العدد 434 -

السنة السابعة والثلاثون، ربيع الأول 1444هـ الموافق تشرين الأول 2022م

الصندوق الأسود للفكر الغربي (2)

ثائر أحمد سلامة

هذا هو الجزء الثاني من دراسة بحثية مفصلة لأصول المبدأ الديمقراطي، العلماني، الليبرالي، الرأسمالي، تبينت فيها الجوانب التي تنقض الأسس الفكرية التي قام عليها ذلك المبدأ، وتظهر تناقضاتها المعرفية (الإبستمولوجية)، وتسلِّط الضوء على عجز الديمقراطية والعلمانية عن تشريع أي قانون يحقق العدالة في المجتمع، أو يبين الحقوق وينظمها، أو يبين المصلحة العامة التي ستتأسَّس الدولة بهدف تحقيقها أو يحدد الخير والشر، أو الصواب والخطأ على وجه يحقق تأسيسًا مرجعيًّا للتشريعات لتحقِّق مقاصد تشريعية وأعرافًا مجتمعية محددة. وكنا قد عرضنا في العدد السابق أربعة من مآزق الدولة الحديثة: (أولًا: مأزق إحداث الشرخ الفكري بين الإنسان ووظيفته في الحياة، وبين الحياة نفسها، وثانيًا: مأزق شرعية السلطة (مرجعيتها ومصدرها)، وثالثًا: ما هو المسوِّغ القانوني لوجوب طاعة الشعب للدستور والتشريعات؟!، ورابعًا: مأزق دوام تغيُّر التشريعات، مما يجعل العدالة المطلقة مستحيلة التحقق) وفي هذا الجزء سنعرض المآزق الأخرى، مع خلاصة أن الأساس الذي قام عليه النظام الديمقراطي الليبرالي العلماني أساس واه، غير صالح لإنتاج تشريعات، وأنه لا يمثل سيادة الشعب ولا إرادته، ولا يمتلك أي مسوغ لطاعته في الدستور والتشريعات، وأن الوضع السليم هو وضع التشريعات والتنظيم لحياة البشرية في يد التشريع الإلهي الرباني.

خامسًا: مأزق العجز عن وضع مقاييس للسلوك والعلاقات، يصلح أرضية لسن التشريعات:

انطلق النظام الديمقراطي العلماني من منطلق مادي بحت، قاطعًا العلاقة بما وراء الطبيعة: فقطع أواصر الحبل السُّرِّيّ بين الأحكام والأفكار وبين مفاهيم «الخير والشر» و«الحسن والقبح» و«الثواب والعقاب»؛ ومفاهيم الخير والشر ليست مفاهيم مادية، ولا يقع الحس عليها لقياسها أو إخضاعها للتجربة، وبالتالي «فالضمير الأخلاقي» أو «الإنساني» مفاهيم غير مادية، فكيف ستبحثها العلمانية وتؤسس عليها مرجعية للسلوك لوصفه بالأخلاقي؟.

وزاد الطين بِلَّةً قطع العلاقة بين الأحكام وبين أي مرجعية دينية أو عرفية أو خلقية ليضمن «المحايدة»، وبالتالي قطع الصلة بين الأحكام وبين القيم التي يراد تحقيقها منها (إلا القيمة المادية النفعية البحتة، والتي فشل أيضًا في تحديد ضوابطها، والتي دفعت للتأسيس لتحقيق الملذات والرفاهية، والتحرر كأساس لتقييم نمط العيش!)؛ إذ إنهم بدلًا من أن يضعوا القواعد الأخلاقية سياجًا، نظروا في عواقب الأفعال، فقاسوا السلوك من خلال عواقبه ونتائجه، فالفعل حسن إن جرَّ نتيجة حسنة؛ ولكننا بحاجة لميزان نعرف معه أن النتيجة حسنة على الحقيقة؟ فاكتفوا بالنفعية (Utilitarianism) المادية؛ الأساس الذي بنت عليه الحضارة الغربية مفهوم السعادة، والتي ارتبطت بها فكرة اللذة (Hedonism) الحسية، وفكرة الرفاهية (Welfare) كمقاييس غائية؛ لكننا نعلم أن التبرير النفعي البراغماتي للأخلاق يفقد الأخلاق قيمتها، والنفع والضرر متقلبان، فالفعل نفسه يجرُّ منفعة لشخص وضررًا للآخر، أو نفعًا حينًا وضررًا حينًا آخر، أو نفعًا آنيًّا يعقبه ضرر، فلا يمكن أن تصلح النفعية أساسًا لاختيار النظام الأخلاقي الذي سيسود المجتمع؛ إذ ستصبح مفاضلة أي نظام أخلاقي على آخر مسألة عشوائية لا يمكن الدفاع عنها؛ فغابت كل المقاييس المرجعية التي يمكن أن تتسلط على الأحكام لضبطها؛ فلم يعد بالإمكان إصدار أي حكم، ولا إيجاد أي قيم مجتمعية جرَّاء تطبيق الأحكام.

لذلك كان من الطبيعي أن نرى التحولات الفكرية العلمانية: تبدأ بمركزية الإنسان، سيد الكون، أو تأليه الإنسان وخضوع الطبيعة له، لتتحول إلى مركزية الطبيعة، وإذعان الإنسان لها ولقوانينها ولحتميَّاتها، ثم إسقاط فكرة المركزية، في عالم يسقط في قبضة الصيرورة، وتغييب الإنسان وتفكيكه وتقويضه على أساس تحويل المركزية للسوق الحرة، بعد نزع القداسة عن الطبيعة وعن الإنسان وتحويلهما إلى مادة استعمالية يوظفها القوي لحسابه، وأن نلاحظ تفكك الدلالات أو تعددها أو تفلتها من الحدود والقيود، الأمر المفضي إلى هلامية المعرفة ونسبيتها! والمفضي إلى قيام الأفكار على أساس الصراع الداروني بين الإنسان والإنسان على شكل صور منها بين القوي والضعيف (الاستعمار من قبل من لهم الحق فيه، والمستَعْمَرين المتكيِّفِينَ) أو بصورة عنصرية تكرس تفاوت البشر، أو الصراع بين الإنسان والطبيعة!

لا يوجد سلطة في العلمانية لتحقيق أو إنتاج الأخلاق، ففي ظل غياب وتغييب الدين، فإن كل شيء مباح، ولا توجد معايير فكرية تبيِّن القيمة الخلقية، أو تنتجها، لقد خلت العلمانية من تفسير لماذا يجب عليك أن تفعل هذا أو تترك فعل هذا، وخلت من معايير تبيِّن لنا ما هو الخير وما هو الشر، وخلت أيضًا من وضع نظرية قيمية تُتَّخذ مقاييس لأفعال الإنسان،

لقد فشل النظام الغربي في وضع المقاييس المعيارية المرجعية الضامنة لصحة القوانين، والتي تظهر قدرتها على حل المشاكل، وتحديد المصلحة العامة، خصوصًا في ظل انعدام القواعد العقدية أو الفكرية التي يعوَّل عليها في معرفة الحق من الباطل، والخير من الشر. فمسألة الحق والصواب من المصطلحات الأخلاقية المبنية على الدين والمبادئ والقيم أو التقاليد، وليست مصطلحات علمية أو منطقية تثبت بالأدلة والمنطق. فمن الممكن للأغلبية أن تتخذ قرارًا «رسميًّا»، من خلال عملية سياسية منظمة، ويكون القرار ضارًّا بآخرين من أفرادٍ وأقلياتٍ كثيرةٍ على أسس عرقية، أو مذهبية، أو جنسية، أو فكرية… وفشل النظام الغربي أيضًا في ضمانة تلك المقاييس المعيارية لتحقيق الأحكام والتشريعات لمجموعة من القيم الاجتماعية التي يراد أن تسود المجتمع على صورة أعراف مقبولة (مقاصد تشريعية). وفي ظل غياب القواعد المنطقية العقلانية التي تحدد الغايات المجتمعية خارج إطار الاختيار الفردي، ذلك الاختيار القائم على تحقيق مصالح الفرد الآنية ورغباته، الأمر الذي لا يضمن تجانس هذه الخيارات الفردية مع السلوك الاجتماعي للأفراد، ولا يضمن الإبقاء على وحدة الجماعة وعلى أمنها. وحيث إنه من المستحيل أن تجمع أو تجتمع غايات الأفراد على حلول واحدة تمثلها أو تمثل أغلبيتها، في نطاق تشعب المشاكل وتشعب الأفكار التي يمكن أن تحلَّ بها تلك المشاكل وتنوعها، فإن الشُّقَّةَ والبَوْنَ سيتَّسعان ما بين المصالح الفردية والمصالح العامة التي تستنبط منها أو تستثنى منها، بحسب تنظيرهم للإرادة العامة.

ولقد عَوَّل النظام الغربي على أن قرارات الأغلبية تعد أخلاقيًّا صحيحة، دون مسوِّغ عقلي لذلك التعويل، فأضفى على الشعب (أو على نواب الشعب أو أغلبيته النيابية) صفة العصمة من الخطأ، دونما مبررات لما يريد الشعب أو تريده تلك الأغلبية النيابية، على الرغم من أن النتائج الواقعية لديهم أثبتت حاجة تلك القرارات للتغيير والانتقال من النقيض للنقيض، فأصبح المجتمع حقلًا للتجارب. فالغالبية ليست دائمًا على حق، والكثرة العددية لا تُشكّل ضمانًا أكيدًا للحقيقة والمصلحة والخير العام. وبدراسة مبدأ سيادة الأمة نجد أنه ليس من أهدافه ضمان وكفالة منع الاستبداد أو الاستئثار بالسلطة، ولا وضع قيود أو حدود على السلطات، ولا تترتب أي من النتائج تلك على ذلك المبدأ حين تطبيقه، بل إنه يشكل خطرًا على الحريات والحقوق الفردية التي ستصبح رهينة إرادة أغلبية مجلس النواب (البرلمان).

سادسًا: كيف سترعى الدولة المصلحة العامة في ظل فشل تَبَـيُّـنِـهَا؟

فشل النظام الديمقراطي – العلماني – الليبرالي في تحديد المصلحة العامة بصورة تمثل رأي سواد المجتمع، أو أغلبيته؛ فما توصلت إليه النظم السياسية من حلول سنَّتها على صورة قوانين وتشريعات تمثل «المصلحة العامة» إنما تمثل -في الحقيقة- رأي المتشرِّعين والقانونيين والفقهاء الدستوريين وليس إرادة الشعب. وقد انطلق النظام العلماني من منطلق بناء مصادر التشريع والتنظيم، وتبيين «المصلحة العامة» على بدائل وضعوها لما كانت الكنيسة تصطلح عليه باسم «الحق الإلهي» عبر ما أسموه:

الحالة الطبيعية الافتراضية السابقة للمجتمعات والحكومات، والتي يخرجون منها إلى التنظيم والاجتماع بواسطة العقد الاجتماعي… والحق الطبيعي، أي الحرية الممنوحة لكل إنسان لكي يستخدم قدراته الطبيعية، وسلطته، والوسائل المتاحة له للبقاء، أو المحافظة على طبيعته الذاتية، طبقًا لما اصطلحوا عليه بالعقل السليم بزعمهم… والقانون الطبيعي (مقابل: القانون المدني الوضعي) أي: «العقل السليم» بما يتفق مع الطبيعة أو مجموعة القواعد الثابتة وغير المكتوبة والواجبة الانطباق على كافة الأفراد في كل المجتمعات نظرًا لأنها تجد مصدرها في الطبيعة ذاتها حسب تصورهم. فهو نوع من الأخلاقية الواجبة الانطباق في كل مكان وزمان مثل أفكار العدالة والمساواة. واعتبروا هذا النوع من القانون ليس من صنع المشرع، وإنما هو متأصل في الطبيعة البشرية. وقد انطلق بعض منظري العلمانية إلى أن الأساس أن الإنسان في الحالة الطبيعية شرير وذئب، وانطلق آخرون للتأسيس على وجود قانون طبيعي يقوم على العقل السليم، وهذا تناقض كبير، والحق الطبيعي والقانون الطبيعي كان في مرة أصلًا تبتنى عليه التشريعات، وفي مرة ابتلعه «العقد الاجتماعي» لأنه مؤسس على حرية فردية مطلقة قوامها إنسان شرير وابتلعه القانون المدني الذي ألغى الجوانب الأخلاقية في التشريعات بحجة تحقيق المحايدة والموضوعية.

لقد غاب عنهم حقيقة أن الحقوق تتقرَّر بحسب المفاهيم الحضارية والثقافية التي يعتنقها الأفراد، ولا تولد مع الإنسان «حقوق طبيعية»، وإنما تتميز الحضارات بما تبنَّته من مفاهيم وأنظمة تتمايز بمدى موافقتها للفطرة ولطبيعة الإنسان، وبقدرة تشريعاتها، أو عدم قدرتها، على تنظيم حاجاته العضوية وغرائزه تنظيمًا متوازنًا يقرُّ الغرائز ويشبعها دون كبت ولا إطلاق، وتنظم ذلك الإشباع بأنظمة معينة؛ الأصل أن تفضي لتحقيق غايات فردية ومجتمعية، وتحديد الحقوق وتنظيمها، والأصل فيها أن تفضي لتحقيق العدالة!

وغاب عنهم أن دوام تغيير القوانين والتشريعات يتعارض مع تحقيق العدالة المطلقة، فلا يعود لما يسمى بالقانون الطبيعي أي معنى. وأن تعدد المصالح وتشعب طرق إشباعها واختلاف الناس في تنظيم ذلك الإشباع يفسد «المساواة الطبيعية»، ولا يعود لما يسمى بـ «العقل السليم» من وجود في ظل تفاوت العقول وتحكم الأهواء والرغبات والميول، وتأثير الثقافات وغير ذلك من العوامل.

لقد فشل النظام الغربي في تحديد «الإرادة العامة» كما أسلفنا، ونظَّروا لبناء المصلحة العامة على «الإرادة العامة»، وقالوا إنها هي إرادة مجموع المجتمع لا أغلبيته ولا إرادة فئة منه دون غيرها، وهي عندهم محصلة ناتجة بعد هدم الإرادات المتفرقة، المتصارعة للأفراد، التي تقدم مصالحهم الذاتية على المصلحة العامة، وهي المصالح المتفق عليها، والتي تحقق توجيه الدولة نحو الهدف من إنشائها.

لكن بالنظر المدقق نجد أنه صحيح أن المصالح العامة التي ينتج عنها اجتماع الناس تحتاج لحلول يرضى عنها المجتمع، إلا أن هذه الحلول ومناسبتها للأفراد وللمجتمع، وصحة تلك المعالجات والتشريعات وإنتاجها للخير أو للشر، أو الصواب أو الخطأ، أو الحسن أو للقبح، وتحديدها لطبيعة الحقوق وإحقاقها وتنظيمها هو المعضلة الأكبر. وهذه لا تكون نتاج «خير عام» أو «عقل سليم»، بل هي مجال خصب -إن تركت من غير تشريع إلهي عادل- لاستغلال القوي لحاجة الضعيف (البنك – المقترِض)، (أصحاب رأس المال – الموظفين)، ومرتع وخيم لقيام المجتمع على أعرافٍ بالية أو حلول خاطئة تجسد الظلم والقهر والحرمان للضعفاء وللنساء وللعبيد، أو تكرس الشهوات كالزنا والشذوذ. وهكذا، فلا ضمان على سلامة المعالجات إن تركت لتشريع البشر. أضف إلى ذلك إن كيفية تجسيد الإرادة العامة في الواقع معضلة ضخمة؛ إذ إن اجتماع الناس على صعيد واحد لتقرير ما يصلح لهم وما لا يصلح، وما يرتضونه أو لا يرتضونه، وافتراض أن مجلس النواب يمثل آراءهم في الحقيقة هو وهم وتضليل، فمجلس النواب لا يمثل رأي الأغلبية، ولا رأي الشعب.

والإرادة العامة من غير خير عام متفق عليه أو مصلحة عامة تسعى لتحقيقها غير واقعية، خصوصًا في ظل التفسيرات المتضاربة بين الناس للخير والمصلحة والحلول للمشاكل، وفي ظل غياب وجود المنظور الجماعي الأخلاقي الواحد للخير والفضيلة، وفي ظل مشكلة أن السعي لتحقيق مثل هذا المنظور سيفضي إلى التضارب مع فكرة التعددية التي اعتبروها أساسًا لقيام المجتمع الديمقراطي – العلماني، وسيفضي إلى فرض قيم عقائدية أو أخلاقية واحدة تسود المجتمع، الأمر المتناقض مع المجتمع الديمقراطي العلماني التعددي، والذي يهدد بتحويل العلمانية إلى «دين»؛ لهذا كله يستحيل وجود «الإرادة العامة» التي تؤسس لتحديد «المصلحة العامة» والتي ستكون مرجعية للتشريعات والقوانين.

و«الخير العام»، و«العقل السليم»، والإخاء والحرية والمساواة، كلها لا تضع مقاييس فكرية تبين الغايات التشريعية أو الضوابط الأصولية التي توضح كيفية ضمان أن تفضي تلك العلاقات والأنظمة لحلول صحيحة ترفع الظلم وتجسد العدل وتحقق قيمًا مجتمعية تُسعد الإنسان، وتترك ذلك لمصطلحات غامضة، وما يعتبره البعض خيرًا ومحققًا للمصلحة يراه غيرهم شرًّا وضررًا محققًا، أو متعارضًا مع أهوائهم؛ إذ إن العبرة ليست بمجرد إصدار حكم أي حكم، وإنما في ضمان صواب الحكم ومقدرته على معالجة مشاكل بشرية متعلقة بذلك السلوك علاجًا صحيحًا، الأمر الذي لا يحيط العقل به لكثرة الملابسات الخارجية عنه وتعقيداتها، فالأهواء تجعل بعض العقول تميل للزنى، ولشرب الخمر، فلا يكفي ذلك لجعل الحكم الصادر عن العقل صوابًا، فَقَدْ فُقِدَ الميزان والمقياس السليم، والفطرة والميول قد يتأثران بعوامل خارجية وثقافية تجعل فطرة الغربي غير فطرة المسلم، والعقول تتراوح قوة وضعفًا، ودقة في الفهم أو ضبابية، فلا يستطيع العقل الحكم على كل الأفعال في مختلف الظروف والحالات لغياب عوامل غيبية، أو بسبب نظرة جزئية غير شاملة، أو مرجحات يتبين فسادها فيما بعد، أو مما قد لا يتفطن له العقل من فهم مجزوء للواقع، تقلب الحكم إلى نقيض الصواب، فما تراءى له مصلحة أو جالبًا لمنفعة اتَّضح له أن الشرَّ يكمن في أحد زواياه المعتَّمة؛ إذ لا علم له بشكل قاطع بمآلات الأفعال ونتائجها؛ لهذا السبب درجت تشريعات البشر على الانتقال والتقلب من حكم إلى نقيضه!؛ إذ ليس للأفعال خصائص ذاتية توصف على أساسها بأنها خير أو شر، وإنما تأتي أوصاف الخير والشر من اعتبارات وملابسات خارجة عن الفعل، (أي من النظام، وقد تبين لنا عدم قدرة النظام بشري المصدر على تحقيق صحة المعالجات، وعلى تحقُّق صواب الوصف بالخير أو الشر، الأمر الذي يتطلَّب الخضوع لنظام إلهي المصدر).

لقد قام تأصيل مبدئهم على ضرورة تنازل الفرد عن حريته المطلقة، وسيادته، مقابل تحقيق الدولة له الاستقرار والأمن والنظام، أي خضوع الإرادة الحرة للإرادة العامة. مُؤْثِرًا المصلحة العامة على الخاصة. فتتركز السلطة في يد دولة يخضع لها الكل ويخافونها، سلطة مطلقة غير مقيدة، وأقوى من كل الأفراد، وفوقهم؛ إذ إن الاتفاقات من غير السيف (القوة) ليست سوى كلمات، من خلال عقد اجتماعي ليمنعهم من الاستسلام لطبيعتهم الشريرة -بحسب توصيفهم للحالة الطبيعية للأفراد-.

هذه المفاهيم (الحالة الطبيعية، الحق الطبيعي، القانون الطبيعي، الإرادة العامة…الخ) كلها مفاهيم فضفاضة غامضة، مشبعة بالتناقض، قابلة للتأويل والتغيير والتضارب بحيث يصعب على المشرِّع مراعاتها، وما أشد استحالة أن تتفق مجموعة من العقول على تحديد أساس يمثل الخير العام المرضيَّ عنه من قبل الأغلبية!

من هنا، فلم يعد لمفهوم الإرادة العامة من وجود في الواقع، فالعلاقات في المجتمع لم تبنَ على أساس دراسة إرادات المجموع، ومن ثم طرح ما تناقض منها جانبًا، واصطفاء الباقي ليمثل «الإرادة العامة»، ونظرتها لعلاقات المجتمع، بل إن العلاقات -في واقع الحال في الدول العلمانية الديمقراطية- قامت على تطويع تلك الإرادات للقوانين والتنظيمات التي ارتأتها الفئات المتحكمة في المجتمع والدولة كالأحزاب السياسية والرأسماليين، والمشرعين.

والعلمانيون إذ ينطلقون من منع الدين من فرض أي تصورات على المجتمع والدولة، ومن حصر دور الدولة في أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف، على حد تعبير هوبز نفسه، فإنهم يعودون ويضعون هذه المهمة على عاتق الدولة، فكيف نوفق بين دور القوانين والتشريعات، وبين ألا تنهك الدولة نفسها بمنع التصرفات؟

وفي الواقع نرى أن الإفراز الطبيعي لنظرية الحق الطبيعي لا بد وأن يكون عبر التناقضات المجتمعية غير المحدودة، والتي لا تُحَلُّ إلا بفرض سلطان الدولة واضطلاعها بمهمة التشريع بصورة تفرضها على المجتمع، خصوصًا في ظل النقاط التي وضحنا فيها أن هذه التشريعات لا تمثِّل الإرادة العامة ولا تجسِّد سيادة الأمة!

 

سابعًا: مأزق الدولة الديمقراطية المتجسد في تناقضها المعرفي مع الليبرالية،

لقد نتج عن دمج الفكرتين سياسيًّا فيما يسمى بالديمقراطية الليبرالية تضارب هائل؛ إذ إن قوام الديمقراطية إرجاع سن التشريعات وإنفاذها والقضاء بناء عليها بناء على تحكيم رأي الأغلبية. والليبرالية نقيض ذلك، مرجعيتها الفكرية هي الفردانية والأقليات والحريات. وتَعْتَبِرُ الليبراليةُ مجرد وجود مرجعيات فكرية، ووجود التشريعات في الدولة تقييدًا للحريات الفردية، فكان الجمع بين المبدأين، وتقديم الليبرالية على الديمقراطية مفضيًا بالضرورة إلى تحويل الديمقراطية إلى فكرة جوفاء خاوية على عروشها، ميتة بالسكتة الليبرالية.

وقد افترض النظام الغربي أن على الأقلية أن تخضع لرأي الأغلبية (الديمقراطية) بما تقوم عليه من نزعة جماعية، دون بيان المسوغ القانوني والأخلاقي لذلك الخضوع، ومن ثم ناقض نفسه بأن فرض رأي الأقلية (الليبرالية حين زاوجها بالديمقراطية عبر ما يسمى بالديمقراطية الليبرالية) بما تقوم عليه من نزعة فردية، ضمانًا لحرياتهم، على الأغلبية دون بيان المسوِّغ القانوني والأخلاقي لذلك الخضوع وذلك التناقض.

وبنى النظام الغربي فلسفة الليبرالية على أساس انعدام القيم الجماعية المشتركة المحددة للسلوك الفردي؛ إذ قوام الليبرالية عدم وجود وحدة اجتماعية مخوّلة بتحديد القيم الاجتماعية، أو السلوك المقبول اجتماعيًّا من قبل الأفراد، ضمانةً لتحقيق الحريات وعدم التسلط على الفرد بما يحد من قدرته على «التفكير والإبداع» حسبما نظّروا.

وحيث إن المجتمع – بناء على النظرة الغربية الليبرالية – عبارة عن “كومة من الأفراد”، و«كومة من الأقليات»، (الأقلية ليس من باب العدد، وإنما التأثير والقوة)، فالنساء والمعوَّقون والشوَّاذ جنسيًّا والمهاجرون وأصحاب البشرة الداكنة والأطفال والمسنُّون والجماعات الدينية والعِرقية والعمال وسائر شرائح المجتمع، ينظر لها على أنها «أقليات» تُفصَّل لكل منها حقوق معينة، لكن أيًّا منها لا ينعم بوصف «الأغلبية»، حتى يؤثر في سير الحكم أو التشريع، الأمر المتناقض مع منطلقات الديمقراطية الإبستمولوجية. فكيف نوفق بين تغييب الأفراد وإلزامهم الطاعة العمياء لإرادة الأغلبية، (الديمقراطية) وبين غياب النظرة إلى المجتمع، (الفردية) وانعدام القيم الجماعية المحددة للسلوك الفردي (الليبرالية)؟! وكيف سيتم التزاوج بين مذهبٍ يحارب الفردية ويحارب تحكم القلة، ويمنعُ الأقلياتِ أو الأفرادَ حقوقَهُمْ إن تعارضت مع حكم الأغلبية، ويُجْبِرُهُمْ على الخُضُوْعِ للأكثريةِ، ويحد من حرياتهم (وهذا بموجب الديمقراطية)، مع مذهب يمنع الكثرة من الاستئثار بمقاليد التشريعات، ويرتكز على تحقيق الحرية الفردية وعلى حقوق الأفراد ويحارب خضوعهم لرأي الأغلبية لأنه سينفي عنهم حرياتهم (وهذا بموجب الليبرالية)؟! يقول ستيوارت مِيلْ بعد أن لم يعد يعتنق الاتجاهات الديمقراطية التي ميزت القرن الثامن عشر: «إن مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية… بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية». والدولة التي ركَّزت على الفردانية، وعلى فكرة الأقليات، نتج عنها بالضرورة تشظِّي المجتمع، فلم يعد فيه كيان يفرض القوانين والتشريعات بحكم امتلاكه أي سلطة مادية أو معنوية (كالكثرة مثلًا)، مما يترك المجال خاليًا للسياسيين وأصحاب النفوذ في المجتمع (القلة المهيمنة) من أصحاب المال والنفوذ ليسرحوا ويمرحوا في سنِّ التشريعات كما يحلو لهم، وليفرضوا رؤاهم على المجتمع والدولة!

ثامنًا: فشل النظام الديمقراطي في منع تركز السلطات واستغلالها في يد القلة.

وعن مأزق الدولة الديمقراطية المتجسِّد في فشلها في الفصل بين السلطات الثلاث، وما يترتب عليه من تركيز للسلطات فعليًّا في يد القلة، يرى الأستاذ الدكتور محمد مفتي والدكتور سامي الوكيل أن «مشكلة الاستبداد لم تنشأ لوجود مشكلة تركز السلطات، إنما وجدت أساسًا لانعدام القواعد الشرعية الثابتة في الفكر الغربي. مما أدى الى ربط التشريع والتنفيذ بالفرد أو الهيئة الحاكمة التي سعت من مطلق رغبتها في دعم قوتها إلى سن قوانين جذَّرت الاستبداد الفردي.

أما الشريعة الإسلامية فقد جاءت بأنظمة وتشريعات ثابتة لكافة جوانب الحياة ومنعت الحاكم من تجاوزها مطلقًا، وأكدت أن تجاوزها يؤدي إلى خروج الحاكم عن الإطار الإسلامي المتضمن للشرعية مما يستلزم «عدم الطاعة» للحاكم الجائر في المعصية، والنصيحة له، أو الخروج على الحاكم إذا تحققت الشروط المؤدية إلى ذلك من كفر بواح، فضلًا عما نصَّت عليه الشريعة من حقوق الرعية في محاسبة الحاكم وإنكار المنكر.»

بدراسة الأنظمة الغربية المختلفة وجدنا تركيزًا للسلطات في يد قلة، تتمثل في الأحزاب الحاكمة الحائزة على أغلبية مجلس النواب (البرلمان)، إذ تجمع بين أغلبية مجلس النواب (البرلمان) (السلطة التشريعية) وبين السلطة التنفيذية حين تشكل هي الحكومة، فتتحكم بمقدرات الدولة تشريعًا وتنفيذًا خلال فترة حكمها، فالدولة على الحقيقة هي الحزب الحاكم تنفيذًا وتشريعًا.

ومن أشكال تداخل السلطات أن للسلطة التنفيذية الدور الكبير والرئيس في تعيين قضاة المحكمة العليا، وعزلهم، وبالتالي فالقضاء الذي يتعيَّن ويتغيَّر بقرار السلطة التنفيذية قد لا يكون مستقلًّا استقلالًا تامًّا، فلا بد من ضمانات! والمهم هنا هو وجود التداخل بين السلطات.

وغني عن القول إن الدستور أصلًا هو من وضع مجموعة من القانونيين والقضاة، فإذا ما قيل إنهم يرجعون إلى مجلس النواب للإقرار بدستورهم فهذا في الواقع تجسيد لتداخل السلطات، وعلى كل فتدخل القضاة بسن الدساتير تدخل في السلطة التشريعية.

وكذلك فإن المحكمة الدستورية تراجع القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، وتمنع القوانين التي تتعارض مع الدستور، «فقد وضعت سلطة قضائية ووضع على رأسها المحكمة الدستورية، فهي أعلى مرتبة في القضاء، والحل والفصل الأخير يرجع إليها لتنظر في دستورية التشريعات الصادرة من السلطة التشريعية وتراقب تنفيذها من قبل السلطة التنفيذية،

وكذلك تشكل مسألة ثقة السلطة التشريعية بالحكومة أي بالسلطة التنفيذية أو سحب الثقة فتسقط الحكومة، تداخلًا بين السلطتين، فالحكومة التي تتعرض للثقة من السلطة التشريعية غير مستقلة.

إن توزيع السلطة يقضي على مبدأ المسؤولية وكيفية تحديدها الأمر الذي يؤدي بكل سلطة إلى التهرب من المسؤولية وإلقاء اللوم وعبء المسؤولية على السلطة الأخرى… إلى غير ذلك من التداخل بين السلطات الأمر الذي قوَّض فكرة الفصل بين السلطات، وركَّزها في يد قلة.

المستحيلات خمسة: الغول والعنقاء وحوريات البحر والدولة المدنية والأكوان المتعددة!

كانت العرب قديما تقول: المستحيلات ثلاثة، الغول والعنقاء والخِلُّ الوفيّ، والآن اتضح أنها خمسة، إذا استثنينا الخلّ الوفي، وضممنا ما تتضمنه الأساطير عن حوريات البحر، فالأكوان المتعددة هي المستحيل الرابع، كما بينا في كتابنا: نشأة الكون ونشأة الحياة دليل عقلي علمي حسي على وجود الخالق، وهنا نضيف لها المستحيل الخامس: وهو أن تقوم الدولة المدنية أو الدولة الحديثة على أسسها الفكرية وتحققها في الواقع، فتجمع بين الديمقراطية والعلمانية والليبرالية والرأسمالية في الوقت نفسه الذي تستطيع فيه أن لا تتضارب الأسس الفكرية بعضها مع بعض بصورة تبقي على تلك الأسس وتحافظ على قدرتها على البقاء وعلى إنتاج الغايات، وأن توجد الآليات الحقيقية التي تضمن بناء الأنظمة على الأسس الفكرية، بشكل يحقق الغايات من هذه الفلسفات الفكرية المتناقضة، ويحقق استناد الدولة إلى سلطان وسيادة الأمة على الحقيقة، فتكون دولة شرعية، وأن لا يأكل قويُّ هذه الفلسفات ضعيفَها ويصيبه بالسكتة القلبية!

والخلاصة إذًا، هي أن الأساس الذي قام عليه النظام الديمقراطي الليبرالي العلماني أساس واه، لا يصلح لإنتاج تشريعات ولا للتوافق مع الأسس الفكرية التي بُنيت عليها تلك النظريات، ولم ينجح في التوفيق بين تلك الأسس، وبالتالي فَقَدْ فَقَدَ كل مسوغ لوجوده واستمراره، وثبت أنه يكرس تحكم الأحزاب السياسية التي تخدم الطبقات الثرية في المجتمعات، وأنه لا يمثل سيادة الشعب ولا إرادته، ولا يمتلك أي مسوغ لطاعته في الدستور والتشريعات، الأمر الذي يفتح الباب واسعًا للعودة للأصل السليم، وهو وضع التشريعات والتنظيم لحياة البشرية في يد التشريع الإلهي الرباني. [يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *