العدد 436 -

السنة السابعة والثلاثون – جمادى الأولى 1444هـ – كانون الأول 2022م

الصراع الدوليّ في الساحة الأوكرانية.. الثوابتُ والمتغيّرات

حمد طبيب – بيت المقدس

الأزمة الأوكرانية كما هو مشاهد، ومن خلال تتابع الأحداث وسير الأمور، ليست أزمة إقليمية وليست صراعًا على أرض أو ثروات، إنما هي صراعٌ دولي يتعلق بالموقف الدولي، أي يتعلق بالهيمنة الأمريكية على العالم ومحاولة بعض الدول كروسيا والصين وكوريا الشمالية اختراقه؛ كمقدمات لإحداث تغييرات فيه. بمعنًى آخر: هو صراع مع أمريكا بالدرجة الأولى وعلى وجه التخصيص؛ من أجل إزاحتها عن مكانتها الدولية كدولة مهيمنة على سياسات العالم، وتسوق الناس بالعصا الغليظة في خدمة هذه السياسات. أما الأحداث العملية التي حصلت فهي استباقٌ لكل هذا الأمر من أمريكا؛ أي أن فتيل الأزمة قد أشعلته أمريكا لجرّ روسيا إلى حربٍ مدمرة تستهدف كيانها حتى تجبرها في النهاية على الخضوع لسياساتها، والركوع تحت أقدامها كباقي الدول الأخرى في العالم. أي حتى لا تفكر في موضوع التحدّي، أو الشراكات مع غيرها للوقوف في وجه أمريكا، أو القيام بمحاولات سياسيّة أو اقتصادية للفكاك من هيمنة الدولار، أو غير ذلك من أمور تتعلق بالهيمنة الأمريكية الدولية. أما الأمر الآخر الخاص بهذه الأزمة فإنها في الحقيقة أكبر وأوسع حدث دولي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1990م، وأخطر أزمة تمرّ بين الدول الكبرى منذ الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا، أي منذ تشكُّل النظام الدولي واتفاق الدول الكبرى فيما بينها على شكل النظام العالمي في ذلك الوقت.

لقد تشكَّل النظام الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية كما نعلم واعتراه بعض المتغيرات بين الدول الكبرى، وأحدثت فيه أمور جديدة. واستقرَّ الموقف الدولي (أي الدولة الأولى والمزاحمة لها) على شكل معين بعد أحداث كثيرة وقعت بعد الحرب العالمية الثانية؛ صعدت فيها دول كأمريكا والاتحاد السوفياتي، واضمحلَّ نفوذ دول أخرى كبريطانيا وباقي دول أوروبا، وتقوقعت الصين على نفسها، وبقي هذا الحال بين أخذ وردّ، وبين تفاهمات بين أمريكا والاتحاد السوفياتي، وتصادمات وصراعات بين أمريكا وبريطانيا حتى انهار الاتحاد السوفياتي كمنظومة دولية كبرى تقف ندًّا لأمريكا وتزاحمها أو تشاركها في الموقف الدولي وتحكُّماته ورسم سياساته. فكان انهيار الاتحاد السوفياتي بهذا أكبر حدث يجري على ظهر البسيطة منذ تبلور الموقف الدولي حتى ذلك التاريخ. لقد برزت هيمنة أمريكا على العالم وقيادتها له بالقوة السياسية والعسكرية بعد هذا الانهيار، وكانت هي المسيرة لكل الأزمات التي حصلت، سواء في العراق سنة 1990م، أم في أفغانستان والعراق سنة 2003م، أم غيرها من أمور سياسية وعسكرية. والأهم من ذلك كله هو هيمنتها الاقتصادية على العالم بلا منازع، باستثناء أمور تجري على استحياء ووجل وحسابات كثيرة من جانب الصين، ولا ترتقي إلى حد المنافسة ولا المنازعة على عرش التحكُّم في اقتصاد العالم!!.

إن موضوع الأزمة الأخيرة في ساحة أوكرانيا هي أخطر حدث بالفعل يتعلق بالموقف الدولي؛ لأنها مسَّت موضوع التنافس على الموقف الدولي، أي هي محاولة لمزاحمة أمريكا على مكانتها الدولية في الهيمنة الاقتصادية والسياسية، رغم أنها ليست صراعًا مباشرًا مع أمريكا في أرضها أو قواعدها العسكرية؛ إلا أن واقعها هو صراع بين معسكرين؛ تقف فيه روسيا في المقدمة في وجه أمريكا وسياساتها الدولية، وهي كما ذكرنا خطوة استباقية لتحطيم هذا الأمل وهذا العمل من جانب هذا المعسكر. والحقيقة أن مجريات الأمور واستقرارها في المستقبل على شكل معين لا يعلمها أحد الآن؛ لأن المفاجآت والمتغيرات التي تحدث لا أحد يستطيع أن يتنبَّأ بها، خاصة أن الأمور ليست اتجاهًا واحدًا في الأحداث، فهناك أمور وتغيُّرات اقتصادية قد تحدث، وهناك أمور عسكرية يمكن أن تتوسَّع وتجرُّ أمورًا جديدة إلى ساحة الصراع، وهناك أمور داخلية ومفاجآت يمكن أن تحدث داخل روسيا، أو حتى داخل أمريكا. فكل الأمور واردة من حيث التأثُّر والتأثير بهذه الأزمة الخطيرة والكبيرة.

وقبل الحديث عن الثوابت والمتغيرات في هذه الأزمة الخطيرة نقول: إن فهم أي مسألة سياسية (فهم ثوابتها ومتغيراتها) يقتضي فهم تاريخها أولًا، وفهم محيطها، وما يكتنفها من أمور وأحداث، أي فهم ماضيها وواقعها، وفهم واقع الدول التي تشترك في أحداثها، وفهم مبدئها ونظرتها من خلال هذا المبدأ. وكذلك فهم الموقف الدولي والدول الفاعلة فيه، والدول التابعة للدول المؤثرة. وكذلك فهم القضايا المصيرية التي يمكن أن تترتَّب عليها أحداث فاصلة يتخذ تجاهها إجراء الحياة أو الموت عند الشعوب. وفهم قدرات الدولة وطاقاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وما يوجد من تحالفات معها وحولها.

فهذه من أبرز الأمور التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند النظر لأية قضية في العالم من حيث ثوابتها ومتغيراتها؛ سواء أكانت هذه القضية كبيرة (دولية)، أم صغيرة (إقليمية). ولا يجوز أن نجرّد القضايا عن تاريخها وماضيها ومحيطها وواقعها؛ فهذا لا يؤدّي إلى الرأي الصحيح في فهم الأحداث والوقائع السياسية. ونحن بصدد الحديث عن الأزمة الأوكرانية من زاوية الثوابت والمتغيرات التي تتعلق بهذا الصراع الدولي الخطير والحسَّاس. وهنا لا بد من أن نرتكز على بعض الأمور الضرورية من خلال الخطوط العريضة التي ذكرناها في المقدمة.

ومن الأمور البارزة التي يجب أخذها بعين الاعتبار أثناء الحديث عن هذه الأزمة:

أولًا: الثوابت التي لا يعتريها تغيّر على الأقل في هذه الأزمة الحالية وما يكتنفها وما يحيط بها. وهي تشكل العمود الفقري في هذه الأزمة، وهذا الصراع الدولي، أو يمكن أن نسميها الأسس العريضة التي تتعلق بها المتغيرات الجارية والأحداث المتسارعة، وتصب في دائرتها. ومن هذه الخطوط العريضة والأمور البارزة:

1- هذا الصراع جذوره وتأثيراته دولية، وليس صراعًا إقليميًا يخصّ منطقة أوكرانيا وحدها.

2- الغرب وعلى رأسه أمريكا يسعى لجعل روسيا ضمن إطار سياسي واقتصادي وعسكري معين لا تتجاوزه، بحيث لا يؤثر على هيمنتها الدولية.

3- أمريكا تريد جعل أوروبا أيضًا ضمن حدود وسياسات معينة لا تتجاوزها؛ حتى لا تتمرد عليها وتستقل بسياساتها فتصبح تهديدًا اقتصاديًّا يضاف إلى تهديد الصين.

4- روسيا تعتبر نفسها هي المهيمنة على إرث الاتحاد السوفياتي السابق ودوله؛ عبر تحالفات واتفاقات مع هذه الدول، وتقف في وجه أي سياسة أو أعمال خارجية أو داخلية لخرق وإلغاء هذا التصور وهذه النظرة.

5- العلاقة المتنامية بين الصين وروسيا تعتبرها أمريكا تهديدًا فعليّا لنظرتها وتطلعاتها في التفرد والهيمنة العالمية.

6- أمريكا تزجُّ بأوكرانيا ودول أوروبا وبعض الدول الأخرى في المحيط الهادي في حتمية المواجهة مع روسيا والصين، وفي الوقت نفسه تثير المشاكل المصطنعة السياسية والاقتصادية والعسكرية لأوروبا وتدفعها للاصطدام مع روسيا.

7- الشعوب في أوروبا توازن الأمور حسب المصالح الاقتصادية وظروف العيش، ولا يهمّها القيم الغربية المزورة الكاذبة التي يتغنَّى بها القادة السياسيون، سواء في أمريكا أم أوروبا. وأكبر دليل على ذلك هو صعود اليمين المتطرف في أكثر من دولة أوروبية في الانتخابات الأخيرة، وحصول المظاهرات ضد الانتكاسات الاقتصادية المترتبة على الحرب وتبعاتها الاقتصادية!!

8- العالم أجمع يعيش في أزمة اقتصادية بسبب سياسات الغرب. وهذه الأزمة الأوكرانية أضافت بعدًا جديدًا لهذه الأزمة الاقتصادية وعمّقتها وفاقمتها.

9- أمريكا تراهن على استسلام روسيا لسياساتها تمامًا كما فعلت مع ألمانيا من قبل، ومع الاتحاد السوفياتي من خلال الضغط الاقتصادي، ومن خلال تأثير العقوبات لزيادة الضغوط الداخلية داخل المنظومة السياسية المحيطة بالرئيس الروسي، ومن خلال الضغط الشعبي الجماهيري.

10- الساسة الروس ومجلس الدوما والقادة العسكريون يعتبرون قضية الهجوم الغربي على روسيا قضية أمن قومي، ويستلزم اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية للمحافظة على الأمن القومي.

هذه أبرز الثوابت التي يجب أن يُنظر إليها أثناء التحليل والاستنتاج والنظرة المتفحِّصة للأزمة الأوكرانية. ولا تنفصل هذه القضايا أبدًا عن الأحداث وتفاقمها في أوكرانيا ومحيطها. فقد نظرت روسيا للمسألة الأوكرانية على أنها تحدٍّ لها، وتهديد لأمنها، وزعزعة لاستقرارها برمته. ونظرت كذلك أن الغرب لن يقف عند حدود روسيا في أوكرانيا، بل سيتبع ذلك كافة المنظومات السياسية والمعاهدات التي وقعتها روسيا مع دول الاتحاد السوفياتي السابقة، وربما أيضًا الاتحاد الروسي، لتبقى روسيا مثلها مثل الاتحاد الأوروبي؛ لا تقول: لا، أبدًا لأمريكا وسياساتها الخارجية، بل حتى لا تفكر أبدًا بالخروج، أو مجرد التفكير بالخروج على هذه السياسات. فروسيا لم تبدأ الحرب، ولم تفاقم الأزمة، وإنما من فعل ذلك هي أمريكا، واستخدمت دول أوروبا كذراع لها في هذه الأزمة، وأوجدت القناعات عند الزعامات الأوروبية؛ أن الدب القطبي يتهيأ للانقضاض على أوروبا بعد أوكرانيا، فضلَّلت أمريكا الرأي العام الأوروبي، فخدعته ودفعته إلى هذه الأزمة في مواجهة روسيا، وترتَّب على ذلك المشاكل العريضة للاتحاد الأوروبي وأولها أزمة الطاقة والغذاء وغلاء الأسعار، وانحسار الصناعات والتضخم والبطالة، وغيرها من مشاكل ما زالت تتصاعد.

إن الأمر الرئيس والزاوية المهمة في هذه الأزمة هي نظرة أمريكا للهيمنة على العالم ومنه روسيا وقيامها بكل الأعمال المتاحة لترسيخ هذه النظرة، وإيجاد الأجواء والأعمال الدولية للدفاع عنها وتحطيم كل الخصوم؛ حتى لو اضطرت لجر العالم لحرب عالمية جديدة تدمره. والأمر الأخر المهم أن روسيا قد جعلت قضيتها في أوكرانيا تجاه أمريكا والغرب قضية أمن قومي، وليست كأية قضية أخرى، وهي مستعدة لاتخاذ كافة الإجراءات السياسية والعسكرية من أجل هذه القضية الحساسة. هذا من حيث الثوابت أو الأسس والخطوط العريضة المتعلقة بهذه الأزمة…

أما المتغيرات فهي سياسية واقتصادية وعسكرية، ومن هذه المتغيرات التي حدثت وربما تحدث في هذه الأزمة وتواكبها في قابل الأيام:

1-  المفاجآت الاقتصادية. ونعني بالمفاجآت الاقتصادية ما يترتب على هذه الأزمة من مستجدات يومية تتعلق بالبورصة العالمية وتقلُّباتها، ومن انهيارات ربما تحدث في المؤسسات المالية الكبرى مستقبلًا. فهناك أمور حدثت بالفعل وأثَّرت في ساحة هذه الأزمة بشكل فاعل؛ منها التضخم في أوروبا وأمريكا، وانخفاض قيمة الروبل الروسي، ونقص السيولة المالية بسبب الحصار، وانهيار بعض المؤسسات المالية الكبرى والبنوك في بعض الدول الأوروبية. فالمتغيرات الاقتصادية هي الأكثر تأثيرًا في هذه الأزمة وفي الضغوط الداخلية عند الشعوب داخل الدول، وبالتالي التأثير على مجريات الأمور على توجيه دفة الحرب من أوروبا وأمريكا، ويمكن أن توقفها بالكلية.

2- المتغيرات العسكرية التي تحدث ويترتَّب عليها أمور سياسية، تؤثر في الركائز والأسس التي ذكرناها. فحصول تمرد عسكري مثلًا على نطاق واسع داخل الاتحاد الروسي يمكن أن يؤثر على الوضع الداخلي في روسيا، وعلى القرار السياسي تجاه الحرب والتصدي لأمريكا، وبالتالي الخضوع لسياسات الغرب وعلى رأسه أمريكا. فالثبات والتماسك الداخلي هو أهم أمر في المتغيرات في هذه الأزمة، ولا يقل أهمية عن المتغيرات الاقتصادية. فإذا ما حصل أي تغير في الجبهة الداخلية الروسية فإن كل الأمور تسير في اتجاه آخر، وربما يحدث ما حدث في بداية تسعينات القرن الماضي من تفكك جديد في المنظومة الروسية، على منوال ما حدث في المنظومة السوفياتية. وحتى الآن يوجد تماسك في الجبهة الداخلية السياسية والعسكرية؛ ولكن لا نعرف أين تتجه الأمور في قابل الأيام.

3- المتغيرات في موقف كل من الصين تجاه أمريكا، وروسيا ودول أوروبا تجاه أمريكا. فهذا الأمر فيه ثوابت؛ ولكن يمكن أن تعتريه متغيرات مثل تشجُّع الصين ودخولها ساحة وحلبة الصراع بجانب روسيا، أو تفكك الرأي الأوروبي نتيجة ضغوط الجبهة الداخلية وصعود اليمين المتطرف إلى سدة القرارات السياسية فيها. فهذه متغيرات يمكن أن تحدث، ويترتب عليها حدوث تغيرات مهمة في هذا الصراع؛ لأن اتساع دائرة الجبهة تجاه أمريكا له تأثير سلبي عليها وكذلك اضمحلال الدول المساندة لها أيضًا له تأثير سلبي عليها، أي بمعنى آخر أن أمريكا لا تستطيع أن تقف وحدها في هذه الأزمة الخطيرة، بل لا بد من وقوف منظومة واسعة معها.

4- المتغيرات داخل أمريكا نفسها من حيث التأثير الاقتصادي لهذه الأزمة أو التشرذم الداخلي في أمريكا نتيجة الصراع بين الحزب الجمهوري والديمقراطي. فإذا ما حصل شيء من هذه المتغيرات في الداخل الأمريكي فإن الأمور تتغير مئة وثمانين درجة في هذا الصراع الدولي؛ خاصة أن مركز القيادة هو عند أمريكا.

5- طول أمد الحرب وصمود كل من الجبهة الداخلية في روسيا وصمود الدول المؤيدة لها. فهذا أيضًا من المتغيرات التي لها تأثير فاعل في الأزمة خاصة أن العالم يعاني ما يعاني من أزمات مالية متتابعة، ومن غلاء أسعار ومن ركود اقتصادي عالمي، ومن اضمحلال المشاريع التي تخص الرأسماليين في أوروبا وأمريكا، فقصر أمد الحرب أو طولها له أثر كبير على مجريات الأمور السياسية، وفي تحديد ما يترتب على هذا الصراع الدولي.

6- مسألة استخدام الأسلحة النووية، أو فوق التقليدية في هذا الصراع. فهذا المتغير يعتبر خطيرًا للغاية، وربما أدخل الصراع الدولي في حرب نووية تُحدث تغيّرات كبرى في العالم؛ تزول بمقتضاه دول بأكملها من الساحة الدولية. وإن كنا نرى هذا الأمر ضعيف الحصول؛ ولكن يدخل في حساب المتغيرات التي تقلب الأمور رأسًا على عقب.

وفي الختام نقول: إن هناك أمورًا مهمة في هذا الصراع المحتدم، وربما يتوقف عليه تشكُّل النظام العالمي الجديد، ومصير تحالفات أمريكا وسياساتها الدولية، وأحلافها الاستراتيجية؛ كحلف أوكوس وحلف كواد… ومن هذه الأمور:

أولًا: قدرة روسيا على الصمود خلال الأشهر القادمة، والتفاف الشعب الروسي حول قيادته السياسية والعسكرية. فهذه أهم قضية في موضوع استمرارية روسيا وتصدّيها وتحدّيها للهجمة الأمريكية. فإذا استطاعت الصمود خلال الأشهر القليلة القادمة فإنها ستشعل أزمة اقتصادية وسياسية فعلية داخل أوروبا بأكملها.

ثانيًا: ما تعانيه الشعوب الأوروبية بسبب هذه السياسات المضلِّلة، وربما وصل الحال – إذا تفاقمت الأمور – إلى حد قيام الشعوب في أوروبا ضد قادتها السياسيين، وإجبار القادة السياسيين على التخلي عن أمريكا وصلفها وعنجهيتها، وتسخيرها في أهدافها وسياساتها وأنانيتها الدولية… فطول النفس عند روسيا وتماسكها في الأشهر القادمة سيكشف عوار أوروبا، ولن تستطيع أمريكا إنقاذها، وبالتالي سيكون انهيار الحلف الأوروبي أسرع بكثير من انهيار الصمود الروسي. وهذا بالفعل ما تراهن عليه روسيا اليوم. وبالتالي ستجبر أمريكا على كسر الحصار عن روسيا، وتخفيف العقوبات والسعي لإيجاد حلّ سياسي؛ حتى لا ينفرط الحلف الأوروبي معها، وبالتالي يصعد اليمين المتطرف إلى سدة الحكم، ويتقارب مع روسيا بدل أمريكا، وتصبح أمريكا في مواجهة أوروبا وروسيا معا بدل أن تكون أوروبا في صفها.

ثالثًا: ما يعانيه العالم أجمع من أزمة حضارية وأزمة اقتصادية خانقة تترتب على الأزمة الحضارية؛ حيث ضاقت الشعوب ذرعًا بهذه النظم العفنة المهترئة المتهاوية؛ فضاقت ذرعًا في نهايات القرن الماضي بالنظام الاشتراكي فأسقطته، وها هي تضيق ذرعًا بهذا النظام الرأسمالي الذي يقدس المال ويعبده، ويثير المشاكل العالمية من أجل تكريسه وتعزيزه. وهذا بالفعل أدخل العالم برمته في أزمة حضارية، وولد الكثير من المشاكل الدولية والصراعات وولد الجوع والفقر والخوف، وتحكُّمات الرأسماليين في ثروات العالم أجمع…

إن الأشهر والسنوات القليلة القادمة حبلى بالأحداث الخطيرة، والتطورات لمسارات الحرب، وللتخريب المتعمَّد من قبل أمريكا، وزيادة الضغوط على الشعب الروسي. وستلجأ أمريكا لخطوات من التصعيد خطيرة؛ ربما تضطر روسيا لاتخاذ إجراءات عسكرية جديدة. وكل ذلك حتى تُسرّع من استسلام روسيا وقبولها بالشروط والسياسات الأمريكية. وكذلك ساحة العالم والشعوب حبلى بالأحداث المتعلقة بأزمة النظام والحضارة، وما يرتبط بها من مآس دولية وإقليمية سياسية وعسكرية واقتصادية. فما الذي ينتظر العالم في الأشهر والسنوات القادمة؟ ومن سيكون أسرع في الاستسلام والانقلاب في سياساته: دول الاتحاد الأوروبي تجاه أمريكا وسياساتها، أم الاتحاد الروسي ووضعه الداخلي؟ ومن الذي سيصرخ أولًا: روسيا وحلفها أم أمريكا وحلفها؟ وماذا سيحصل لهذه المبادئ المتهاوية؟ وما هو موقف الشعوب منها؟ وهل يمكن أن يحصل على غرار ما حدث في الاتحاد السوفياتي في أمريكا ودول أوروبا نتيجة هذه المعاناة وهذه الشرور المصطنعة؟ كل هذه الأمور ننتظر الإجابة عنها في قابل الأيام، ولا يستطيع أحد التنبؤ بها؛ لأن المتغيرات سريعة والأحداث متلاحقة، والمفاجآت مجهولة.

وفي الختام نقول: هذه هي دول العالم، وهذه هي سياساتها، وهذه هي نظرتها للشعوب، وهي مستعدة لتدمير العالم من

أجل رأس المال والهيمنة السياسية، ومستعدة أن تجرّ العالم لحرب عسكرية عالمية ثالثة، فقط من أجل الهيمنة ومناطق النفوذ… وهذه بشارة خير جديدة تضاف إلى ما سبق من بشارات بأن الأرض بحاجة إلى مخلّص يخلصها مما هي فيه من شرور وويلات ومبادئ هابطة وضيعة، وأن البشرية تنتظر من يأخذ بيدها إلى برّ الأمان من هذا التيه الكبير، وهذا الظلام الدامس الحالك. وهذا الأمر لن يكون إلا بنظام يحفظ للإنسانية إنسانيتها، وكرامتها، وينظر لإسعادها لا إلى ثرواتها وأموالها. وهذا النظام هو فقط الإسلام في ظل دولة الإسلام التي تطبقه وتحمله رسالة خيرٍ وهدىً إلى الناس كافة.

نسأله تعالى أن تكون هذه المقدّمات هي آخر المخاض قبل الميلاد العظيم، وأن تكون هذه الدماء وهذه الآلام هي علامات ميلادٍ جديد للبشرية جميعًا، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله فيصدق قوله تعالى: (لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٤ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٥ وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٦ يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ ٧).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *