الرشيد: «يا أمير المؤمنين أدركت أهل العلم ببلدنا وإنهم يحبون التواضع للعلم» فنزل هارون عن المنصة فجلس بين يديه… تاريخ دمشق (36/ 312)

بل بلغ من منزلة العلم في دولة الخلافة أن أولاد الخليفة تنازعوا فيمن يقدم النعل لأستاذه!

فقد كان الخليفة المأمون قد وكل الفرَّاء ليلقن ابنيه النحو، فلما كان يومًا أراد الفرَّاء أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفرَّاء ليقدماها له؛ فتنازعا، أيهما يقدمها له؟ ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما واحدة، فقدماها؛ فلما دخل الفرَّاء على المأمون قال له المأمون: من أعز الناس؟ فقال: لا أعرف أحدًا أعز من أمير المؤمنين، فقال: بلى، من إذا نهض تقاتل على تقديم نعله وليا عهد المسلمين؛ حتى يرضى كل واحد منهما أن يقدم له واحدة، فقال الفرَّاء: يا أمير المؤمنين لقد أردت منعهما، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها، وأكسر نفوسهما عن شريفة حرصا عليها. نزهة الألِبَّاء (ص: 44).

* الكتب والمكتبات

ننقل نموذجًا عن واقع الأمة الإسلامية في الناحية الأدبية (الشعر) في القرن الخامس الهجري، لتدرك كيف واقعها مع القرآن والحديث النبوي والفقه واللغة العربية وغيرها من العلوم الإسلامية.

قال العلَّامة العكبري: كنت أشتري ورقًا بخمسة دراهم فأكتب فيه ديوان المتنبي في ثلاث ليال وأبيعه بمئتي درهم وأقله بمئة وخمسين درهمًا؛ أي ما يعادل تقريبا خمس مئة غرام فضة وسطيًّا؛ فيكون ثمن ديوان المتنبي يساوي تقريبا 250 دولارًا.

 وإنك أخي لتعجب أشد العجب من ثمن ديوان المتنبي وكيف كان الناس يشترونه؛ ولكن انظر إلى الجانب الآخر من الأمر، ألا وهو الحركة الفكرية والحياة الثقافية التي كانت في حياة المسلمين، وكيف أنهم كانوا يبذلون الأموال في سبيل تحصيل الكتب.

وكمثال على الحياة الثقافية في الأمة الإسلامية سابقًا، فقد ذكر صاحب كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، أن مكتبة فردية لأحد القضاة بلغ تعداد الكتب فيها ثماني وستين ألف مجلدة، وحينما أراد نقل الكتب إلى مكان آخر احتاج نقلها إلى ثلاث دفعات، في كل دفعة كانت الجمال التي حملت الكتب تسعة وخمسين جملًا، أي مجموع الجمال التي حملت الكتب مئة وسبعة وسبعون جملًا!! فكم كان عدد الكتب التي عنده؟! هذا في مكتبة خاصة، فما بالك بالمكتبات العامة، في بغداد ودمشق وقرطبة وبقية حواضر العالم الإسلامي؟!

ومن تصفَّح كتاب «كشف الظنون» للعلَّامة حاجي خليفة رحمه الله تعالى، وهو موسوعة في التعريف بما وقعت عينه عليه من الكتب، وقد بلغ عدد أسماء الكتب المذكورة فيه أكثر من ستة عشر ألف كتاب في شتى العلوم من تفسير ودواوين السنة النبوية وشروح للحديث وكتب الفقه والأدب والبلاغة والتاريخ و…إلخ. والكتاب يعتبر دائرة معارف في الكتب والعلوم، ولا بد أنّ المؤلف شاهد هذه الكتب كلها بنفسه، لأنّه يذكر العنوان، وابتداء الكتاب، ونهايته، ويقدم بعض المعلومات عن حياة المؤلف، ويذكر مضمون الكتاب، وأحيانًا يذكر فصوله الرئيسية.

ورغم هذا العدد الضخم من الكتب (ستة عشر ألف كتاب) إلا أنّ من يقرأ في تراجم العلماء مثل سِيَرِ أعلام النبلاء، ووفِّيات الأعلام، وشذرات الذهب، وتاريخ العلماء النحويين. ومن يقرأ في كتب التاريخ التي تمر عرَضًا على ذكر أسماء لبعض العلماء كما البداية والنهاية والكامل، ونفح الطيب، وكتب الطبقات… إلخ، من يقرأ هذه الكتب سيدرك أنّ ما هو مذكور في كتاب «كشف الظنون» ما هو إلا قطرة من بحر من الكتب الإسلامية التي ضاع معظمها، فقد ذكرت كتب التراجم أسماء الكتب التي ألَّفها من ترجموا له من العلماء والأدباء والفقهاء والمفسرين وغيرهم، وكثير من أسماء هذه الكتب لم يذكرها حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون.

والمعلوم أن التتار قاموا بتدمير مكتبة بغداد وحرق عامة المكتبات العامة والخاصة في العالم الإسلامي حتى ضاعت كثير من الكتب.

وحاجي خليفة ألّف كتابه هذا في القرن السابع عشر الميلادي، ومعنى هذا أيضًا أن الكتب المذكورة في كتابه كانت موجودة في القرن السابع عشر الميلادي أي منذ ثلاثة قرون.

فإذا كان التتار قد حرقوا وأتلفوا الثروة الفكرية للأمة الإسلامية في أمهات الكتب؛ فإنّ جريمة الغرب كانت أبشع من جريمة التتار، فالغرب سرق مكتبات المسلمين ونقلها إلى متاحفه، وعلماء الغرب وخاصة فيما يسمى بعصر النهضة قد سرقوا الكثير من علوم المسلمين ونسبوها لأنفسهم، ثم كانت جريمة الغرب الكبرى بحق الفكر الإسلامي؛ حيث عمد الغرب إلى هدْم مفاهيم الحضارة الإسلامية في عقول المسلمين، حتى صار كثير من أبناء الأمة الإسلامية يتنكَّر لتراث الأمة الثقافي والفكري بل وتراه يهاجمه ويطعن به!.

* المساجد جامعات وكليات لجميع العلوم:

من يقرأ في تاريخ المسلمين في ظل دولة الخلافة، فسيرى كيف كانت المساجد بمثابة كليات لشتى أنواع العلوم، ففيها كانت تعقد حلقات العلماء في مختلف أنواع العلوم، الشرعية واللغة العربية والعلوم الدنيوية، بل لقد كان المسجد الأموي بمثابة غوغل اليوم!

فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية (12/120) وهو يصف الجامع الأموي قبل ثمانمئة سنة:

«كانت جدرانه مذهبة ملونة، مرسوم عليها خارطة العالم، ومصور فيها جميع بلاد الدنيا، بحيث إن الإنسان إذا أراد أن يتفرج في إقليم أو بلد وجده في الجامع مصوَّرًا كهيئته، فلا يسافر إليه ولا يعنى في طلبه، وكانت صورة الكعبة ومكة فوق المحراب والبلاد كلها شرقًا وغربًا، كل إقليم في مكان لائق به، بل وأكثر من ذلك فمع كل إقليم تجد صور كل شجرة مثمرة وغير مثمرة في ذلك الإقليم، مصور مشكل في بلدانه وأوطانه»… انتهى

فانظر أخي الكريم إلى ما أبدعه المسلمون في ذاك العصر، يوم كانت للمسلمين دولة تحكم بما أنزل الله، فما بالك واليوم في عصر التكنولوجيا كيف يجب أن يبدع المسلمون عندما تقوم دولة الخلافة الثانية، فيستفيدون من هذه التكنولوجيا المعاصرة، فيخرج من أبناء هذه الأمة فِرَق تتخصص في مختلف العلوم، وتعيد تدوير المدنية المعاصرة من جديد، فتنتج مدنية منسجمة مع طبيعة الحضارة الإسلامية.

وختامًا نقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ» صحيح البخاري (3/ 1080). فوجود الخليفة هو حماية لهذه الأمة من أن تزيغ عن طريق الحق، قال الأبشيهي في المستطرف (1/ 232) «ليس فوق السلطان العادل منزلة إلا نبي مرسل أو ملَك مقرب، وقد قيل إن مثلَه كمثل الرياح التي يرسلها الله تعالى بشرًى بين يدي رحمته، فيسوق بها السحاب، ويجعلها لقاحًا للثمرات وروحًا للعباد».

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *