العدد 435 -

السنة السابعة والثلاثون – ربيع الآخر 1444هـ – تشرين الثاني 2022م

سورة الصف نموذج قرآني لكيفية النجاة من التضليل السياسي

الأستاذة بيان جمال

لا تخفى على أحد حالة الضَياع والتشتُّت التي تعيشها أمتنا اليوم. ومظاهر هذا الضنك إما هي نتيجة لغياب الإسلام عن الحكم والحياة، أو هي من أسباب الهزيمة وتغلغل النفوذ الغربي في بلاد المسلمين. فالتأخر الاقتصادي والفقر وانتشار البطالة والفساد والقتل وتفكك الأسر وضياع الأطفال هي مظاهر حتمية سببها عدم تطبيق الإسلام وأنظمته في الحياة. أما الشتات الفكري وانتشار البدع في السياسة والفكر، وتفرق السبل بالحركات السياسية في بلاد المسلمين، واللهو الغارق فيه شباب المسلمين وعدم وعيهم على واقعهم ولا معرفتهم بتاريخهم هو سبب قوي يطيل بقاء الظالمين وتسلُّطهم على رقابنا.

إن طريق النهضة يبدأ، كما قال الشيخ العلامة تقي الدين النبهاني رحمه الله، بالوعي على الفكر الذي يحقق نهضة، أي الوعي على فكرة الإسلام وطريقته في معالجة شؤون الحياة الدنيا «الكون والإنسان والحياة» وربطها بما قبلها وما بعدها. فالذي يريد الخروج من مستنقع الضنك الذي تتخبط فيه الأمة منذ مائة عام، عليه أن يعي على الإسلام: عقيدته وأنظمته. والمتلمس لطريق النهضة لا بدَّ من أن يربط عمله ربطًا محكمًا بكتاب الله وسنة رسوله حتى لا تنقطع به السبل على أبواب عدوِّه من حيث لا يدري، ولا يكون أداة في ظهر أمته بجهله بأحكام دينه وعقيدته. فعقيدتنا هي النور الذي نستضيء به في وجه ظلمات الجاهلية التي نعيشها (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ كَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهۡوَآءَهُم ١٤) [محمد: 14].

والقرآن الكريم دائمًا ما يتوجه بالخطاب للإنسان لأجل أن يُعمل عقله ويفكر ويتدبر. فهو قد توجه بالخطاب حتى لمن ليس لديهم استعداد لاتباع الوحي؛ ولكن يُلزمهم بالتفكير، ومن شروط التفكير في القرآن التجرد عن المؤثرات كيفما كانت والرغبة في تحصيل الحقيقة، ثم البرهنة عليها، فالله سبحانه يقول: (وَمَن يَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرۡهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ١١٧) [المؤمنون: 117]. إن هذه الآية وغيرها تلزم الإنسان بمسؤولية تفكيره، وعن نتائج هذا التفكير، فالقرآن يربي أهله على التفكير لا على الاتباع الأعمى، ويربط الاتباع بسلامة المنهج لا بالأشخاص. لا يعترض القرآن على التفكير العقلي بل على التفكير الذي لا يتحمل مسؤولية الدفاع عن النتائج والبرهنة عليها. وإن تتمة الآية تنذرنا أن التفكير ليس مجرد ترف فكري أو عمل غوغائي بلا نتيجة، بل إن الإنسان في مضمار الفكر متابع حتى اليوم الآخر فالفكر في الإسلام عمل (أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ ١١٥) [مقتبس بتصرف عن مقال لإدريس الكنبوري].

ولأن القرآن كتاب عمل، ولأن الله سبحانه يطالب قارئ القرآن خاصة بتدبره، فلا يمرُّ عليه مرور السهم، كان المسلمون العاملون في مجال الدعوة والساحة الإسلامية خاصة أكثرَ المطالَبين بتدبر هذا الكتاب والالتزام بنهجه في العمل الدعوي والسياسي. فمما ابتلينا به في هذا الزمان، انتشار الجهل وغياب الوعي، وهذا ممنهج له وأمر مقصود من الغرب، فهدم الأجيال يقتضي، لا بدَّ، تغييب القدوات ونشر الجهل. ومع تيسّر وصول الكل لمواقع التواصل وقدرة السفيه قبل العالم على إبداء رأيه والتصدُّر للفتوى والتحليل السياسي، صار العامة يقعون في اللغط والحيرة، ويصاب الغالبية بالشتات. هذه البلبلة جعلت الناس قسمين: قسمًا عزف عن متابعة أخبار الأمة والاهتمام بشؤونها وفضّل النجاة بنفسه، وليته ينجو، بل هو مع القطيع يُساق وهو لا يدري ما يراد له! وقسمًا يتابع المجريات ولا يعي ما وراءها، وليس لديه علم شرعي ولا فقه سياسي يؤصل به الأحكام وينزلها على الواقع، فكثر اللغط وزادت التضليلات وصارت الأمة تعيش بلاء فوق بلاء.

وإنَّ لسائل أن يسأل: ما سبيل السلامة من هذه المتاهة؟

والجواب أنَّ الأصل في كل مسلم أن يرجع، حين يضيع في العتمة، إلى النور، ومن أشكلت عليه الرؤية استضاء بمصباح الوحي (قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ١٦) [المائدة: ١٥-١٦]. فحتى يسلم المسلم من التضليل السياسي عليه أن يلتزم بتوجيهات عقيدته في كل لحظة ويربط الأحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة بالواقع، محقِّقًا بذلك معنى التسليم والانقياد التام، دون التفات لهوى ولا مصلحة ولا اتِّباع لفصيل أو قائد، فالشرع فوق كل الأحزاب والقادة. وهذا الالتزام بالعقيدة إذا تمَّ ربطه بشكل صحيح بالواقع كانت فيه النجاة، فالله سبحانه وعدنا: (وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ).

إن العمل السياسي عمل شرعي بامتياز، فله أحكام شرعية منبثقة عن أدلة، فهو فقه لا مجرد ترف فكري أو عمل إداري نتخبطه خبط عشواء، ونسير فيه على خطا الشرق أو الغرب. وواهمٌ من يظن أن الله سبحانه الذي فصَّل لنا أمور ديننا وعلمنا كيف نتزوَّج، وكيف نتطهَّر، وكيف نلبس وكيف نأكل، وكيف نفرح وكيف نحزن… ثم لم يعلمنا كيف نقيم دولة وكيف نمتهن السياسة ونرعى شؤوننا! بل الإسلام الذي علمنا كيف نعامل أهلنا وأطفالنا وجيراننا وأهل الذمة قد رسم لنا منهاجًا مفصلًا في معاملة عدونا وكيفية مناكفته وبأي طريق نسير بما يتعلق به.

فالمسلم الذي يسير بنور القرآن يعي جيدًا أن ملة الكفر واحدة، وأن الكفار لا يحبون لنا الخير بل (وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ)  وأنهم يتربصون بنا الدوائر، بالتالي فالأصل أننا عند النظر لأي قضية من قضايا المسلمين علينا أن ندرك جيدًا أن تدخلهم فيها يفسدها، فلا نتوقع منهم خيرًا أبدًا.

أما عن حكام المسلمين فهم لا يحكمون بشرع الله بل بشرع الغرب، فشعور المسلم تجاههم هو الكره والبغضاء، وتعامله معهم يكون على أساس أنهم أدوات بيد الغرب يحركهم كيف يشاء. وأي تنظيم أو عالم يتملّقهم ويتعامل معهم ويداهنهم هو في صفهم. وكذلك فكل حركة سياسية تقبل بالتعامل مع الغرب والعمل تحت منظومته السياسية هي أداة بيده كهؤلاء الحكام.

وأما عن المسلمين في بقاع الأرض، فالله جعلنا أمة من دون الناس، فألغى كل عصبية وانتماء لغير الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، فـ«الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ». فلا قيمة للحدود التي رسمها الاستعمار، ولا قيمة للعصبيات القبلية. فكل مسلم في الأرض هو أخي، وقضيته قضيتي وهمّه همّي، بالتالي تسقط كل الأبواق الناعقة بأن فلسطين مثلًا قضية الفلسطينيين وحدهم، أو أن لبنان لأهله دون السوريين، أو أن تركيا ليست ملزمة باستقبال اللاجئين من سوريا… إلى غيره من النعيق الذي يطلقه إعلام السلطة وأذنابه في بلاد المسلمين.

فهذه الثوابت المنبثقة عن الوحي تشكل قاعدة فكرية سياسية يستضيء المسلم بنورها فلا ينخدع بخطابات الحكام الرنانة، ولا تبريرات الحركات السياسية التي تخطب ود الغرب ليل نهار بينما تتستر بلباس الإسلام، ولا يضلله عمل خيري لحاكم هنا أو تبرع سخي لدولة من هناك لأهل بلد مسلم تغطي به على تخاذلها عن نصرتهم، ولا ييأس من طول عمر الباطل وقلة السالكين في مركب الحق، ولا يفقد الأمل بربه أبدًا، فلا ينسيه الواقع وعلوّ الظالمين أن الله جاعلٌ لما يرى فرَجًا ومخرجًا.

والمتدبر في سورة الصف وحدها يدرك تمامًا هذه الحقائق، فالله سبحانه ابتدأ السورة الكريمة بقوله: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ١ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٣). جاء في تفسير الطبري: «بل نزلت هذه الآية في توبيخ قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أحدهم يفتخر بالفعل من أفعال الخير التي لم يفعلها، فيقول فعلت كذا وكذا، فعذلهم الله على افتخارهم بما لم يفعلوا كذبًا». فما موقف الحركات التي تدّعي العمل للإسلام ولا تفعل؟! وما موقف الذين يقولون نحن نقف مع أهل فلسطين فإذا بهم ينسقون مع كيان الاحتلال؟! أم أن هؤلاء لا يصنفون أنفسهم من المؤمنين؟! وإنما الأصل أن يتدبر المسلم أعمالهم ويقيسها على أقوالهم ثم لينظر هل هم ممن ذكرهم الله في قوله سبحانه أم لا. وفي تفسير ابن كثير: «بَعَثَ أَبُو مُوسَى إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ قُرَّاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَخِيَارُهُمْ. وَقَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ، فَأُنْسِيْنَاهَا، غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: (ٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ) فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ، فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

والله سبحانه أتبع هذه الآيات بقوله: (إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ ٤). فَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى بِمَحَبَّةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا اصْطَفُّوا مُوَاجِهِينَ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَدِينُهُ هُوَ الظَّاهِرُ الْعَالِي عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ. ولكن صفوف المجاهدين في سبيل الله تبعثرت وتفرقت بها السبل؛ ذلك أن الأمة كلها تمزقت واختلطت صفوفها، فلا حاكم يجمعها ويقيم حكم الجهاد حتى يقوّم صفوف المجاهدين ويرصّ بنيان الأمة فيجعله واحدًا أمام عدوها، يعلي به كلمة الله ويجعل دينه هو المهيمن. قَالَ قَتَادَةُ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى صَاحِبِ الْبُنْيَانِ، كَيْفَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَخْتَلِفَ بُنْيَانُهُ؟ فَكَذَلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ أَمْرُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ صَفَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِهِمْ وَصَفَّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ».

ثم تحدث جلّ جلاله عن اليهود والنصارى وتكذيبهم لرسلهم عليهم السلام (وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِي وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ ٥ وَإِذۡ قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُم مُّصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ٦ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُوَ يُدۡعَىٰٓ إِلَى ٱلۡإِسۡلَٰمِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٧) جاء في تفسير القرطبي: «أَيْ لَمَّا تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ احْتِرَامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ وَطَاعَةِ الرَّبِّ، خَلَقَ اللَّهُ الضَّلَالَةَ فِي قلوبهم عقوبة لهم على فعلهم». فهذه الآية نذير لمن بعدهم، فالزيغ عن الوحي سبب في طمس القلوب وملئها بالضلالة – عافانا الله.

وهذه الآيات عن تكذيب اليهود والنصارى لرسلهم وتكذيبهم لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، تسلية لحملة الدعوة من بعده، وفيها تأكيد أن الكافرين لا يحبون لنا خيرًا ولا يودون إلا أن نكفر كما كفروا، وهذا واضح في هجماتهم المسعورة على الخمار والأذان وأحكام الإسلام عامة كالقوامة وقيم الأسرة والتربية، فضلًا عن هجومهم على كيان الإسلام السياسي وتخوفهم من الخلافة ومنع ذكرها ومحاربة العاملين لها حربًا شعواء بلا هوادة. فهم كما قال سبحانه: (يُرِيدُونَ لِيُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ٩). «يُحَاوِلُون أَنْ يَرُدّوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ شُعَاعَ الشَّمْسِ بِفِيهِ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا مُسْتَحِيلٌ كَذَلِكَ ذَاكَ مُسْتَحِيلٌ، وَلِهَذَا قَالَ: (يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٣٢هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ٣٣)» [تفسير ابن كثير].

أما ختام السورة فهي والله نعمة من الله كما بدايتها: هداية ونور مبين، ورحمة واسعة تنضح بلطف الله وتحببه لعباده المؤمنين، فهو كما زرع الضلالة في قلوب اليهود حين زاغوا عما جاءهم به موسى عليه السلام، يزرع الهداية في قلوب المؤمنين ويرشدهم لما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة. وفي تفسير ابن كثير ربط لبداية السورة بنهايتها: «تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ [ورد في تفسير أول الآيات] أَنَّ الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَرَادُوا أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَفْعَلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السورة، ومن جملتها هذا الْآيَةُ: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ١٠) ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ التِّجَارَةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَا تَبُورُ، وَالَّتِي هِيَ مُحَصِّلَةٌ لِلْمَقْصُودِ وَمُزِيلَةٌ لِلْمَحْذُورِ فَقَالَ: ( تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١١) أَيْ: مِنْ تِجَارَةِ الدُّنْيَا، وَالْكَدِّ لَهَا وَالتَّصَدِّي لَهَا وَحْدَهَا».

ثُمَّ قَالَ: «(يَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ) أَيْ: إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَدَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ، غَفَرْتُ لَكُمُ الزَّلَّاتِ، وَأَدْخَلْتُكُمُ الْجَنَّاتِ، وَالْمَسَاكِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: (وَيُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ)».

ثُمَّ قَالَ: «(وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ) أَيْ: وَأَزِيدُكُمْ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً تُحِبُّونَهَا، وَهِيَ: (نَصۡرٞ
مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ) أَيْ: إِذَا قَاتَلْتُمْ فِي سَبِيلِهِ وَنَصَرْتُمْ دِينَهُ، تَكَفَّلَ اللَّهُ بِنَصْرِكُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧) [مُحَمَّدٍ: ٧] وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الْحَجِّ: ٤٠] وَقَوْلُهُ (وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ) أَيْ: عَاجِلٌ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ خَيْرُ الدُّنْيَا مَوْصُولٌ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَنَصَرَ اللَّهَ وَدِينَهُ؛ ولهذا قال: (وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ)».

فهذه إذًا دعوة لكل مسلم: إن سبيل النصر والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة هو سبيل العاملين لإعزاز هذا الدين، وإن النصر لا يكون بالتولِّي عن الأمة، بل العمل الدؤوب ومتابعة همومها ليل نهار ونصحها ودعواتها لدين الله بتطبيقه، فكما أن القرآن قد يلعن صاحبه يوم القيامة، فكذلك حق على الأمة أن تتعلمه وتسعى لتطبيقه وتحكيمه لتكون السيادة للإسلام لا لأنظمة الطاغوت، وإلا كان حفظ القرآن وترتيله حجة علينا أمام الله سبحانه. فكيف نقرأ آيات البراء من الكافرين ثم نرضى أن يحج حكامنا لواشنطن وموسكو يبتغون عندهم العزة؟! وكيف نقرأ أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فنرضى بعد ذلك أن يتسلَّط علينا عدونا ويتدخل في شؤوننا وينظّر علينا في تربية أطفالنا ويفرض علينا سيداو وقانون الطفل وغير ذلك من نجسه؟! كيف نقرأ القرآن ونرتله ليل نهار ثم نرضى أن نعمل بخلافه؟! أنبتغي مقت الله سبحانه وتعالى؟!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *