العدد 434 -

السنة السابعة والثلاثون، ربيع الأول 1444هـ الموافق تشرين الأول 2022م

وقفات للذكر والاقتداء مع طلب الرسول صلى الله عليه وسلم النصرة من أهل القوة والمنعة من القبائل

الكاتب / المبارك بن أحمد يحيى – اليمن

     عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من الطائف إلى قبائل العرب في مواسم الحج، يشرح لهم الإسلام ويدعوهم إليه، ويطلب منهم النصرة والإيواء ليبلغ كلام الله جلَّ وعلا، فكان يتحرك خلال مواسم الحج والمواسم التجارية التي تجتمع فيها القبائل.

اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برنامجًا دقيقًا وفق خطة سياسية دعوية واضحة المعالم ومحدَّدة الأهداف، فكان يقصد عيِّنة القوم وغرر الرجال ووجوه القبائل من ذوي القوة والمنعة، مصطحبًا صحبة من ذوي المعرفة والعلم بأنساب العرب، وبطون القبائل وتاريخها كأبي بكر الصديق رضي الله عنه والإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه اللذين كانا يسألان وجوه القوم بعض الأسئلة التي تنبئهم عن معدنهم ومدى أهليتهم للإيواء والنصرة، يقولون لهم: كيف المنعة فيكم؟ كيف الحرب فيكم؟ كيف العدد فيكم؟ قبل أن يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرض دعوته على القوم.

دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبائل العرب فبدأ بكندة ثم أتى كلبًا، ودعا ((بنو عامر، وغسان ، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وبنو ثعلبة بن عكابة، وبنو الحارث، وبنو كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع)، وجعل يقول من رجل يحملني إلى قومه، فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي؟ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي). [أحمد (493،492/3) و ابن هشام (64/2)].

لقد تعرَّض صلى الله عليه وسلم للأذى العظيم، فقد روى الترمذي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه بالموقف فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي». [الترمذي وابن ماجه وأبو داود]. تردَّد النبي صلى الله عليه وسلم على القبائل يدعوهم، فيردُّون عليه أقبح الرد ويؤذونه، ويقولون: قومه أعلم به، وكيف يصلحنا من أفسد قومه؟ فلفظوه، وقد كانت الشائعات التي تبثها قريش بين الحجَّاج تلقى رواجًا واسعًا، وكان هذا مما يحزُّ في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى الطبراني في الكبير عن مدرك بن منيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فمنهم من تفلَ في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبَّه، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بِعُسٍ من ماء، فغسل وجهه ويديه وقال: يا بُنَيَّة لا تخشي على أبيك غلبةً ولا ذلةً، فقلت من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي جارية وضيئةٌ. [البخاري، التاريخ الكبير 4-2-14، الطبراني المعجم الكبير 20-342 ، مجمع الزوائد 6-21]. وقد تناوب أبو جهل وأبو لهب لعنهما الله على أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا واتَّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أساليب للرد على مكائد المشركين خلال مروره على القبائل، منها:

– مقابلة القبائل في الليل: حتى لا يحول المشركون بينه وبين القبائل، فقد اتصل بالأوس والخزرج ليلًا، وكانت العقبة الأولى والثانية ليلاٌ.

– ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القبائل في منازلهم: فقد أتى كلبًا وبني حنيفة وبني عامر في منازلهم تجنُّبًا لتشويش قريش ليستطيع التفاوض مع القبائل بالطريقة المناسبة.

– اصطحاب الأعوان: كان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يرافقان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض مفاوضاته مع بعض القبائل، ربما لئلا يظن المراد دعوتهم أنه وحيدٌ ولا أعوان له من أشراف قومه وأقاربه، إلى جانب معرفتهم بأنساب العرب ومعادن القبائل ليقع الاختيار على أفضلها لتحمل تبعات الدعوة.

– التأكد من حماية القبيلة: تحرِّيًا للجانب الأمني كان سؤاله عن المنعة والقوة لديهم، قبل دعوتهم وطلب الحماية، فذلك ضروري لحماية الدعوة من قوى الشر والباطل، من باب الاستعداد المادي والمعنوي الذي يرهب الأعداء ويذود عن حياض الدين ويحمي الدعوة ويتحمل تبعات نشرها، مزيلًا العقبات التي تعترض طريقها.

مفاوضاته صلى الله عليه وسلم مع بني عامر بن صعصعة:

بعد امتناع قبيلة ثقيف من الداخل عن الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، أحبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تطويقها من الخارج، فخطط عليه الصلاة والسلام بإبرام حلفًا مع بني عامر الذين كانوا على عداء وتضادٍّ مع ثقيف، علمًا أن قبيلة بني عامر قبيلة قوية عزيزة الجانب، وهي أحد القبائل الخمس التي لم يمسها سباءٌ ولم تؤدِ أتاوة ولم تتبع لملك، مثل قريش وخزاعة وثقيف، ويتَّضح لنا من قول بيحرة بن فراس كما روى لنا ذلك أصحاب السير عندما قال: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: «الأمر لله يضعه حيث يشاء». فقال له: أفَتُهْدَف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه. [ابن هشام 2-66، وأبو نعيم في الدلائل 215، وابن سعد مختصرًا 1-216 والطبري في تاريخه].

مفاوضاته صلى الله عليه وسلم مع بني شيبان:

كما رُوي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه… إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر الصديق فسلم فقال: من القوم؟ قالوا شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكرٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بأبي أنت و أمي، هؤلاء غرر الناس، وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالًا، وكانت له غديرتان تسقط على تَرِيَبتَيْه، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر، فقال أبو بكر كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: كيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنَّا لأشدُّ ما نكون غضبًا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش، فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ذا، فقال مفروق: إلامَ تدعونا يا أخا قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، فقال مفروق: وإلامَ تدعو أيضًا يا أخا قريش، فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا،

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ١٥١) [الأنعام: 151]، قال مفروق: دعوتَ والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك و ظاهروا عليك، ثم ردَّ الأمر إلى هانئ بن قبيصة وقال: هذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا لا أول له ولا آخر لذل في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، إن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع وننظر، ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى – وأسلم بعد ذلك – رضي الله عنه: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك، وإنا إنما نزلنا بين صرين: أحدهما اليمامة والآخر السمامة، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصريان؟» قال أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى، فذنب صاحبه غير مغفور، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، ألا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدث، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله – عز وجل – لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلًا حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك. [أبو نعيم في دلائل النبوة (214)].

فنلاحظ من خلال كل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب النصرة من أجل حماية الدعوة والدعاة لضمان تبليغ الدعوة وسيرها بين الناس محمية الجانب لا يساء إليها ولا يساء إلى أتباعها، كما أنه ترتيب ضروري من أجل تسلم السلطة ومقاليد الحكم والسلطان لتنفيذ شريعة الإسلام وتطبيقها على كافة النواحي ليسود الخير والحق ويتحقق العدل في ربوع المعمورة، وهكذا هي طريقة الرسول في استلام الحكم. ولو تفحصنا الأمر جيدًا لوجدنا:

أن طلب النصرة كان بأمر الله جل وعلا لرسوله.

كما أن طلب النصرة بدأ بعد فقده صلى الله عليه وسلم لزوجته خديجة وعمه أبي طالب الذي كان يحميه من قريش واشتداد الأذى عليه ولأن من يحمل الدعوة لن يستطيع أن يتحرك التحرك الفعال لأجلها، ولن يتوفر الجو الملائم للاستجابة لها.

رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي أيًّا من القوى المستعدة للنصرة أية ضمانات بأن يكون لأشخاصهم شيء من الحكم والسلطان على سبيل الثمن والمكافأة؛ لأن الدعوة الإسلامية إنما هي دعوة إلى الله، فالشرط الأساسي لمن يؤمن بها ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله.

وعليه، أحبتنا الكرام من أبناء الإسلام، ينبغي أن يبني حامل الدعوة نفسه على أن طريق الدعوة محفوف بالمعاناة ومطلوب منا الجهد والإخلاص والمثابرة والاجتهاد؛ لأنه رضا الله جلَّ وعلا، كما أنها جنة عرضها السماوات والأرض في الآخرة، فالبدار البدار قبل أن نغادر الفانية إلى دار القرار، حينها يتمنى المرء فيقول: رب ارجعوني لعلي أعمل صالحًا فيما تركت، فلا زلنا بفسحة من الأجل ونور مستبين والله وليُّ التوفيق، نسأل الله العلي الكبير أن يجعلنا ممن يستخدمهم في إقامة دولة الإسلام القادمة بوعد الله، ووعده الحق وهو أصدق القائلين، وأن تطل على الدنيا دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، لتحقق العدل وتنشر شرع الله وتنتصر للمظلومين من بني آدم ويعز الله بها الإسلام والمسلمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه إلى يوم الدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *