العدد 446 -

السنة الثامنة و الثلاثون، ربيع الأول 1445هـ الموافق تشرين الأول 2023م

عبدالله بن المبارك

– عبدالله بن المبارك هو أحد أئمة الإسلام المشهورين؛ وكنيته أبو عبدالرحمن. وُلد بمروَ، سنة 118ه وتوفي سنة181ه؛ لعَشْرٍ مضَيْنَ من شهر رمضان، منصرفًا من الغزو في سبيل الله، ودفن بهيت (قرية على نهر الفرات) وله ثلاث وستون سنةً. قال عبدالوهاب بن عبدالحكم: لما مات ابن المبارك، بلغني أن هارون أمير المؤمنين قال: مات سيد العلماء.

 كان والده هو المبارك بن واضح يعمل أجيرًا في بستان، فجاء صاحب البستان يومًا، وقال له: «أريد رمانًا حلوًا»، فمضى إلى بعض الشجر، وأحضر منها رمانًا، فكسره فوجده حامضًا، فغضب عليه، وقال: «أطلب الحلو فتحضر لي الحامض؟ هات حلوًا»، فمضى، وقطع من شجرة أخرى، فلما كسرها وجده أيضًا حامضًا، فاشتدَّ غضبه عليه، وفعل ذلك مرة ثالثة، فذاقه، فوجده أيضًا حامضًا، فقال له بعد ذلك: «أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟»، فقال: «لا»، فقال: «وكيف ذلك؟»، فقال: «لأني ما أكلتُ منه شيئًا حتى أعرفه»، فقال: «ولِمَ لَمْ تأكل؟»، قال: «لأنك ما أذنتَ لي بالأكل منه»، فعجب من ذلك صاحبُ البستان، وسأل عن ذلك فوجده حقًّا، فعظُم المبارك في عينيه، وزاد قدره عنده، وكانت له بنت خُطبت كثيرًا، فقال له: «يا مبارك، مَن ترى تزوَّج هذه البنت؟»، فقال: «أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدِّين»، فأعجبه عقله، وذهب فأخبر به أمها، وقال لها: «ما أرى لهذه البنت زوجًا غير مبارك»، فتزوجها، فجاءت بعبدالله بن المبارك؛ (وفيات الأعيان لابن خلكان جـ 3 صـ 33). قال الحسن بن عيسى مولى ابن المبارك: اجتمع جماعة مِثل الفضل بن موسى، ومخلد بن الحسين، فقالوا: تعالَوْا نعُد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يَعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه؛ (تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 32 صـ: 429). وعدّ الذهبي أسماء من سمع منهم 36 شيخًا، منهم أبو حنيفة ومالك وابن عيينة والليث بن سعد والحمادان… ثم قال: وخلق كثير، وحديثه حجة بالإجماع، وهو في المسانيد والأصول.

  ومن خصاله الحميدةالتي عُرف بها السخاء وكثرة الحج، فإذا جاء وقت الحج: اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك. فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ويكرمهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، حتى يصلوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد منهم، وقد أخرجهم من بغداد، بأحسن زي وأكمل لباس ومروءة، وفي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لكل واحد منهم، ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها؟ فيقول كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يعود إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسرّوا، دعا بالصندوق، ففتحه، ودفع لكل رجل منهم صُرّته وعليها اسمه.

وخرج عبدالله بن المبارك مرةً إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة، وسار أصحابه أمامه وتخلَّف هو وراءهم، فلما مرَّ بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت، فكشف عن أمرها وفحص حتى سألها، فقالت: أنا وأختي ها هنا، ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وقد حُلَّت لنا المـَيتةُ، وكان أبونا له مال عظيم، فظُلم وأُخذ ماله وقُتل، فأمر عبدالله بن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ فقال: ألف دينار، فقال: عُدَّ منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مَرْوَ، وأعطِها الباقي، فهذا أفضل من حجِّنا في هذا العام، ثم رجَع؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 9 صـ 184).

وعن كرمه، فقد عُرف بكثرة الإنفاق، وله تجارة مباركة، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم، وقد جاء إليه رجل فسأله الإعانة بقضاء دينه الذي عليه، فكتب له إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل: كم دينك الذي عليك، وسألت قضاءه؟ قال: سبع مائة درهم، وإذا عبدالله بن المبارك قد كتب للوكيل، أن يعطيه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل، وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبدالله، إن كانت الغلات فنيت فإن العمر أيضًا قد فني، فأجرِ له، سبق قلمي…

وعن رحلته في طلب العلم، فقد طلبه وهو ابن عشرين سنةً، فخرج إلى الحرمين، والشام، ومصر، والعراق، والجزيرة، وخراسان؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 381) قال عبدالله بن المبارك: حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ، فرويتُ عن ألف شيخ؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 397).

 وعن عبادته، قال نُعيم بن حماد: ما رأيت أعقل من ابن المبارك، ولا أكثَرَ اجتهادًا في العبادة؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 405). قال نُعيم بن حماد: كان ابن المبارك يُكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 11 صـ 388).

 وعن جهاده، قال عَبدة بن سليمان المروزي: كنا سريةً مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفانِ، خرج رجل من العدو، فدعا إلى البِرَاز، فخرج إليه رجل، فقتله، ثم آخر، فقتله، ثم آخر، فقتله، ثم دعا إلى البِرَاز، فخرج إليه رجل، فطارده ساعةً، فطعنه، فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرتُ، فإذا هو عبدالله بن المبارك؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 11 صـ 400).

وعن أدبه وتواضعه في العلم، قال أحمد بن سنان القطاني: بلغني أن ابن المبارك أتى حماد بن زيد، فنظر إليه فأعجبه سماعه، فقال له: من أين أنت؟ قال: من أهل خراسان من مرو، قال: تعرف رجلًا يقال له: عبدالله بن المبارك؟ قال: نعم قال: ماذا فعل الله به؟ قال: هو الذي يخاطبك، فقام وسلم عليه ورحَّب به، ثم جلس عنده وأخذ عنه. قال إسماعيل الخطبي: بلغني عن ابن المبارك: أنه حضر عند حماد بن زيد، فقال أصحاب الحديث لحماد: سَلْ أبا عبدالرحمن أن يحدثنا، فقال: يا أبا عبدالرحمن، تحدثهم، فإنهم قد سألوني؟ قال: سبحان الله! يا أبا إسماعيل، أحدِّث وأنت حاضر، فقال: أقسمت عليك لتفعلنَّ، فقال: خذوا، حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد، فما حدَّث بحرف إلا عن حماد بن زيد؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 11 صـ 388). وسُئل ابن المبارك بحضور سفيان بن عيينة عن مسألة، فقال: إنا نُهينا أن نتكلم عند أكابرنا؛ (تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 27 صـ: 64).

وعن علمه الذي يرفع منزلته، قال أشعث بن شعبة المصيصي: قدم الخليفة هارونُ الرشيد الرَّقَّةَ، فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولدٍ لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم، قالت: هذا – والله – المـُلك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 11 صـ 388).

وعن اهتمامه بطلبة العلم، قال حبان بن موسى: عُوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده، قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضلٌ وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعنَّاهم بثُّوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضلَ من بث العلم؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 387).

وعن اشتغاله بالتجارة، قال الفُضيل بن عياض لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، كيف ذا؟ قال: يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصونَ وجهي، وأُكرم عِرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقًّا إلا سارعت إليه حتى أقوم به، قال الفضيل: يا بن المبارك، ما أحسنَ ذا إن تمَّ ذا!؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 11، ص 388).

أقوال السلف في عبدالله بن المبارك:

قال عبدالله بن يزيد بن عثمان الحمصي: قال لي الأوزاعي: رأيتَ عبدالله بن المبارك؟ قلت: لا، قال: لو رأيتَه لقرَّتْ عينُك؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 8 صـ 162). وقال عبيد بن جناد: قال لي عطاء بن مسلم: يا عبيد، رأيتَ عبدالله بن المبارك؟ قلت: نعم، قال: ما رأيتَ مِثلَه، ولا ترى مثله؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 8 صـ 162). و قال عبدالرحمن بن مهدي: ما رأت عيناي مثل أربعة، ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشدَّ تقشفًا من شعبة، ولا أعقلَ من مالك، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 11 صـ 388). وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خَصلةً من خصال الخير، إلا وقد جعلها في عبدالله بن المبارك؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 384). قال يحيى بن معين: كان عبدالله بن المبارك (رحمه الله) كيِّسًا، مستثبتًا، ثقةً، وكان عالِمًا، صحيح الحديث، وكانت كتبه التي يحدث بها عشرين ألف حديث، أو واحدًا وعشرين ألف حديث؛ (تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 32، ص: 431). قال يحيى بن يحيى الليثي: كنا عند مالك، فاستُؤذِن لعبدالله بن المبارك بالدخول، فأذِن له، فرأينا مالكًا تزحزح له في مجلسه، ثم أقعده بلصقه، وما رأيت مالكًا تزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك، فربما مرَّ بشيء، فيسأله مالك: ما مذهبكم في هذا؟ أو: ما عندكم في هذا؟ فرأيتُ ابن المبارك يجاوبه، ثم قام فخرج، فأُعجِب مالكٌ بأدبه، ثم قال لنا مالك: هذا ابن المبارك، فقيهُ خراسان؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8، ص 421).  قال أحمد بن حنبل: لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه؛ (تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 32، ص 407)، وقال علي بن المديني (شيخ البخاري): انتهى العلم إلى رجلين؛ إلى عبدالله بن المبارك، ثم مِن بعده إلى يحيى بن معين؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 11، ص 400).  قال محمد بن سعد: سمع عبدالله بن المبارك علمًا كثيرًا، وكان ثقةً، مأمونًا، إمامًا، حجةً، كثير الحديث؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 7، ص 342).

 ومن أقواله:

سئل عبدالله بن المبارك: ما ينبغي للعالم أن يتكرَّم عنه؟ قال: ينبغي أن يتكرَّم عما حرَّم الله تعالى عليه، ويرفع نفسه عن الدنيا، فلا تكون منه على بال.

–  قال حبيب الجلاب: سألت ابن المبارك: ما خيرُ ما أُعطي الإنسان؟ قال: غَريزة عقل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: حُسن أدب، قلت: فإن لم يكن؟ قال: أخٌ شفيق يستشيره، قلت: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: موتٌ عاجل.

–  قال عبدالله بن المبارك: عجبتُ لِمَن لم يطلب العلم، كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة؟! 

– قال عبدالله بن المبارك: من بخل بالعلم، ابتلي بثلاث: إما موت يُذهب علمه، وإما ينسى، وإما يلزم السلطان، فيَذهب علمه.

– قال عبدالله بن المبارك: رُبَّ عمل صغير تُكثِّره النية، ورُبَّ عمل كثير تُصغِّره النية.

– قال في قوله تعالى: (لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ). قال: أخلصه وأصوبه، قيل: ما أخلصه، وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل. وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل؛ حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنَّة.

– إذا ظهرت الغيبة ارتفعت الأخوَّة في الله.

– لأعلمنَّك كلمة هي خير لك من الدنيا وما فيها: والله لئن علم الله منك إخراج الآدميين من قلبك حتى لا يكون في قلبك مكان لغيره لم تسأله شيئًا إلا أعطاك.

– ما أحب عبدٌ الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكر الناس أحدًا عنده بخير.

– من عشق الرياسة فقد تودع من صلاحه.

– أهل الفضل هم أهل الفضل ما لم يروا فضلهم.

– لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة، وإنما أدرك بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة.

– رُبَّ ضاحك، وأكفانه قد خرجت من عند القصار.

– من خاف الله لم يضرَّه أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد.

– سئل ابن المبارك: مَنِ الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين.

– عن عبدالله بن المبارك أنه كان يتمثل:

ركوب الذنوب يميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها.

– قال عبدالله بن المبارك رحمه الله: وما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخًا في الله.

– روي عن ابن المبارك رحمه الله أنه قال: تَركُ فِلسٍ من حرام أفضل من مائة ألف فلس أتصدق بها.

– قيل لابن المبارك رحمه الله: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب.

– قال ابن المبارك رحمه الله:

اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت ريحا مستريحًا

وإذا هممت بالنطق فى الباطل، فاجعل مكانه تسبيحًا.

– لا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظنَّ أنه قد علم فقد جهل.

– كاد الأدب يكون ثلثي الدين.

– اترك فضول الكلام توفق للحكمة.

– اترك فضول النظر توفق للخشوع.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *