العدد 444 -

السنة الثامنة والثلاثون، محرم 1445هـ الموفق آب 2023م

فشل المشروع الحضاري الغربي

محمود إياس

إن الفساد من الأمراض التي أرهقت الأمم والشعوب، وهو السبب الرئيس في هلاك الأمم ،وهو يشمل الفساد العقائدي، والفساد الاقتصادي، والفساد التعليمي، والفساد الإعلامي، والفساد الأخلاقي، والفساد الأمني، وكلمة الفساد لها معانٍ كثيرة في القرآن الكريم منها المعصية، والهلاك، والخراب، والمنكر، والتدمير،…ومن مضارِّ الفساد والمفسدين أنه يؤدي إلى هدم المجتمعات ويؤدي إلى هدم الأمم أيضًا.

ومن الفساد المنتشر في العالم الآن ويؤذن بهلاك الأمم ما يأتي:

الظلم، فقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تذكر الظلم سببًا من أسباب هلاك الأمم، ومنها قوله تعالى: (وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ) [الكهف :59] وقوله تعالى: (وَكَمۡ قَصَمۡنَا مِن قَرۡيَةٖ كَانَتۡ ظَالِمَةٗ) [الأنبياء: 11] وغير ذلك من الآيات التي تذكر الظلم سببًا لهلاك من هلك من الأمم السابقة.

 وإضافة إلى الظلم الإجرام وكثرة الذنوب. وكما نعلم فإن الغرب هو الذي يتزعم العالم منذ مئتي سنة، وقد انتزع تلك الزعامة من الأمة الإسلامية يوم أصبنا بالانحطاط والجمود الفكري وتثاقلنا إلى الأرض وفرطنا في رسالة الله،… فعندما تسلم الغرب مقاليد الحكم بدأ الفساد في كل مجالات ونواحي الحياة، هذا ولا يُغرينا ما وصلت إليه أوروبا اليوم من رقي سياسي واجتماعي واقتصادي – ظاهريًا – فهناك ما تخفيه هذه الحضارة من دموية مفرطة وعنصرية مقيتة تحمل توقيع استعلاء الرجل الأبيض… التوقيع الذي ورثه الغرب اليوم عن حضاراته السابقة وهو يُشكّل التوجّه السياسي والشعبوي للأمّة الغربية. والمتابع بوعي لمسيرة الغرب الـمُعاصر يجد أنّها جنين مشوّه لحضارات سبقتها والتي كانت تسعى للتخلّص من أي حضارة مقاربة لها ولا تقبل بما يُسمّى بحوار الحضارات، كما يروج البعض في غفلة عن التاريخ البائس والواقع المتلوّن، حضارة لا تقبل سواها متنفّذًا وصاحب السلطة المطلقة.

إن القارئ الـمُتنبِّه للتاريخ يرى انفراد الحضارة الغربية عبر تاريخها الطويل بالإقصائية التي لا ترى الآخر من منظور تشاركي بقدر ما تراه منافسًا لدودًا وعدوًّا محتملًا، والتاريخ والواقع الذي نعيشه نراه لا يكذب. فهناك العشرات بل المئات من التقارير والنشرات التي تبين أكاذيب الغرب عن السلام، والحرية، والديمقراطية وغيرها الكثير من الدعوات الزائفة (نذكر جزءًا بسيطًا منها لأنه لا تتسع المقالة ذكر أكاذيب وفساد المجتمع الغربي) فقد اشتعل الشعر شيبًا من دعوى الغرب لحقوق المرأة والمحافظة عليها وما شابه ذلك، والتي ممن يدَّعون أنهم أنصارها؛ لإخراجها من مملكتها التي عاشت فيها عزيزة مصونة، طالبوا أول الأمر بتعليمها لتحسن القيام على تربية أبنائها، وقالوا:

الأم مدرسة إذا علمتها   أعددت شعبًا طيب الأعراق

 فلما تمَّ لهم ذلك، أخرجوها من بيتها فلم ينتفع بها الولد ولا الزوج، ولا هي انتفعت بنفسها، وقد بدأت المرأة الغربية التي قلدناها بالمطالبة بالرجوع إلى البيت، وسوف تتلوها المرأة المسلمة تقليدًا لها، وطلبًا للراحة مما تورطت فيه؛ ولكن معركتها القادمة في سبيل العودة إلى البيت لن تكون في سهولة معركتها الأولى للخروج منه، بعد أن فقد الأب والزوج والولدُ الغَيرةَ، ووكلوها لنفسها، وألِفوا أن يأكلوا من ثمرة كَدِّها، فمثلا وزير العدل البريطاني (دومينيك راب) يدعو إلى الحفاظ على النساء وإلى إعطائها حريتها وحقوقها، وإلى إعادة ثقتها بنفسها، وأضاف: «خلال الأشهر الاثني عشر التي سبقت مارس 2020، هناك 1.6 مليون امرأة كنّ ضحية أعمال عنف أسري، وتعرضت أكثر من 600 ألف امرأة لاعتداء جنسي، وما يقرب من 900 ألف تعرضن للتحرش». وإذا تحدثنا عن رعاية الحكومات الغربية لسكانهم نجد أن عدد المشردين مريع حسبما عرضته أعداد إحصائيات الحكومة الفدرالية من قِبل تقرير المشردين السنوي التابع لوزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأمريكية، وُجد نحو 553000 متشرد في الولايات المتحدة كل ليلة. وأيضًا دعوى (السلام) والحفاظ على حقوق الإنسان الكاذبة، فقد اشتعل الرأس شيبًا كذلك من هذه الأكاذيب في كل مكان، في مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الفضائيات، وفي النشرات… وهم يصفون أنفسهم بأنهم أهل السلام والمحبة. وإذا نظرنا نظرة بسيطة إلى الوراء فسنرى الخسائر التي تكبدها أهل هذه الدعوى الفارغة في الحرب العالمية الأولى، فقد كان العدد الكلي للإصابات والقتلى في صفوف العسكريين والمدنيين فيها أكثر من 37 مليون نسمة، مقسمة إلى 16 مليون حالة وفاة و20 مليون إصابة مما يجعله من أكثر الصراعات دموية بعد الحرب العالمية الثانية في تاريخ البشرية. أما الحرب العالمية الثانية فقد كانت من أكثر الصراعات العسكرية دموية على مر التاريخ، والذي قُدّر إجمالي عدد ضحاياها بأكثر من 60 مليون قتيل مثلوا في ذلك الوقت أكثر من 2.5% من إجمالي تعداد السكان العالمي. وهناك غيرها الكثير من فساد الوضع الأمني والاجتماعي والاقتصادي، فأين الحرية التي يدعون لها؟! أين الراحة؟! أين الأمان؟! هذه كلها أوهام يبثُّونها عبر وسائل الإعلام التابعة لهم؛ ولكن الحقيقة تختلف عن الواقع تمامًا، فالذين هاجروا إلى أوروبا انصدموا من غلاء المعيشة، ومن الفساد المنتشر، ومن كثرة الضرائب وغيرها الكثير… وبعد كل هذا، هل بقي شيء من هذه الحضارة المتهاويةو لم يسقط؟! هل لا زال هنالك من يؤمن بهيمنة هذه الحضارة البائسة على الأرض وهي تنتهك فطرة الإنسان وأخلاقه وعفته وحياءه، وحتى أبسط مقومات حقوقه. وإلى الآن يصدرون العشرات من القرارات التي تسمح بالشذوذ الجنسي وقوانين الحرية المنفلتة وشرب المخدرات (المقنَّن) فضلًا عن الدعارة واغتصاب النساء والأطفال المقنَّن…لقد أصبحت مظاهر سقوط هذه الحضارة أوضح من أن تحتاج إلى شرح، فقد ظهرت في الساحة الغربية كتب ودراسات كثيرة تحمل عناوين مثيرة ولافتة للنظر، تتحدث عن انهيار الغرب، وسقوط وتلاشي حضارته. بعضها يحمل العنوان نفسه، وبعضها الآخر يتناول هذا الموضوع ضمن فصول خاصة تتناول الانهيار الأخلاقي والقيَمي في المجتمعات الغربية، وفشل مؤسسة الأسرة، وانتشار واتساع دائرة الجريمة بشتى أنواعها، وعجز الأنظمة المعاصرة عن مواجهة موجات العنف والفوضى الداخلية، وانتشار سُعار الانتحار، وفشل الفلسفات الحديثة في معالجة الروح والرؤى والأفكار الـمُلحة التي تُطرح على عقل الإنسان الغربي.

 ومع كل هذا العجز والمرض الذي يعيشه الغرب، يستمر في صراع الحضارات الأخرى ويقوم أيضًا بإنشاء صراعات جديدة مع الدول الأخرى، مثل الصراع بين الغرب وروسيا، والذي هو صراع نفوذ ومصالح مادية وليس حول القيم، وصراع الغرب مع الصين، والذي هو صراع تجاري وليس صراعًا حول القيم. بينما الصراع حول القيم وطريقه العيش بين الغرب والإسلام لا تخطئه العين، لقد أصبح من الواضح أن حضارة الغرب كلها، حضارة أوروبا أو حضارة أمريكا أو غيرها فشلت فشلًا تامًا في بناء حياة نظيفة آمنة للإنسان على الأرض. لقد عمَّ الخوف والهلع الناس من لهيب الحروب التي أُشعلت داخليًا أو خارجيًا، وظلت مآسي الإنسان تزداد وتزداد، وجميع الوعود التي أطلقها مسؤولو أمريكا أو أوروبا لم يتحقق منها شيء، وأصبح الواقع المزري كأنه يقول: من يستطيع إنقاذ نفسه فلينقذها.

 إنَّ الرأسمالية ونموّها المرعب، والديمقراطية وإعلامها المدوّي، لم تحقق للإنسان أمنًا أو راحةً أو معالجة الفقر والمرض، يضاف إلى ذلك كله امتداد الجريمة بمختلف أنواعها في الأرض: السرقة، والقتل، الفواحش، والمخدرات، وامتداد الظلم، وفقدان الأمن، وامتداد العدوان، ونهب الشعوب! لقد ظهر الفساد في الأرض واشتد خطره. والبشرية اليوم تعيش في خطر حقيقي يهدّدها، وتكاد تقف مشلولة أمام ذلك، لم يشلَّ قواها إلا أهواؤها، فعميت الأبصار وسدَّت الأسماع، وكأنه لم يعد أحد يفكر في الإنقاذ! غرق الجميع! إلا صيحة واحدة تدوّي من معظم أنحاء الأرض: الله أكبر، الله أكبر! لتوقظ ولتنذر.

إن هذا الوضع الذي نعيشه لا يصلح إلا بما صلحَ به أوله، حكمٌ بالإسلام في دولةِ خلافة راشدة، تُظلُّها رايةُ العقاب، رايةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالطريقة نفسها التي بلّغ الرسول صلى الله عليه وسلم بها رسالة الإسلام، بإيجاد كتلةٍ قائمة على الإسلام وليس غير، ومن ثَمَّ تفاعلُها مع الأمة وطلبُ نصرةِ أهل القوة فيها، وأن تستمرَّ عليها حتى ينصرَها الله سبحانه وتعالى وتقيمَ حكمَ الإسلام ودولةَ الإسلام. هذا هو صلاح الأمر، وبهذا وحده تنهضُ الأمةُ من سقوطها، وتقومُ من كبوتها، وتعود سيرتَها السابقة، خلافةً راشدةً، تطبقُ الإسلام في الداخل وتحملُه للعالم بالدعوةِ والجهاد، فينصرُها اللهُ العزيز الحكيم (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ ٥١).

أيها المسلمون، يجب عليكم أن تنقذوا البشرية من نظام الرأسمالية الفاسد العفن، فإنكم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، أنتم بصفتكم هذه قادرون على إنقاذ البشرية، أنتم قادرون على إخراج البشرية جمعاء من عبادة الرأسمالية إلى عبادة الله وحده، ومن جور الرأسمالية إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة

اللهم نصرك الذي وعدت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *