العدد 436 -

السنة السابعة والثلاثون – جمادى الأولى 1444هـ – كانون الأول 2022م

العقيدة التجريبية الغربية وفصل الدين عن الحياة

فائق نجاح

حرّف الغرب التاريخ، فزعم أن تبنّيه للتجربة الغربية وكل ما تلاها كان ببساطة نتيجة لرغبته في التقدم والتنوير؛ ولكن الحقيقة البشعة حول الحضارة الغربية هي أنها بُنيت على حل وسط متهوِّر بين القوى النصرانية والمادية المتوحشة، وقد كانت طريقة التفكير التجريبي هي التي مكَّنت هذا الحل الوسط المضلِّل من خلال فصل الدين عن الحياة، ثم أصبحت هذه التسوية غير المستقرة الأساس الذي تأسَّست عليه الحضارة الغربية الحالية بأكملها.

إن الغرب لا يعترف بكل هذا، بل لم يتمكن من تقديم صورة دقيقة لماضيه النصراني؛ لأن هذا سيتطلب الاعتراف بروابطه العميقة بالإسلام، [ويمكن التمثيل على تلك الروابط التي اشتدت في الفترة من القرن الحادي عشر حتى الثالث عشر الميلادي من خلال نقاط الاتصال الثقافي والعلمي في صقلية ومالطا والأندلس، وما كان للجامعات من دور. ومن أبرز  الطلاب كان ليوناردو فيبوناتشي وأديلارد أوف باث وقسطنطين الأفريقي وغيرهم من الطلبة الأوروبيين الذين انتقلوا إلى مراكز العلم الإسلامية لدراسة الطب والفلسفة والرياضيات والعلوم الأخرى. كما كان التأثر من خلال ترجمات مثل أعمال ترجمة جيراردو الكريموني للتراث الإسلامي في طليطلة بعد احتلالها من قبل الإسبان، وترجمات التراث في صقلية بعدما ضم المسلمون الجزيرة عام 965م، ثم استعادها النورمان عام 1091م، فتولدت ثقافة نورمانية عربية رعاها حكامٌ أمثال روجر الثاني ملك صقلية، الذي كان لديه جنود وشعراء وعلماء مسلمون في بلاطه. ويعدُّ كتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) الذي كتبه الإدريسي المراكشي للملك روجر من أعظم المخطوطات الجغرافية في العصور الوسطى. وترجم ستيفن البيزي عام 1127م، كتيبًا عربيًا حول النظرية الطبية إلى اللاتينية. وطوّر الخوارزمي طريقة لأداء العمليات الحسابية باستخدام الأرقام العربية في القرن التاسع الميلادي، والتي نقلها ليوناردو فيبوناتشي إلى أوروبا.. كما ترجم روبرت من شيستر كتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة للخوارزمي نحو عام 1145م … وغيرها الكثير، واستمر التأثر حتى في العصور اللاحقة، حيث إن المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون يقول في كتابه «حضارة العرب»، إن الجنرال الفرنسي الأشهر نابليون بونابرت عند عودته إلى بلاده فرنسا راجعًا من مصر سنة 1801م، أخذ معه كتابًا فقهيًّا من مذهب الإمام مالك بن أنس اسمه «شرح الدردير على متن خليل»، ويعتبر الفقه المالكي أول فقه إسلامي رافق الأوروبيين، هذا الكتاب الفقهي الذي أخذه بونابرت معه، يقول لوبون، إنه بنى عليه القانون الفرنسي الذي كان أحد أهم أسباب نهضة الدولة، خاصة في مادة الأحكام والعقود والالتزامات؛ ليكون بذلك للفقه الإسلامي، خاصة المالكي، أثر كبير في التشريع الفرنسي، خاصة مدونة الفقه المدني المعروفة بمدونة نابليون.

تقول، أيضًا، بعض نتائج دراسات ومقارنات قام بها علماء مسلمون ورجال قانون نذكر منهم: مخلوف المنياوي القاضي في عهد الخديوي إسماعيل في مصر الذي أجرى مقارنة بين القانون الفرنسي والفقه المالكي، وقدري باشا وزير العدل المصري في أواخر القرن التاسع عشر، والعالم الأزهري سيد عبد الله علي حسين صاحب المقارنات التشريعية إن التشابه بين الفقه المالكي والقانون الفرنسي بلغ 90%.

فيما يشير أستاذ القانون الدولي في الجامعة الهولندية ميشيل دي توب إلى تأثير الروح الإنسانية والخلقية التي جاء بها الإسلام وتجسَّدت في فلسفته الفقهية وفضلها على أوروبا في العصر الوسيط، حيث يُذَكِّر بما كانت تعانيه البشرية من بؤس وتعاسة، وتأثير القواعد التشريعية الإسلامية على ذلك، وأثرها في القانون الدولي.

وتقول بعض المصادر التاريخية إن ألفونس التاسع ملك قشتالة كتب أول مدونة قانونية في أوروبا، نشرت بتعليقات لاتينية في ثلاثة مجلدات، وقد استمدها خاصة من قانون الولايات في الأندلس المسلمة الراجع إلى سنة 679ه الموافق لسنة 1289م. إلى جانب ذلك، استمدّ فريدريك الثاني ملك صقلية وإمبراطور جرمانيا قوانينه سنة 1250م من الفقه الإسلامي، من ذلك وضعه للضرائب المباشرة وغير المباشرة، والهياكل العسكرية والرسوم الجمركية واحتكار الدولة للمعادن وبعض البضائع مما كان يعرف في الشريعة الإسلامية منذ القرنين التاسع والعاشر؛ ولكنه أصبح نموذجًا احتذت به أوروبا كلها].

وكما أن الغرب لم يتمكن من تقديم صورة دقيقة لماضيه النصراني؛ لأن هذا سيتطلب الاعتراف بروابطه العميقة بالإسلام … كذلك، لم يتمكن من شرح مدى شدة التحدي المادي الذي واجهه بصدق خوفًا من إعطاء المادية أهمية إضافية. ومع ذلك، يجب الكشف عن هذا التاريخ المظلم حتى نكون قادرين على تقييم أهمية التجريبية الغربية وسبب فصل الغرب للدين عن الحياة.

الحضارة المسيحية في أوروبا وصراعها مع الفكر المادي

إن الطريقة الوحيدة لفهم الحضارة المسيحية في أوروبا بشكل صحيح هي بالاعتراف بأنها تطورت في ظل الحضارة الإسلامية، وتطورت أوروبا كنسخة نصرانية من الإسلام. يصور الغرب زورًا صعودهم على أنه استمرار لإرث حضارة اليونان القديمة وروما، على الرغم من أن دولة الخلافة الإسلامية كانت القوة الحياتية المهيمنة لأكثر من ألف عام، وكانت حضارتها قمة الإنجاز البشري في عصرها، والمظهر العملي للاتساع الكبير والتطور والرفاهية والفضيلة، وكان النجاح الحضاري منقطع النظير للإسلام نتيجة للتطبيق الشامل للأيديولوجية الإسلامية الفريدة التي توفر حلولًا لكامل شؤون الحياة، ولم تكن ثمار الحضارة الإسلامية متاحة للمسلمين فقط، بل كان العالم بأسره يتمتع بها إلى حدٍّ ما خلال تلك الفترة. لقد صمّم الغرب على وجه الخصوص مجمل حضارته النصرانية حول الإسلام، ليس فقط في نسخ الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا، والفنون والحرف اليدوية، والتجارة والأدب… ولكن أيضًا باستنساخ أنظمتنا وتشريعاتنا وأفكارنا حول الحياة. يقول الفيلسوف الأمريكي الإيطالي الأصل جورجو سانتيلاني أستاذ تاريخ العلوم في جامعة ماساشوتيس للتقنية MIT: «إن من عجيب هذا القانون العربي أنه هدانا لهذه التفاصيل في القانون التجاري مثل الشركات محدودة المسؤولية»، ويضرب أمثلة كثيرة على القوانين التجارية المأخوذة من التشريع الإسلامي.

ويقول المستشرق الإنجليزي هربرت جورج ويلز: «إن أوروبا مَدينة للمسلمين في قوانينها التجارية الدولية».

وهنا لا بد من لفت النظر لقضية مهمة إزاء مسألة أخذ نابليون للفقه المالكي وصياغة قوانين فرنسية على أساسه، فنحن ضد الترويج للقوانين الغربية، فلا يُفهم أننا نقول للغرب هاتوا قوانينكم هذه بضاعتنا ردت إلينا، فينبغي لفت النظر هنا إلى الفرق بين الفقه الدستوري والدستور، ففي الغرب لم يأخذوا في هذا الجانب منه شيئًا من الإسلام، بل نظامهم نظام ديمقراطي ليبرالي علماني، والدستور يبين شكل الدولة ومؤسساتها واختيار الحاكم وما إلى ذلك، وهذا لم يأخذوه من الإسلام، وأما القوانين الخاصة التي تنظم حياة الأفراد، مثل الموقف من التجارة، العلاقات الاجتماعية، وغيرها، فهذه التي أخذ نابليون منها ما يتعلق بالتجارة والشركات، وخاصة في مادة الأحكام والعقود والالتزامات والملكية، من الفقه المالكي، فهي لا تغير في شكل دولته، ولكن في قوانينها التفصيلية!

 كما أنه لا بد من لفت النظر أيضًا إلى أن المهم هو ربط القوانين بالوحي حتى تصبح إسلامية، فليس معنى أخذ فرنسا لقوانين شرعية أنها تحكم بالشرع، بل معناها أنها استحسنت قوانين تنظم التجارة، فلما أخذتها مفصولة عن الوحي وعن الأصل الذي انبثقت منه أضحت قوانين كغيرها من القوانين التي لا يجوز لنا أخذها منفصلة عن الوحي وعن أصلها، فعلى المسلمين أن يأخذوا التشريعات من الوحي مباشرة، وأن ينظروا للغرب نظرة استعلاء عليهم بأنهم لم يستطيعوا تنظيم قوانينهم، فاضطروا لأخذها من المسلمين وبنوا عليها قوانينهم، فتشريعات ربنا سبحانه وتعالى هي وحدها الضامنة لنا معاشر المسلمين بأن ننهض ونرتقي ونطيع ربنا ونتفوَّق على باقي الأمم.

لقد كانت أوروبا بأكملها نصرانية، وحكامها يستمدون سلطتهم وشرعيتهم من دورهم كأمراء مسيحيين، يحكمون أوروبا بالتعاون مع الكنيسة الرومانية؛ لكن المسيحية كانت دينًا ضيقًا ومتفرقًا يفتقر إلى القوة الأيديولوجية الجوهرية، ولم تستطع تطوير حضارة أصلية ناضجة بالكامل من صنعها؛ لذلك قاموا بتقليد الإسلام، وبتعديل ما أخذوه منا وتحويله لما يوافق عقائدهم المسيحية، وبالتالي ابتداع نسخة طبق الأصل من الحضارة الإسلامية في أوروبا. لقد شوّه الغرب الحالي هذا التاريخ، في إشارة إلى هذه القرون باعتبارها عصورهم المظلمة، مع ذلك، وفي الحقيقة، كانت طريقة الحياة التي تمتَّعت بها أوروبا حينها متناغمة ومتفوقة على الظروف الحالية في الغرب، نعم، يتمتع الغرب اليوم بتكنولوجيا متفوقة؛ ولكن التقدم العلمي ليس مقياسًا مفيدًا لمقارنة الحضارات من مختلف الأعمار التاريخية. فالحياة الغربية اليوم تقوم على السعي بلا توقف نحو المصالح المادية الأنانية، بينما كانت الحضارة المسيحية قادرة على موازنة المساعي المادية بشكل أفضل مع الاهتمامات الأخلاقية والإنسانية والروحية، وكانت مفاهيم الشرف والكرامة والأسرة والمجتمع بارزة وذات أهمية. مع ذلك، في الوقت نفسه، يمكن رؤية الاستغلال المادي في الطبقات الحاكمة المسيحية حتى قبل ظهور الرأسمالية، وتعاون الباباوات والملوك في إثراء أنفسهم بشكل كبير على حساب شعوبهم المضطهدة، واحتكار الثروة والسلطة وحتى المعرفة لأنفسهم، ويمكن بعد ذلك رؤية هذه العقلية الاستغلالية نفسها في الارتباطات الإمبريالية المبكرة لأوروبا المسيحية في الخارج، كما كان عليه الحال في الحروب الصليبية أو في القارة الأمريكية. لم تغذِّ الرأسمالية سوى البذور الشريرة التي تنبت في نفوس النخبة المسيحية، ودفعت القوة الأيديولوجية للرأسمالية الطبقات الحاكمة الغربية إلى الهيمنة على الحياة بأسرها. لقد كان إدخال الفكر المادي في الغرب أيضًا نتيجة للاتصال بالحضارة الإسلامية، فقد كان المسلمون على اتصال أولًا بالتفكير المادي عندما توسع الإسلام إلى أراض كانت تهيمن عليها في السابق الثقافة الهيلينية وأصبح بعض الأفراد متأثرين بالأفكار الغربية، وأصبح الفلاسفة مثل ابن سينا يؤمنون بأفكار خاطئة مثل أبدية الحياة، في تناقض واضح مع العقيدة الإسلامية، وهو أمر واضح في التأكيد على أن الخالق هو الوحيد الذي خلق الكون والإنسان والحياة، وأنه ببساطة هو صاحب الخلق الزمني للكون والإنسان والحياة، والازدهار الإسلامي في القرنين الثالث والرابع كان لا يزال في عصره الذهبي، وانتقل العلماء بقوة لدحض هذا التفكير الأجنبي. أخيرًا، وفي نهاية القرن الخامس الهجري، دحض الإمام الغزالي بشكل شامل حججهم في كتابه «تهافت الفلاسفة»، وجاء ابن رشد من بعده وحاول مواجهة كتاب الإمام الغزالي، وكان ابن رشد من عائلة مرموقة من العلماء الأندلسيين وتبع والده وجده ليصبح رئيسًا للقضاة في قرطبة؛ ولكن عندما اكتشفت الأمة انحطاط فكر ابن رشد حُوكم ونُفي، وهذا مؤشر قوي على انتصار العلماء الإسلاميين على الفلاسفة. تم التغلب على التفكير المادي في الحياة الإسلامية؛ ولكنه انتقل إلى أوروبا من خلال ترجمات لاتينية لأعمال ابن رشد. وفي القرن السابع عشر الهجري، أصبح جزء من رجال الدين المسيحيين ينجذبون إلى الفكر المادي وأصبح معروفًا باسم «أفرويستس»، تيمُّنًا باسم ابن رشد الذي كان يُعرف باسم «أفرو» في اللغة اللاتينية. إن التفكير المادي بغيض عند المسيحية بقدر ما هو للإسلام، وقاتلت الكنيسة الرومانية ضد الليبراليين مثلما قاتل العلماء الفلاسفة، وكانت الكنيسة تطمح للإبقاء على هيمنتها، وظهر سلطانها أيضًا في صورة الاضطهاد الكنسي للمفكرين أو لمن ينتقد تعاليمها أو الفساد المستشري فيها، وكانت نتائج هيمنة الكنيسة على أوروبا (مع جملة من الأحداث) كارثية، فلم يعد المطلوب إصلاحها، بل أصبح المطلوب هدمها؛ ومع ذلك، كانت الكنيسة قادرة فقط على القيام بمناهضة النزعات الفكرية التي بدأت تأخذ طريقها في المجتمعات الغربية من ومع ذلك، كانت الكنيسة قادرة فقط على القيام بذلك من خلال استخدام حجج مأخوذة من الإمام الغزالي والمعروفة باللغة اللاتينية باسم «الجزيل»، ويمكن أن نرى حتى من هذه الحلقة مدى تأثر أوروبا في ظل الحضارة الإسلامية بالتيارات الفكرية بين المسلمين، وعلى الرغم من هذه الجهود؛ إلا أن المادية لم تنتهِ عند هذا الحد، ويبدو أن الكنيسة كانت تعتمد على قوتها السياسية أكثر من قدرتها على الإقناع الفكري، حتى إن بعض النخب المسيحية الحاكمة اللاحقة لعبت بالنار؛ حيث كانت تعتمد على  عناصر من الفكر المادي لدعم سلطتها وتوفير ثقل مواز في صراعها ضد الكنيسة، والفكر المادي لم يهزم بشكل مقنِع وظل خامدًا تحت الأرض.

على النقيض من الإسلام، كان للمسيحية الأوروبية عيبان أساسيان، أحدهما سياسي والآخر فكري، وهذا ما استغله الفلاسفة الماديون، وكان الخلل السياسي الأول في أوروبا المسيحية هو عدم وجود وحدة في حكمها، مما أدى إلى استمرار الاقتتال الداخلي، وتم تقسيم الحكم بين الكنيسة والدولة، وكان هذا إرثًا من الأباطرة الرومان السابقين الذين تبنّوا المسيحية لكنهم استمروا في تنفيذ القانون الروماني؛ مما أدى إلى تقييد رجال الدين عن الإشراف على الشؤون «الدينية» الضيقة، كما قبل المسيحيون من جانبهم هذا التقسيم بسهولة.

      لقد كان نبي الله عيسى عليه السلام مُؤيَّدًا بالوحي، وقد أُرسل في الحقيقة لبني إسرائيل؛ لكن المسيحيين جادلوا بأن القواعد التفصيلية المتعلقة بشؤون الحياة التي ينقلها عيسى عليه السلام تنطبق فقط على اليهود، وأن غير اليهود كانوا أحرارًا في إطاعة الملوك الدنيويين بدلًا من ذلك. كما أصبحت العقيدة المسيحية متأثرة بالفلسفة السائدة لفصل المادة عن الروح، وجاء المسيحيون ليعتبروا الغرض من رجال الدين فقط للإشراف على المتدينين والروحانيين، تاركين الحكام لحكم الزمان والمادة، وعندما أعادت أوروبا بناء نفسها بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، استمرت الكنيسة الرومانية في نفس النموذج؛ حيث حصرت نفسها في الشؤون الروحية والتخلي عن مسؤولية الشؤون المادية لملوك أوروبا. علاوة على ذلك، فإنه على الرغم من أن رجال الدين لديهم «بابا» واحد كرئيس خلال تاريخ أوروبا المبكر، فقد ظلت أراضي أوروبا منقسمة بين عدد من الملوك الطموحين المتصارعين الذين كانوا دائمًا في حالة حرب مع بعضهم البعض. فأما الكنيسة فقد صادرت عقل الإنسان برمته، إذ فرضت عليه أن يستقي تصوره للوجود من خلال تأويلاتها المحتكِرة للكتاب المقدس، وكانت الكنيسة تركز على الإنسان الخارجي، الذي يعترف بذنبه، ويُكَفِّر عنه، ويطوع جسده، ويتصدق، ويبجل الكنيسة، فتمنحه صك الغفران؛ لكنها لم تلتفت إلى روحانيته وصلاح نفسه (الجوَّانية)، الأمر الذي دفع مارتن لوثر (1483-1546)م (مؤسس حركة الإصلاح البروتستنتي) للبحث عن «نفسه» بعمقها الأخلاقي، ليكون رقيها هو الـمُعلي لشأن الإنسان الاجتماعي، ومن ثم نظَّرَ لوثر للطبيعة المزدوجة للإنسان، الداخلي الروحي، الأكثر أهمية، والخارجي الجسدي، وأن تطهير النفس الداخلية هو الذي يعبر عن الاختيار الحر، فإن فعل فاز بالحب الإلهي، وبهذا قوَّض مارتن لوثر بضربة واحدة عِلَّةَ وجود الكنيسة الكاثوليكية، فلم يعد لها حاجة، بل فوق ذلك فهي تقف حاجزًا بين الإنسان الراغب برضا ربه، وبالاتساق مع العالم من حوله، وبين مسعاه ذلك، وبالتالي فلا سلطة لرجال الدين بين المرء وبين تصوره لذاته أو تطهيره لنفسه أو رؤيته للعالم من حوله، أو اتصاله بربه.

كان هذا التحول الفكري ثوريًّا فتح أذهان المفكرين إلى أفكار لم تخطر لهم ببال، فانطلقوا من التمييز بين داخل الإنسان وخارجه كحيزين منفصلين، قوام الحيز الداخلي تحريرها والتركيز على فردانيتها والسعي لبلوغ الذات المتعالية والفاعلة والعقلانية، والعالم الخارجي هو العالم الحسي الذي يحمل كل أسراره ومفاهيمه وآليات فهمه داخله، دون الحاجة لأي مرجعيات غيبية تتجاوزه.

 وفي القرن العاشر الهجري، تمرَّد ملوك شمال أوروبا ضد سلطة روما باسم الطوائف البروتستانتية التي تمَّ تأسيسها حديثًا، بينما استمر ملوك جنوب أوروبا في البقاء مع الكاثوليكيين الموالين للكنيسة الرومانية، ودفعت المستوطنات اللاحقة التي أصبحت تعرف باسم «سلام ويستفاليا» إلى انتقال أوروبا إلى بلدان وطوائف مختلفة. بحلول القرن الثاني عشر الهجري، كانت أوروبا المسيحية تفتقر بالكامل إلى سلطة مركزية قوية تمكّنها من مواجهة الثورة المادية، وأصبح نفاق النخبة المسيحية الحاكمة مكشوفًا بالكامل، مشيرًا إلى فسادهم، وجشعهم، وقمعهم، واستغلالهم، في تناقض تامّ مع المسيحية المعلنة، وهو صدى الأجندة السياسية للتمرد المادي عند شعوب أوروبا.

في الوقت نفسه، كان العيب الفكري الرئيسي في أوروبا المسيحية هو تبنّي طريقة التفكير الخاطئة للعقلانية اليونانية واستخدام طريقة زائفة في المنطق لتوفير مبررٍ فكري للعقيدة المسيحية. فالمنطق هو أسلوب صحيح للتفكير ولكن ليس في الأمور العقائدية؛ لأنه قادر على إخراج نتائج متضاربة فيما يتعلق بالأفكار حول الحياة، بينما يجب أن تكون العقيدة قطعية، وليس فقط بغلبة الظن؛ لأنها يجب أن تكون مبنية على أساس متين لا جدال فيه ولا يتغير من أجل بناء الثقافة ونمط الحياة والحضارة؛ لكن باستخدام المنطق.

وفي الوقت نفسه، وباستخدام آلية التفكير المنطقي نفسه، أصدر المفكرون الماديون «أدلة» خاصة بهم في الحياة باعتبار المادة مكتفية ذاتيًّا وأبدية وليس بحاجة إلى خالق، وقد أخذوا على سبيل المثال الحججَ التي طوّرها الفلاسفة المرفوضون بين المسلمين، من الذين زعموا أن خلق شيء مؤقت بشيء أبدي هو استحالة منطقية، ولم يخطر في بالهم أن مثل هذا الادعاء لم يكن له معنى حقيقي في إطار فكرة الألوهية اليونانية، باعتبارها المحرك الميكانيكي الأول في عالم حتمي، وحاول الماديون تصوير أنفسهم على أنهم «ملحدون» أمام كثير من المعتقدات الدينية؛ ولكنهم في الواقع يتبعون أسوأ الأديان، وهو الشرك الأكثر تطورًا، الذي يعزو الصفات الإلهية والخلود والاكتشاف الذاتي لهذا الخلق المادي، وقد كان المشركون في مكة الذين ارتبطوا زورًا بالله سبحانه وتعالى متفوِّقين على هؤلاء الماديين الوثنيين؛ فعلى الأقل آمن كفار مكة بالخالق.

عقيدة الحل الوسط الغربية مع المادية

لـمّا أصبح المفكرون المسيحيون غير قادرين على هزيمة التهديد المادي فكريًّا، لجؤوا إلى النهج الدفاعي بطرح الحل الوسط بين المسيحية والمادية، وفي القرن الثاني عشر الهجري، استبدل المفكرون المسيحيون بالعقلانية اليونانية النزعة التجريبية الغربية، والتي تحدّ بشكل صارم الإدراكَ، وأزال هذا النقاش الديني من المجال الفكري، ولم يفعل المفكرون المسيحيون هذا لإيذاء دينهم ولكن مخافةً عليه من هجمات الماديين الفكرية، وقد اعتبروا الإيمان بالخالق أمرًا بديهيًا وواضحًا أربكته عقول الماديين بلا داع، ونجحت التجريبية الغربية في إنهاء الجدل العام حول وجود الخالق؛ لكن النتيجة الأخرى لهذه التسوية كانت فصل الدين عن الحياة، وقد استبدل الغرب بالمسيحية عقيدةً جديدة، ووفقًا لهذه العقيدة الغربية الجديدة، لا يُعرف على وجه اليقين إلا الحياة في هذا الحياة، وما وراء هذا الحياة لا ينبغي أن يُؤخذ في الاعتبار عند تنظيم شؤون الإنسان في هذه الحياة، وفهم ما يمكن أن يكون وراء هذا الحياة متروك لكل شخص ليقرره بنفسه بشكل فردي.

«في كتابيهما: قصة الحضارة لـ»ول ديورانت»، وتاريخ الفكر الأوروبي الحديث لـ»رونالد سترومبرج» قسَّما مراحل تاريخ الفكر الغربي إلى: القرون الوسطى، وعصر النهضة، وعصر الإصلاح، والعصر الباروكي، وهو عنده «عصر ما بعد عصر النهضة، أو بمفهوم آخر عصر ما بعد حركة الإصلاح الديني الذي بدأ قرابة العام 1570م ويمتد حتى عام 1650م» ثم يصف القرن السابع عشر بعصر العقل مدلِّلًا على ذلك بقوله: «عندما يفكر المرء بجاليليو ونيوتن وديكارت وإسبينوزا وتوماس هوبز وجون لوك ولايبنتز، يستحيل عليه آنئذ أن ينكر كون القرن السابع عشر عصر العقل» ويأتي بعده عصر التنوير في القرن الثامن عشر الذي مهد لعصر مولد الأيديولوجيات في القرن التاسع عشر الميلادي».

بدأت أوروبا تتحسس طريق نهضتها بانعتاقها من سيطرة الكنيسة على الحياة والمعرفة منذ القرنين السادس والسابع عشر، وأخذ المفكرون والفلاسفة الذين وصفوا بـ»التنويريين» بوضع أسس فكرية لهذه النهضة، تقوم على المبدأ العلماني القاضي بفصل الدولة -ومن ثم الحياة بكامل تفاصيلها- عن الدين والأخلاق والقيم، وفي أحيان كثيرة، كان هؤلاء المفكرون هم أنفسهم من يضع أسس المنهج العلمي التجريبي، من أمثال فرانسيس بيكون (توفي 1626م)، ورينيه ديكارت (توفي 1650م)، وبليز باسكال (توفي 1662م)، وغيرهم؛ لذلك كان من الطبيعي أن ترى تقاطعًا بين المنهج العلمي والعلمانية، الأمر الذي وجَّه بوصلة العلم وجهة معينة، وفي الوقت نفسه اتخذ الغرب من العلم أداة وطريقة وحيدة للمعرفة بحيث هيمنت على سائر العلوم والمعارف الإنسانية، فكانت الخدمات متبادلة بين العلم والعلمانية، الأمر الذي يتطلب وضع علامات استفهام وشك كبيرة على القيمة العلمية لكثير من العلوم مثل نظرية داروين، ويضع علامات تعجب هائلة على استعمال المنهج التجريبي نفسه على معارف غير تجريبية مثل ما يوصف بالعلوم الإنسانية، فقد وجهوا بوصلة العلم أيضًا ليصبح مقتصرًا على الناحية المادية الدنيوية، فميدانه الوحيد: الطبيعة، مملكة المعرفة الإنسانية، وطريقته للتفاعل معها هي المنهج التجريبي الحسي، والهدف المعلن: ما ينفع الإنسان، وبالتالي كان لا بد من نبذ المعارف والأفكار الفلسفية «القديمة» التي رأَوا أنها غير نفعية، كالمنطق الصوري والقياس الذي لا يفعل إلا «تحصيل الحاصل»، بل نبذ الغيب جملة وتفصيلًا، والقطيعة التامة بكل ما لا يقع الحس عليه، وبالتالي فقد أصبحت النفعية غاية للعلم والفلسفة معًا، والمادية ميدانه، وهذا التقاء صارخ بالمبدأ العلماني وتسيير واضح للعلم ليكون في ركاب النفعية، فما يراه المنظرون من الأفكار نفعيًّا ماديًّا دنيويًّا فيمكن تسخير الطاقات لاقتناصه. من هنا فقد كان العلم أسيرًا لروح العصر ونزعاته الفكرية، وقامت العلمانية بأسره واستعماله لغاياتها في خدمات متبادلة بين العلمانية وبين المنهج العلمي الحسي التجريبي.

لقد سهّلت المسيحية لنفسها التبنّي السريع لهذه التسوية الجديدة. وفكرة الفصل بين الأمور الدينية والأمور الدنيوية، وبين الأمور الروحية والمادية، موجودة بالفعل في المسيحية منذ العصر الروماني، كما تم شرحه في القسم أعلاه. بسبب الانقسام المتأصل داخل المسيحية نفسها فيما يتعلق بالشؤون الدينية والدنيوية، لم يُحدِث الفصل بين الدين عن الحياة سوى القليل من التغيير العملي في البداية، وكانت أوروبا مسيحية، وآمن أهلها بالعقيدة المسيحية واتبعوا التعاليم المسيحية، وسيستمرون في اتباع دينهم في حياتهم الشخصية. وأيضًا كانت الطبقة الحاكمة الأوروبية مسيحية، وستستمر في الحكم وفقًا لأي توجيه يقدّمه دينهم في شؤون الحياة. على مدى قرون من الحضارة المسيحية، اتبعت شعوب أوروبا نظرية القانون الطبيعي التي باتوا من خلالها يرون أن أفكارهم حول شؤون الحياة صحيحة دينيًا وعقلانيًا على حد سواء، وأنه حتى لو تم نحي الدين جانبًا، فإنهم سيستمرون في اتخاذ الحلول نفسها لأسباب منطقية، وقد كان المسيحيون مقتنعين بشكل عقلي -على أساس القانون الطبيعي- بأن السلطة يجب أن تُفوّض إلى حاكم واحد، وأن الزنا جريمة، وأن الأراضي التي تم تحديدها على أنها «المشاعات›› يجب أن تُشرف عليها الدولة كملكية عامة لجميع الناس من أجل الاستعمال… ولم تتغير هذه الأفكار فور انفصال الدين، ومع ذلك، وفي وقت لاحق، وعلى مدى عقود وقرون، تغيّرت معظم أفكارهم حول الحياة، ولم تعد العقيدة المسيحية متاحة لترسيخ التفكير الغربي العام في الحياة. وبالطبع توقفت الحضارة الإسلامية عن تقديم نموذج للغرب ليواصل تقليده له. ومع تجريد الحياة العامة من الروحانيات، تعمّق الدافع المادي للغرب، وطغت نظرية النفعية على نظرية القانون الطبيعي التي ترجع جذورها إلى الفلسفة المادية، وتم اختزال هدف الإنسان في الحياة إلى البحث الفردي عن الملذات المادية في هذا الحياة.

في غضون ذلك، ترك أصحاب الحل الوسط المادية دون هزيمة، وتم منع الماديين فقط من المناقشات العقائدية، وبالتالي تم الدفع بهم بدلًا من ذلك بأفكار غير عقائدية، مثل الـمُثل السياسية الوثنية للحرية والديمقراطية. كانت الثورة الفرنسية في القرن الثاني عشر الهجري، تمردًا مدعومًا من الماديين لم يظهر إلا بواجهة الحرية والديمقراطية، وفشلت الثورة سياسيًا بسبب التخريب الذي قامت به بريطانيا؛ ولكن الأفكار السياسية الجديدة التي أدخلتها اكتسبت قبولًا فكريًّا واسع النطاق في فرنسا وعبر الغرب. في القرن الثالث عشر الهجري، بعد أن دُفنت العقلانية اليونانية بالكامل، عاد الماديون مرة أخرى إلى موضوع عقيدتهم، وقدّم كارل ماركس ماديته العلمية ضمن الإطار التجريبي، حتى إنه عرّف التفكير نفسه بمصطلحات تجريبية بأنه ليس أكثر من انعكاس للواقع على الدماغ. وخوفًا من الثورات التي اجتاحت أوروبا، تعهد الغرب بالتسوية الثانية، وابتكر نسخًا معدلة من الحرية والديمقراطية فردية وتطوعية تتوافق مع العقيدة الغربية، ولا تشكل تهديدًا للنظام الغربي الراسخ. وبإضافة هذه الأفكار السياسية إلى عقيدة فصل الدين عن الحياة، تكون أيديولوجية الرأسمالية الغربية قد اكتملت الآن وانتهت الحضارة المسيحية تمامًا. لقد أنقذ الغرب نفسه بالتنازلات التي قام بها من أهوال الفكر المادي الشمولي، والأيديولوجية الشيوعية الجماعية والحتمية بنسختها المادية الأصلية من الحرية والديمقراطية سيطرت على جزء كبير من الحياة في القرن الرابع عشر الهجري؛ ولكن الأيديولوجية الرأسمالية الغربية هي التي ظلت سائدة في الحياة وهي المسؤولة عن معظم الشرّ الموجود اليوم، وعزّزت الأيديولوجية الرأسمالية الجديدة من التفكير في الغرب، وحوَّلتهم من مقلدين ومحاكين إلى مبتكرين وقادة؛ ولكنهم مبتكرين وقادة شكلتهم أيديولوجية خاطئة لا تستغل سوى الجنس البشري داخل المجتمع الغربي، وكذلك في جميع مجالات الحياة. إن الحرية والديمقراطية، حتى في أحسن أشكالهما، كانتا كارثتين للبشرية جمعاء، وقد أطلقت الرأسمالية العنان بالكامل للتجاوزات الشرسة الجشعة لأمراء الغرب المسيحيين السابقين، فعادت الآن العصور المظلمة.

يجب رفض كل من العقلانية اليونانية والتجريبية الغربية

كان المفكرون المسيحيون محقِّين عندما رفضوا الفلسفة المعيبة جدًا للمفكرين اليونانيين، فالتفكير المنطقي هو ببساطة أسلوب رسمي للاشتقاق من المقدمات الأساسية للأفكار المجردة، كما في الرياضيات أو المنطق أو القواعد، وقد افترض اليونانيون الجاهلون أن المقدمات المتعلقة بالحياة الحقيقية ستكون بديهية، فابتكروا أنظمة فكرية واسعة حول الحياة دون تقديم أي دليل من الواقع؛ لكن التفكير المنطقي له حدّان إضافيان، الأول أنه إذا كانت الفرضية تخمينية، فإن نتيجتها المشتقة يمكن أيضًا أن تكون تخمينية، والثاني أنه من السهل الوقوع في استنتاج خاطئ؛ لذلك يمكن للمقدمات نفسها إعطاء نتائج متضاربة، ومع ذلك، كان الإغريق واثقين جدًّا من تفكيرهم المنطقي لدرجة أنهم اعتبروه متفوقًا على التجربة المباشرة، وحتى لو كانت نتيجته تخالف الواقع، فكانوا يفترضون حينها أن إدراكهم للواقع هو الذي خدعهم، وقد لجأ الإغريق القدماء إلى التأمل الفلسفي حتى في العلوم التجريبية، وكانت لديهم القليل من الحاجة أو الصبر للمراقبة الدقيقة والتجريب. بالطبع، وجد المسيحيون في البداية أن التفكير المنطقي أداة رائعة لإثبات بعض الجوانب غير المنطقية للعقيدة المسيحية؛ ولكن التفكير المنطقي كان أكثر فائدة في أيدي الماديين، الذين احتاجوا إلى تبرير ادِّعائهم غير المنطقي بأن الكون المادي يمكن أن يوجد من عدم، وأخيرًا، رأى المفكرون المسيحيون في التجريبية طريقة للخروج من العقلانية اليونانية. ومن خلال عزل الدين عن النقاش الفكري، لم يقم المسيحيون بتفحص الهجمات المادية فحسب، بل أنقذوا أنفسهم أيضًا من الاضطرار إلى الدفاع فكريًّا عن الجوانب غير العقلانية للعقيدة المسيحية. ومثل معظم التطورات الأخرى، كانت التجريبية أيضًا مستوحاة من المناقشات السابقة في الحياة الإسلامية، وفي هذه الحالة فإن النقاش حول نظرية «الطبلة البيضاء» للعقل كصورة بيضاء لا تتطوَّر إلا من خلال الاتصال بالواقع، استغل المفكرون المسيحيون التجريبية باعتبارها بديلًا مناسبًا للعقلانية اليونانية.

كان الغرب المسيحي قد بدأ بالفعل بتبنّي المنهج التجريبي فيما يُسمى «الثورة العلمية» للغرب في القرن الحادي عشر الهجري، من خلال تكرار الملاحظات والتجارب التي قام بها علماء مسلمون قبل ذلك بقرون. هذه هي الطريقة التجريبية التي ساقها التجريبيون زورًا على جميع الأفكار حول الحياة. إن الطريقة التجريبية هي طريقة تفكير صالحة، إن كان الغرض منها هو دراسة طبيعة الأشياء كما هي موجودة، وتتطلب الطريقة إخضاع الأشياء بشكل متكرر لشروط محددة سلفًا للرقابة ولدراسة استجابتها، ويمكن أن يخبرنا تطبيق الطريقة التجريبية على وجه اليقين أن الماء تحت ضغط جوي واحد يغلي عندما تصل حرارته إلى 100 درجة مئوية؛ أو أن الضوء ينتقل بسرعة ثابتة في الفراغ تبلغ (299،792،458) مترًا في الثانية، ولكن الطريقة التجريبية لا تخبرنا شيئًا عن الظواهر التي لا يمكن تكرارها في ظل ظروف مضبوطة، مثل الأحداث التاريخية، أو الاستجابات غير الميكانيكية للكائنات الحية، الشيء نفسه ينطبق على دراسة موضوعات مثل السياسة وعلم النفس، بغض النظر عن مدى شعبية مناهج «الدراسات المدفوعة» اليوم. حتى في مجال العلوم التجريبية نفسها، فإنه من الضروري تجاوز المنهج التجريبي من أجل تنظير التفسيرات العلمية، فالطريقة التجريبية وحدها لن تخلص إلى قانون «بويل» أو نظرية «أينشتاين» النسبية العامة. والفرضيات والنظريات وحتى القوانين العلمية هي تعميمات تخمينية تُستنبط من مجموعات محدودة من البيانات وتتوسع فيها، وكانت ميكانيكا نيوتن نظرية جيدة لعصرها واستفادت منها البشرية؛ ولكن عندما فشلت في شرح البيانات التجريبية المتوفرة حديثًا حلّت محلها النسبية الآينشتينية، ومن المعروف اليوم أن النسبية هي أيضًا قاصرة؛ وغير كافية لتفسير التأثيرات الكمومية؛ لكن الفيزيائيين لم يتفقوا بعد على نظرية يمكنها تجاوز النسبية الآينشتينية. تستخدم النظريات العلمية الاستقراء، الذي ينتقل من الخاص إلى العام، بدلًا من الاستنتاج، والذي ينتقل من العام إلى الخاص، والاستقراء بالضرورة تخمين؛ لأن الافتراضات تقتضي وضعها عند التعميم ضمن بيانات محدودة، ويمكن أن تعطينا الطريقة التجريبية نتائج نهائية؛ ولكن نطاق الطريقة التجريبية ضيق للغاية.

تستجيب التجريبية الغربية للقلق بشأن محدوديتها من خلال مطالبة الإنسان بالرضا عن نفسه بمعرفة نهائية لإدراكه الفوري فقط؛ ولكن التجربة اليومية الروتينية تُظهر أنه يمكننا أن نكون متأكدين مما هو أكثر بكثير من مجرد ما يمكننا رؤيته بأنفسنا، ويمكنني أن أكون متأكدًا من الاستنتاجات التي أصل إليها طالما أنها محدودة ولا تتضمن أي تعميم، فإذا وجدت كوبًا ساخنًا من الشاي على المنضدة في غرفتي، فأنا أعلم دون أدنى شك أن أحدهم قام بوضعه هناك، حتى لو لم أرَ أي شخص يفعل ذلك، ويمكنني أن أكون متأكدًا لأنني أنتقل من حقيقة محددة معروفة إلى نتيجة سليمة محددة دون تعميم، فأنا لا أدافع عن نظرية عامة حول جميع أكواب الشاي الممكنة في جميع الغرف الممكنة في جميع الأعمار الممكنة، أنا أتحدث فقط عن كوب الشاي الساخن المحدد هذا الذي أجده أمامي في هذا الوقت بالذات، وفيما يتعلق بهذا، وأنا على دراية تامة بالظروف القائمة، فمن الممكن بالنسبة لي أن أصل إلى نتيجة فكرية محددة جدًّا، خالية من أي شك، وأستطيع أن أعرف شيئًا ما بيقين تام حتى لو لم أره مباشرة، ويمكن أيضًا معرفة وجود الخالق بثقة تامة، طالما أننا ننتقل من الواقع الحسي المحدد إلى الاستنتاج المحدد دون حاجة لوضع تعميمات حول الحياة، بمعنى آخر دون استخدام الاستقراء أو الاستنتاج في الفكر فيما يتعلق بالواقع، وهذا هو النهج الذي يتبعه الإنسان بشكل حسّي عندما يلاحظ شيئًا رائعًا في الخلق ويدرك أنه لا يمكن أن يصنع نفسه ولا يمكن لأي شيء آخر في هذا الحياة أن يصنعه، ويجب أن ندرك هذا النهج الحسي باعتباره طريقًا فكريًّا مشروعًا.

كانت كل من العقلانية اليونانية والتجريبية الغربية مخطئة في اكتساب المعرفة لأنهما فشلتا في تعريف العقل أو التفكير عند الإنسان بشكل صحيح. إن العقل أو التفكير في الحياة يتكون بأربعة عناصر: الواقع، والإحساس، والدماغ، والمعلومات السابقة، وإذا غاب أي من هذه الأربعة فلا يمكن أن يحدث التفكير، ولا يمكن للإنسان إنشاء معلومات سابقة ابتداء، ولكن إذا ما تم إبلاغه ببعض المعلومات الأولية، فيمكنه تطويرها وتوسيعها، وهذا ما يزيد من قدرته على التفسير، وهو قادر بدوره على توصيل قدر أكبر من المعلومات للآخرين. إن عملية التفكير في الإنسان هي كما يلي: ينتقل الإحساس بالواقع من خلال الحواس إلى العقل حيث يتم تفسيره وفقًا للمعلومات السابقة ذات الصلة، وهذه هي الطريقة العقلية في التفكير، ومن الضروري التمييز بين الأسلوب والطريقة؛ فالتفكير المنطقي والطريقة التجريبية كلاهما أسلوبان صالحان في التفكير، ولكن تطبيقهما محدود، وطريقة التفكير العقلي عامة لجميع الفكر في الحياة لأنها تصف التفكير نفسه.

لقد سعى الإغريق الكفار القدامى والغرب الكافر الحاضر إلى تعريف أصل المعرفة أو المعلومات السابقة من غير الاعتراف بالله سبحانه وتعالى، واعتبر الإغريق أن الدماغ نفسه هو مصدر المعلومات، وقد تصوروا أن حقيقة أي موضوع يمكن معرفتها ببساطة من خلال التأمل الذهني، ويلزم في ذلك أن تكون الأحكام متسقة داخليًا فقط، دون الحاجة إلى أدلة خارجية. لقد أعطت فلسفة العقلانية الإغريق السخيف مساحة لتداول أي شأن وكل شيء يثير اهتمامهم أو يأسر خيالهم، وقادهم ذلك إلى بناء نماذج فكرية خيالية أكثرها أوهام لافتة حول واقع الحياة، وقد ابتكروا حلولًا لمسائل حياتية سبَّبت بؤسًا لا يُوصف للناس، مثل فكرة إلغاء الأسرة التي يناضل الماديون حتى اليوم من أجل إنفاذها؛ لكن في سعيها للسيطرة على الفكر، ذهبت التجريبية الغربية إلى الطرف النقيض، ففي حين أن مصدر المعرفة كان بالنسبة لليونانيين هو الدماغ، أصبح مصدر المعرفة بالنسبة للتجريبيين حقيقة، وما يمكن إدراكه بشكل مباشر يمكن معرفته على وجه اليقين، واكتسبت العلوم التجريبية مكانة مبالغ فيها، وتم توسيعها للحكم على أمور خارج نطاقها الحقيقي، مثل ما يتعلق بخلق الإنسان، وقد تم نشر منهجية العلوم التجريبية بشكل خاطئ من خلال فلسفة ما يُسمَّى «العلوم الاجتماعية» لتطوير حلول مفصّلة حول الحياة؛ ولتحقيق ذلك، خلطت التجريبية الغربية بين الإيجابي والمعياري، والخلط بين ما يجب أن يكون، وقامت بدراسة الظروف الحالية للإنسان لاستخراج الحلول من الظروف نفسها، حتى تتوفر للإنسان الأفكار اللازمة للخروج من مآزقه الحالية، وقد فشل التجريبيون في إدراك أن الواقع بمفرده غير قادر على توليد الفكر، بل يجب تفسيره، ويتطلب العقل أن يجمع الدماغ بين الإدراك الحسي المنقول إليه من الواقع مع المعلومات السابقة المتعلقة بالمسألة المطروحة، ومصدر المعرفة ليس الذهن ولا حقيقة هذا الحياة، بل إن مصدرها هو الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هو الذي وضع أمامنا هذا الحياة وجهزنا بالحواس والعقل، وهو الذي أعطانا المعلومات الأولية السابقة التي مكَّنت الإنسان الأول من البدء في تفسير ما يدركه عن الكون، مما مكّنه من تشكيل الأفكار التي يمكنه نقلها بعد ذلك إلى بقية البشر.

لا يمكن فصل الدين عن الحياة

يجب أن ينتهي فصل الدين عن الحياة، ويجب أن تتماشى الأهداف في الحياة العامة مع الأهداف في الحياة الخاصة. إن الفلسفة الصحيحة للحياة ليست فصل الروح عن المادة بل هي مزج الروح مع المادة، ويجب أن يشارك الإنسان بشكل كامل في شؤون الحياة ليس من أجل هدف مادي ولكن من أجل هدف روحي متسامٍ مع وجوب إعطاء الأهمية ليس فقط للقيمة المادية ولكن أيضًا للقيمة الأخلاقية والإنسانية والروحية في الحياة، والتأكيد على أن مصير الإنسان الحقيقي ليس في هذا الحياة بل في الحياة التالية.

يجب على الإنسان أن يبني حياته وحضارته على أساسٍ فكري سليم وشامل يحلّ أعظم تساؤلاته المتعلقة بحياته وما بعدها، ويتعلق جوهر كيان الإنسان وهدفه في الحياة بمسألة وجود الخالق، وهو السؤال الذي لا يمكن إبعاده عن الحياة الخاصة للفرد، بل بناءً على إجابته، تتشكل الأسس والبنية الكاملة لمجتمع الإنسان والدولة والحضارة. إن حقيقة وجود خالق يمكن إدراكها يقينيًا بالعقل، بالنظر إلى ما تدركه الحواس من الموجودات، التي من الواضح أنها غير قادرة على الوجود وحدها في ذاتها، وكل شيء محدود ومحتاج، وكل محتاج مخلوق، وعندما يتم استخدام العقل لتفسير هذه الحقيقة، فإن التفسير الوحيد الممكن الذي يمكن أن يخلص إليه العقل هو أن كل موجود أُنشئ من قِبل خالق يتجاوز الإدراك المباشر للإنسان، وهذا الاستنتاج نهائي لأنه يستخدم واقعًا محسوسًا محددًا للوصول إلى نتيجة فكرية محددة دون وساطة أي افتراضات عامة حول الحياة، والسبب في حجب هذا الاستنتاج ليس لأن الإنسان غير قادر على الوصول إليه، بل لأنه قد تم تضليله ليفترض أن تفكيره الطبيعي والحسي ليس صحيحًا بطريقة عقلانية.

توفّر العقيدة الإسلامية حلًا فكريًا شاملًا لمسألة وجود الإنسان وهدفه في الحياة، مبنيًا على الفهم الصحيح والنقي لهذا الحياة وما بعدها، ويجب أن يأخذ الإنسان هدفه في الحياة وحلوله لمشاكل الحياة من خالقه، من خلال الوحي الذي نقله آخر الأنبياء والمرسلين، محمد صلى الله عليه وسلم، في القرآن والسنة، وهذا هو ما يجب أن تقوم عليه الثقافة والحضارة، وقد حققت دولة الخلافة ذلك في الماضي، وستحققه مرة أخرى قريبًا بإذن الله، فبعد فشل الغرب اقتربت عودة الإسلام.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *