العدد 446 -

السنة الثامنة و الثلاثون، ربيع الأول 1445هـ الموافق تشرين الأول 2023م

هل بات العلماء بيضة القبان؟ (2)

عبد الرحمن العامري – اليمن

بين سفيان الثوري والخليفة المهدي:

قال الإمام سفيان الثوري: لما حجَّ المهدي قال: لا بد لي من سفيان، فوضعوا لي الرصد حول البيت، فأخذوني بالليل. فلما مثلت بين يديه قال لي: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمرنا؟ فما أمرتنا من شيء صرنا إليه، وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه. فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟، قال: لا أدري، لي أمناء ووكلاء. قلت: فما عذرك غدًا إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـمَّا حجَّ قال لغلامه كم أنفقت في سفرنا هذا؟. قال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر دينارًا. فقال: ويحك أجحفنا بيت مال المسلمين. وقد علمت ما حدثنا به منصور عن الأسود بن علقمة عن ابن مسعود أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قال: «رُبَّ متخوِّض في مال الله ومال رسوله فيما شاءت نفسه له النار غدًا» فيقول أبو عبيد الكاتب: أمير المؤمنين يستقبل بمثل هذا؟ فيجيبه سفيان بقوة المؤمن وعزة المسلم: اسكت، إنما أهلك فرعون هامان وهامان فرعون. (المسند للأستاذ أحمد شاكر : الجزء الأول  _ وفيات الأعيان 2/387).

وهذا موقفٌ ثانٍ له:

في يوم قال الخليفة المهدي للخيزران: أريد أن أتزوج، فقالت له: لا يحلّ لك أن تتزوج عليّ، قال: بلى، قالت له: بيني وبينك من شئت. قال: أترضين سفيان الثوري؟ قالت: نعم. فوجَّه إلى سفيان فقال: إنّ أم الرشيد تزعم أنه لا يحل لي أن أتزوج عليها، وقد قال تعالى: (فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ) ثم سكت، فقال له سفيان: أتمَّ الآية، يريد قوله تعالى: (فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً) وأنت لا تعدل. فأمر له بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها. (وفيات الأعيان 2\389).

وهذا موقف ثالث له:

قال القعقاع بن حكيم: كنت عند المهدي، وأتى سفيان الثوري كبير علماء المسلمين في عصره، فلمَّا دخل عليه سلّم ولم يسلّم بالخلافة، والربيع قائم على رأسه متكئ على سيفه يرقب أمره، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال له: يا سفيان، انظر هاهنا وهاهنا، أو تظن أن لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟. قال سفيان: إن تحكم فيّ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع له: يا أمير المؤمنين، أهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ أتأذن لي أن أضرب عنقه؟. فقال له المهدي: اُسكت! ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلَّا أن نقتلهم فنشقى لسعادتهم! اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم، فكتب عهده ورفعه إليه، فأخذه وخرج ورمى به في دجلة وغاب عن أنظار الناس، فطُلب في كل بلد فلم يوجد، فتولَّى القضاء مكانه شريك النخعي.(تذكرة الحفاظ 1/160 وفيات الأعيان 2\390).

وهذا موقف رابع له:

دخل على أبي جعفر المنصور، العالم الجليل سفيان الثوري، وسأله أن يرفع إليه حاجته فأجابه: اتَّقِ الله، فقد ملأت الأرض ظلمًا وجورًا، فطأطأ المنصور رأسه ثم أعاد السؤال عليه، فأجابه: إنما نزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعًا، فاتَّقِ الله وأوصل إليهم حقوقهم، فطأطأ المنصور شاكرًا ثم كرّر السؤال؛ ولكن سفيان تركه وانصرف. (الإحياء الجزء الخامس ص120).

بين حمّاد بن سلمة ومحمد بن سليمان:

قال ابن سليمان، دخلت على حماد بن سلمة فإذا ليس في البيت إلا حصير، وهو جالس وفي يديه مصحف يقرأ فيه وجراب فيه عملة ومطهرة يتوضأ منها، فبينما أنا جالس إذ دُقَّ الباب. فقال حمّاد: يا حبيبة اخرجي فانظري من هذا؟. فقالت: رسول محمد بن سليمان إلى حمَّاد بن سلمة، فأذن له بالدخول. فقال بعد أن سلّم: أما بعد فصبّحك الله بما صبّح به أولياءه وأهل طاعته. وقعت مسألة فأتينا نسألك عنها، والسلام. فقال: يا حبيبة، هلم الدواة.

ثم قال لي: اقلب كتابه واكتب: أما بعد: فأنت صبّحك الله بما صبّح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون لأحد، فان وقعت لك مسألة فأتِنا وسلْ ما بدا لك، وإن أتيتني فلا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك، ولا أنصح إلا تقيًّا، والسلام. فبينما أنا جالس إذ دُقَّ الباب. فقال: يا حبيبة فانظري من هذا؟. قالت: محمد بن سليمان. قال: قولي له يدخل وحده، فدخل وجلس بين يديه وبدأ. فقال: ما لي إذا نظرت فيك امتلأت منك رعبًا؟.  قال حمّاد: حدثني ثابت البناني قال سمعت أنسًا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكنز الكنوز هاب من كل شيء». فقال: ما تقول _ رحمك الله _ في رجل له ابنان وهو على أحدهما أرضى، فأراد أن يجعل له في حياته ثلثي ماله؟.

فقال حماد: لا يفعل _ رحمك الله _ فاني سمعت أنسًا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله أن يعذب عبدًا من عباده في حياته وفَّقه إلى وصيّة جائرة». فعرض عليه مالًا فلم يقبل وخرج. (الإسلام بين العلماء والحكام ص99).

بين صالح المرّي والمهدي:

بعث المهدي إلى صالح المرّي، قال صالح: فلما دخلت عليه قلت: يا أمير المؤمنين، احمل لله ما أكلمك به اليوم، فإن أولى الناس بالله أحملهم لغلظة النصيحة فيه، وجدير بمن له قرابة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرث أخلاقه ويأتمَّ بهديه، وقد ورثك الله من فهم العلم وإنارة الحجة ميراثًا قطع به عذرك. فمهما ادّعيت من حجة، أو ركبت من شبهة لم يصحَّ لك فيها برهان من الله، حلَّ بك من سخط الله بقدر ما تجاهلته من العلم أو أقدمت عليه من شبهة الباطل. واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خصم من خالف أمته، يبتزها أحكامها، ومن كان خصم محمد صلى الله عليه وسلم كان الله خصمه، فأعدَّ لمخاصمة الله ومخاصمة رسوله حججًا تضمن لك النجاة، أو استسلم للهلكة. واعلم أن أَبطأَ الصرعى نهضة صريع الهوى، وأنَّ أثبتَ الناس قدمًا يوم القيامة آخذهم بكتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فمثلك لا يكابر بتجديد المعصية ولكن تمثل له الإساءة إحسانًا، ويشهد عليه خونة العلماء، وبهذه الحبالة تصيدت الدنيا نظراءك، فأحسن الحمل فقد أحسنت إليك الأداء. فبكى المهدي ثم أمر له بشيء فلم يقبله. وحكى بعض الكتاب أنه رأى هذا الكلام مكتوبًا في دواوين المهدي ( وفيات الأعيان 2/494).

بين الإمام مالك وجعفر بن سليمان:

سُعي بالإمام مالك إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وهو ابن عم أبي جعفر المنصور وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرّده وضربه بالسياط، ومُدَّت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمرًا عظيمًا، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة. وذكر ابن الجوزي في (شذور العقود) في سنة سبع وأربعين ومائة وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطًا لأجل فتوى لا توافق غرض السلطان. (وفيات الأعيان 4/137).

بين الفضيل بن عياض والرشيد:

قال الفضيل بن الربيع: كنت بمنزلي ذات يوم وقد خلعت ثيابي وتهيأت للنوم، فاذا بقرع شديد على بابي، فقلت في قلق: من هذا؟. قال الطارق: أجب أمير المؤمنين، فخرجت مسرعًا أتعثر في خطوي، فإذا بالرشيد قائمًا على بابي وفي وجهه تجهّم حزين، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أرسلتَ إليّ لأتيتك. فقال: ويحك، قد حاك في نفسي شيء أطار النوم من أجفاني وأزعج وجداني، شيء لا يذهب به إلا عالم تقي من زهادك، فانظر لي رجلًا أسأله. ثم يقول ابن الربيع: حتى جئت به إلى الفضيل بن عيَّاض. فقال الرشيد: اِمضِ بنا إليه، فأتيناه، وإذا هو قائم يصلي في غرفته وهو يقرأ قوله تعالى: (أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ٢١). فقال الرشيد: إن انتفعنا بشيء فبهذا. فقرعت الباب. فقال الفضيل: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين. فقال: ما لي ولأمير المؤمنين. فقلت: سبحان الله، أما عليك طاعته؟ فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كفُّ الرشيد كفي إليه. فقال: يا لها من كفٍّ ما ألينها إن نجت من عذاب الله تعالى غدًا!. قال ابن الربيع فقلت في نفسي ليكلمنَّه الليلة بكلام نقي من قلب تقي، فقال الرشيد: خذ فيما جئناك له يرحمك الله.

فقال الفضيل: وفيما جئت وقد حمّلت نفسك ذنوب الرعيّة التي سمتها هوانًا، وجميع من معك من بطانتك وولاتك تضاف ذنوبهم إليك يوم الحساب، فبك بغَوا وبك جاروا، وهم مع هذا أبغض الناس لك وأسرعهم فرارًا منك يوم الحساب، حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم أن يحملوا عنك سقطًا (جزءًا) من ذنب ما فعلوه، ولكان أشدهم حبًّا لك أشدَّهم هربًا منك. ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب ورجاء بن حيوة، وهو ثلاثة من العلماء الصالحين، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليّ. فعدّ الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة.

فقال سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم عندك أخًا، وأصغرهم عندك ابنًا، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنَّن على ولدك. وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فأحبّ للمسلمين ما تحبُّ لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت، وإني أقول لك يا هارون إني أخاف عليك أشدّ الخوف يومًا تذل فيه الأقدام فبكى هارون. قال ابن الربيع:  فقلت اُرفق بأمير المؤمنين.

فقال: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟ ثم قال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيّتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة». فبكى الرشيد. ثم قال: هل عليك دين؟ فقال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي.

قال الرشيد: إنما أعني دين العباد. فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا، وقد قال عز وجل: (وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ ٥٧ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ٥٨). فقال الرشيد: هذه ألف دينار خذها وأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك. قال: سبحان الله. أنا أدلُّك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا. قال ابن الربيع: فخرجنا من عنده. فقال هارون الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلَّني على مثل هذا، هذا سيّد المسلمين اليوم. رواه البخاري في كتاب الإيمان. (سير أعلام النبلاء 8/378).

بين شعيب بن حرب وهارون الرشيد:

قال شعيب بن حرب: بينما أنا في طريق مكة، اذ رأيت هارون الرشيد، فقلت في نفسي: قد وجب عليك الأمر والنهي فقالت لي: لا تفعل فإن هذا رجل جبار ومتى أكرهته ضرب عنقك. فقلت في نفسي: لا بد من ذلك. فلما دنا مني صحت: يا هارون، قد أذيت الأمة وأتعبت البهائم، فقال: خذوه. ثم أدخلت عليه وهو على كرسي وفي يده عمود يلعب به. فقال: ممن الرجل؟ فقلت: من أفناء الناس. فقال: ممن ثكلتك أمك؟. قال: من الأبناء. قال: وما حملك أن تدعوني باسمي؟. فقلت: أنا أدعو الله باسمه فأقول يا الله، يا رحمن، وما ينكر من دعائي باسمك، وقد رأيت الله سمى في كتابه أحب الخلق اليه محمدًا، وكنى أبغض الخلق إليه أبا لهب. فقال: أخرجوه. (وفيات الأعيان 2/470 ).

بين منذر بن سعيد والخليفة الناصر:

لقد أقبل الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله على عمارة الزهراء أيما اقبال، وأنفق من أموال الدولة في تشييدها وزخرفتها ما أنفق، وهي في حقيقة حالها مجموعة من القصور الفاخرة. وكان يشرف بنفسه على شؤون البناء والزخرفة حتى شغله ذلك ذات مرّة عن شهود صلاة الجمعة، وكان منذر بن سعيد يتولَّى خطبة الجمعة والقضاء، ورأى – خروجًا من تبعة التقصير فيما أوجبه الله على العلماء – أن يلقي على الخليفة الناصر درسًا بليغًا يحاسبه فيه على إسرافه وإنفاقه في مدينة الزهراء، ورأى أن يكون ذلك على ملأ من الناس في المسجد الجامع بالزهراء. فلما كان يوم الجمعة اعتلى المنبر والخليفة الناصر حاضر والمسجد غاصّ بالمصلين وابتدأ خطبته فقرأ قوله تعالى: (أَتَبۡنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةٗ تَعۡبَثُونَ ١٢٨ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخۡلُدُونَ ١٢٩ وَإِذَا بَطَشۡتُم بَطَشۡتُمۡ جَبَّارِينَ ١٣٠ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ١٣١ وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيٓ أَمَدَّكُم بِمَا تَعۡلَمُونَ ١٣٢ أَمَدَّكُم بِأَنۡعَٰمٖ وَبَنِينَ ١٣٣ وَجَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ ١٣٤ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ١٣٥)[الشعراء: 128-135] .

ثم مضى في ذم الإسراف على البناء بكل كلام جزل وقول شديد، ثم تلا قوله تعالى: (أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٩) [التوبة: 109].

وراح يحذر وينذر ويحاسب حتى ادَّكر من حضر من الناس وخشعوا وأخذ الناصر من ذلك بأوفر نصيب، وقد علم أنه المقصود به فبكى وندم على تفريطه. غير أن الخليفة لم يحتمل صدره لتلك المحاسبة العلنيّة ولشدة ما سمع، فقال شاكيًا لولده الحكم: والله لقد تعمّدني بخطبته وما عنى بها غيري، فأسرف عليّ وأفرط في تقريعي… ثم استشاط غيظًا عليه متذكّرًا كلماته وأراد أن يعاقبه لذلك!!. فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة جمعة، وجعل يلزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة؛ ولكن لما رأى ولده الحكم تعلق والده بالزهراء والصلاة في مسجدها العظيم قال له: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة به إذا كرهته؟ ولكن الناصر زجره قائلًا: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه (لا أمّ لك) يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعًا مثل منذر في ورعه وصدقه؛ ولكن أحرجني فأقسمت، ولوددت أن أجد سبيلًا إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي منذر بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله، فما أظن أنا نعتاضُ منه أبدًا. ولما اشتدت الفجوة بين الشيخ منذر بن سعيد والخليفة عبد الرحمن نتيجة محاسبة المنذر له في إسرافه على بناء الزهراء، أراد ولده الحكم أن يزيل ما بينهما فاعتذر له عند الخليفة.

فقال: يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح وما أراد إلا خيرًا، لو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك (ويريد بالبنية هنا القبة التي بناها الناصر بالزهراء واتخذ قرامدها من فضة وبعضها مغشى بالذهب، وجعل سقفها نوعين صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة يستلب الأبصار شعاعها). فلما قال له ولده ذلك أمر ففرشت بفرش الديباج وجلس فيها لأهل دولته. ثم قال لقرابته ووزرائه: أرأيتم أم سمعتم ملكًا كان قبلي صنع مثل ما صنعت؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنك الأوحد في شأنك. فبينما هم على ذلك، إذ دخل منذر بن سعيد ناكسًا رأسه، فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته، فأقبلت دموع المنذر تنحدر على لحيته لسوء ما رأى. وقال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن تمكِّنه من قيادتك هذا التمكُّن مع ما آتاك الله وفضلك به على المسلمين حتى ينزلك منازل الكافرين.  فاقشعرَّ الخليفة من قوله. وقال له: انظر ما تقول، كيف أنزلني الله منازلهم؟.

فقال: نعم، أليس الله يقول: (وَلَوۡلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ لَّجَعَلۡنَا لِمَن يَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ لِبُيُوتِهِمۡ سُقُفٗا مِّن فِضَّةٖ وَمَعَارِجَ عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَ ٣٣) [الزخرف: 33].

فوجم الخليفة ونكس رأسه مليًّا، وجعل دموعه تنحدر على لحيته ثم أقبل على المنذر وقال له: جزاك الله خيرًا، وعن الدين خيرًا، فالذي قلت هو الحق. ثم قام من مجلسه، وأمر بنقض سقف القبة وأعاده أميرها ترابًا على صفة غيرها. (مقال بين خليفة وقاض في مجلة الأزهر لشهر رمضان 1371ه، للأستاذ عبد الحميد العبادي ، وانظر الإسلام بين العلماء والحكام ص93)

بين عبد القادر الكيلاني والمقتفي:

وهذا الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى يقف على منبره محاسبًا المقتفي لأمر الله ومنكرًا عليه توليه يحيى بن سعيد المشهور بابن المزاحم الظالم القضاء، فقال له مخاطبًا: وليت على المسلمين أظلم الظالمين، وما جوابك غدًا عند أرحم الراحمين؟ . فارتعد الخليفة وعزل المذكور لوقته. (قلائد الجواهر ص8).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *