العدد 418 -

السنة السادسة والثلاثون، ذو القعدة 1442هـ الموافق حزيران 2021م

الغرب على حافة الانهيار والإسلام عائد

فائق نجاح – ولاية باكستان

قبل مائة عام ظنّ الغرب أنه هزم الإسلام أخيرًا بإسقاط الدولة الإسلامية التي ظلّت قائمة منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي العقود التي تلت ذلك، عزَّز الغرب انتصاره على المسلمين بتطبيق أنظمته في الحكم على المسلمين، وفرض نموذج الدولة القومية الأوروبية الغربية، وتطوير ثقافة وطنية علمانية جديدة في كل بلاد المسلمين. وعندما أُجبرت الدول الأوروبية المنهَكة على سحب جيوشها من بلاد المسلمين، سلّمت السلطة لفئة محلية تدين بالولاء للغرب وتحمي مصالحه، وتستمر في فرض نمط الحياة الليبرالية العلمانية في البلاد، أي تكون الضامن لتطبيق المخطط الغربي. كان الغرب واثقًا جدًا من هزيمته للإسلام لدرجة أنه فتح أراضيه لإعادة توطين الملايين من المسلمين، على أمل أنهم سيتبنَّون الثقافة الغربية العلمانية كاملة وأسلوب الحياة الغربي، تمامًا كما فعل قادتهم الخونة من قبل.

 لكن في غضون خمسين عامًا بعد هدم الخلافة العثمانية، برزت حركات متجددة لإعادة إحياء الأمة الإسلامية من جديد، وردًّا على ذلك لجأ الحكام العملاء إلى تبنّي بعض الأحكام الإسلامية بشكل سطحي وتغليف بعض القوانين والهيئات بالقشور الإسلامية، أو لجؤوا إلى اعتماد الديكتاتوريات المستبدة للحفاظ على حكمهم، أو مارسوا كليهما. وفي موطن الغرب تم استرضاء الجاليات المسلمة المهاجرة أولًا بـ«التعددية الثقافية»؛ ولكن بعد ذلك تمَّ ترهيبها بشكل متزايد حتى تتوافق تمامًا مع المعايير الليبرالية العلمانية الغربية. أخيرًا، وفي العقدين الماضيين، وباسم ما يسمى بـ«الحرب على الإرهاب»، بدأ الغرب حملته الصليبية العالمية الصريحة والمنظَّمة باستخدام جميع الوسائل والأساليب الخبيثة لمنع عودة الإسلام مرة أخرى وعرقلة نهضة الأمة الإسلامية واستعادة سيادتها؛ ومع ذلك، لا يزال صعود الإسلام مستمرًا، ولا يزال وعي الأمة على هويتها وتاريخها المجيد وعلى مسؤوليتها الكبيرة تجاه نفسها وتجاه البشرية جمعاء يزداد. نعم، يخشى الغرب عودة الإسلام ليس فقط لأنه سيفقد قدرته الحالية على السيطرة على البلاد الإسلامية الشاسعة ومواردها؛ ولكن أيضًا لأنه يعرف جيدًا الحدود الفعلية للسيطرة الهشة والآنية لحضارته الفاسدة.

تعرض الحضارة الغربية نفسها على أنها تتويج لقرون من التقدُّم والتطوُّر البشري باعتبارها استكمالًا لآلاف السنين من الإنجازات البشرية، وسليلة الحضارات الرومانية واليونانية؛ لكن الحقيقة هي أن الحضارة الغربية لم تُبنَ إلا على الأكاذيب والخداع نتيجة الاختيارات الخاطئة والتسويات الملتوية. وقد أصبحت العواقب الوخيمة للمادية الغربية تتضح أكثر في ظل تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وفي ظل تدهور معايير الإعلام والتعليم، والحكم الفاسد، والسياسة الخارجية المزعزعة للاستقرار.

لقد فشل النظام الاقتصادي الرأسمالي في الغرب؛ ولكن تمَّ إخفاء عيوبه باللجوء إلى سلسلة من الترقيعات المرتجلة. إنّ بناء نظام اقتصادي كامل قائم على حرية الملكية لا يمكن إلا أن يؤدي إلى استغلال الأقوياء للضعفاء واستغلال الأغنياء للفقراء. ففي البداية يتمُّ تعزيز النشاط الاقتصادي، مثل الحمى من المرض، ولكن بعدما يتم استنزاف الأثرياء لرأس المال، وتتركَّز التجارة في أيدي حفنة قليلة منهم، يضعف النشاط الاقتصادي ويتضاءل، تمامًا مثل الجسم السرطاني الذي يلتهم الجسد. لقد فشلت الرأسمالية فعليًا خلال أقل من قرن (منذ اندلاع الثورة الصناعية)، لكن تم تدارك سقوطها التام من خلال سلسلة من التعديلات والترقيعات، وقد تمَّ إدخال الكينزية من أجل إعادة توزيع الثروة جزئيًا على الأقل، على الرغم من أنه بسبب الإدخال الموازي للنقود الورقية، ظلت الثروة الحقيقية مع النخبة، بينما تم تداول كميات أكبر من الأموال المزيفة بين أيدي الناس، وتحولَّت الحكومات من الكينزية إلى النظرية النقدية للسيطرة على التضخُّم مرتفع الناتج، بينما أصبحت السبل الجديدة لتكوين الثروة متاحة فقط للنخبة من خلال توسيع التمويل الخاص وبناء اقتصاد النخبة الموازي. تُحقِّق الرأسمالية المظهر الكامل للثروة المتداولة بين قلة قليلة من الرأسماليين، بينما يتمُّ التخلي عن بقية المجتمع للركود الاقتصادي، وإذا كانت الدول الغربية لا تزال مزدهرة نسبيًا، فهذا ليس بسبب قوة اقتصاداتها المحلية؛ ولكن بسبب سياساتها الخارجية العلمانية التي تتيح لها الوصول إلى ثروات العالم بأسره وموارده.

يتزامن فشل النظام الاقتصادي الغربي مع فشل نظامه الاجتماعي، وبما أن حرية التملك تؤدي إلى الاستغلال الاقتصادي، فإن حرية الفرد تؤدي إلى الاستغلال الطبقي. وبينما الأقوياء يعيشون في بذخ ويستمتعون بحياتهم لأقصى حد، يُترك الضعفاء والمهمَّشون (الصغار وكبار السن) لضنك العيش، بدعم شبه معدوم من الأسرة والمجتمع. وخوفًا من العواقب السياسية لمثل هذه الطبقية، فإن الحكومات الغربية لديها وصفة «سحرية» تسمّيها الإنفاق «الاجتماعي»، هو الأكبر ميزانية لدى الدول، ويُقدَّر الإنفاق الحكومي الأمريكي «الاجتماعي» بعشرة أضعاف ميزانيتها العسكرية، وهو عبء ثقيل على المالية العامة، ومع ذلك لا يزال الكثيرون في الغرب يعيشون بشكل غير مستقرٍّ؛ حيث يعيش أكثر الناس معتمدين على الراتب الشهري، ولا يستطيعون العيش إن انقطع الراتب لشهر أو شهرين؛ لذلك أصبح من الطبيعي أن يتورَّط الكونجرس الأمريكي في صراع داخلي سنوي حول مخصصات الميزانية، إلى حد إغلاق عمل الحكومة حتى يتمَّ التوصل إلى حل وسط بين الفرقاء، ومع التحوُّلات الديموغرافية المستمرة، سيتوجب تمويل العدد المتزايد من كبار السن من الإيرادات الحكومية التي يتمُّ جمعها من القوة العاملة التي تتقلص باستمرار، وهي معادلة مستحيلة، ولا تزال الفردية تواصل القضاء على العلاقات المجتمعية المتينة؛ بينما لا يمكن لأي حضارة أن تهنأ بدون عائلات ومجتمعات قوية.

يتمُّ حجب الكثير من أوجه القصور في الحضارة الغربية من خلال نظام التعليم ووسائل الإعلام التي يتمُّ توظيفها للخداع والدعاية الخبيثة لدعم التفوُّق المزعوم لنظام الحياة الغربية؛ ولكن عدم مصداقية الإعلام الغربي تتكشف بشكل متزايد في الداخل والخارج، وتسويقها يحرفها عن أي مهمة جادة لنقل الحقيقة الواقعية، وهو انحراف سهل لتأسُّسِ الإعلام على فكرة حرية التعبير بدل نقل الحقيقة. كما تتمُّ مراقبة التعليم عن كثب لإشباع كل جيل جديد بقناعات خاطئة عن المبادئ التي تقوم عليها الحضارة الغربية؛ ولكن التعليم الغربي مزعزَع باستمرار بسبب الطريقة التجريبية الغربية في التفكير، التي تولي اهتمامها الأساسي للواقع المحسوس في عملية التفكير؛ ولكنها تفشل في إدراك الحاجة إلى المعلومات السابقة من أجل فهم هذا الواقع، وهكذا فقد أصبح التدريس الغربي على نحو متزايد بسيطًا وبعيدًا وغير مباشر؛ حيث يرى أن دوره لا يتمثَّل في نقل المعرفة من جيل لآخر، بل التسهيل على الطلاب تفاعلهم المستقل مع الواقع، كما لو أنها تعتبر الناس حيوانات غير قادرة على التعلم من أسلافها.

قيل لشعوب الغرب إن النظام الحاكم الغربي مسؤول عن شؤونها الخاصة؛ لكنه في الواقع لا يخدم الشعب بل يخدم النخبة. لقد تمَّ تصميم نظام الحكم الغربي «الحكومة المختلطة» لخدمة مصالح الطبقة الأرستقراطية، بشكل صريح من خلال السماح بممارسة السلطة التنفيذية من قبل ملك واحد، بالإضافة إلى الاهتمام المفترَض أيضًا بمصالح عامة الناس. وبعد مواجهة محاولات الثورات في القرن التاسع عشر، بدأ الغرب في الادِّعاء بأنه يغيِّر أنظمته الحاكمة وفقًا للديمقراطية؛ لكن في الحقيقة استمرَّت الأنظمة نفسها في السلطة مع تعديلات سطحية طفيفة، ويعرِف القادة الغربيون أن فكرة الديمقراطية خيالية غير واقعية وغير عملية، ففي حين إنه من الضروري أن يتولى الناس ككل مسؤولية رعاية شؤونهم الخاصة، فمن غير الممكن أن يشرّع الناس بشكل جماعي قوانينهم الخاصة؛ لكن الديمقراطية مفيدة فقط لإبقاء الناس يدورون في فلك الحكومة، أو في أفضل الأحوال لجعل السياسيين يظهرون اهتمامًا سطحيًا بالناس لتهدئة غضبهم عن التحول إلى الثورة. في نهاية المطاف، فإنه في كل ديمقراطية يتم وضع القوانين التي تحابي النخبة؛ مما يؤدي إلى إيجاد أنظمة حكم تزيد استغلال عامة الناس سهولة.

لكن ربما يكون أعظم شرٍّ ارتكبه الغرب من خلال سياسته الخارجية، وباسم بناء نظام عالميٍّ سلمي، أن قام في الواقع بتكرار النموذج الإمبراطوري الأوروبي على نطاق عالمي؛ وقد كان غرض تلك الإمبراطوريات التاريخية هو نهب ثروة مستعمراتها ومواردها لصالح الإمبراطورية الأم، وعلى سبيل المثال، كانت الهند المسلمة الاقتصاد الأكبر والأكثر ازدهارًا وتقدمًا على وجه الأرض؛ ولكن في ظل الاستعمار البريطاني، أصبحت الهند واحدة من أفقر مناطق الأرض، في حين إن بريطانيا أثْرت نفسها بشكل كبير لتصبح القوة العظمى العالمية؛ ولكن عندما أُجبر الغرب على تفكيك إمبراطورياته بسبب الصراع والاقتتال الداخلي بين الدول الغربية نفسها، أنشأ الغرب مكانها كيانات سياسية واقتصادية وعسكرية عالمية شاملة لإدامة الإمبريالية الغربية بشكل خفي، فتم الحفاظ على الهيمنة السياسية للقوى الغربية من خلال فرض مفهوم القانون الدوليِّ المبنيِّ على النظرية القانونية الغربية، مما وفَّر فرصًا لا تنتهي أمام التدخل الغربي في شؤون الدول غير الغربية لإجبارها على الامتثال للقوانين والأعراف الغربية، وهذا هو معنى الهيمنة الغربية، وبدعم من منظمات دولية مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، والتحالف العسكري لحلف شمال الأطلسي… وغيرها، وكلها مصمَّمة للحفاظ على تفوُّق الغرب وهيمنته على العالم. لقد تمَّ تصميم المعاملات الاقتصادية والتجارية العالمية بدقة بالغة في الغرب للاستفادة من الثروة والموارد والنشاط الاقتصادي في باقي أنحاء العالم؛ حيث تتيح مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي وصول الغرب الكامل إلى مال الدول المستعمَرة رغم استقلالها الرسمي. ولضمان استمرار التفوُّق العسكري الغربي، تمَّ تصميم اتفاقيات «دفاعية» بين الدول الغربية وغير الغربية. وعندما تفشل مثل هذه الترتيبات، يلجأ الغرب إلى الغزو واحتلال الدول المتمرِّدة باسم السلام العالمي، غيرَ مهتم بما إذا كانت ضحاياه جنودًا أو مدنيين، صغارًا أو كبارًا، رجالًا أو نساءً، بل وتشجعه عقائده العسكرية على تطوير أساليب ووسائل تمكِّنه من استهداف المدنيين بشكل مباشر.

لا يمكن أن تستمر هيمنة الغرب المجرمة إلى الأبد، كما أنه ليس من الممكن للغرب أن يصلح نفسه طالما أنه يتبنّى العقيدة الليبرالية العلمانية الزائفة التي لم يتوصل إليها بعد تفكير وبحث صادقين، بل جاءت كحل وسط لإحباط الحركة المادية المتمرِّدة التي كانت رائدة الشيوعية، والتي خاضت صراعًا فكريًا ضد العقيدة المسيحية والنضال السياسي ضد الاستبداد المزدوج للملوك ورجال الدين النصارى في أوروبا، وإيجاد فرصتهم في أعقاب الصراعات الطائفية في أوروبا.

لقد كان الغرب النصراني يتبع طريقة التفكير اليونانية، والتي افترضت أنه من الممكن إثبات أي فكرة من خلال الطريقة المنطقية في التفكير، واستخلاص النتائج المطلوبة من المقدمات البديهية العامة، ولم يكن المنطق المعقَّد بحد ذاته مشكوكًا فيه فحسب، بل افترض الإغريق أن المقدمات العامة لا تتطلب دليلًا مستقلًا؛ لأنهم رأَوا أن العقل قادر على اكتشاف الحقيقة من خلال التأمل فقط، بغض النظر عن الإدراك الحسي أو المعلومات السابقة، بالتالي فإن كل البراهين النصرانية المزعومة لوجود الخالق، سواء أكانت كونيَّة أم وجوديَّة أم غائيَّة، كانت في الحقيقة مجرد تخمين، وكان الماديون قادرين بسهولة على مواجهة هذه «البراهين» الخاصة بهم، والتي تدعم أزليَّة الكون باستخدام الطريقة العقلانيَّة اليونانيَّة نفسها التي كان النصارى يستخدمونها، واستجابة لذلك لجأ المفكرون النصارى إلى تغيير طريقة تفكيرهم من العقلانية إلى التجريبية، ويرجع الجانب العلماني من العقيدة الغربية إلى تبني التجريبية، والتي وَفقًا لها لا يمكن إلا أن نعرف بشكل قاطع ما يتمُّ الشعور به بشكل مباشر. وبما أن الدين مبنيٌّ على معرفة ما هو أبعد من هذا العالم، فإنَّ كلَّ الأمور الدينية أصبحت تخمينيَّة وخارج نطاق النقاش العقلي، وبالتالي إسكات الهجمات الفكرية المادية على الدين على حساب فصل الدين عن الحياة.

من الناحية السياسية، تعاون الملوك ورجال الدين في أوروبا معًا لفترة طويلة في استغلال الناس والاحتفاظ بالسلطة والثروة لأنفسهم وحدهم، ثم جاء الجانب العلماني للعقيدة الغربية من التبنِّي المعدَّل للحريَّة الماديَّة والديمقراطيَّة، فقد آمن الماديُّون بالكون الأزليِّ الحتميِّ، ودعَوا إلى الحريَّة والديمقراطيَّة حتى يتمكَّن الإنسان من التعبير بشكل كامل عن الدوافع الأنانيَّة، ويفترضون أنفسهم – الماديُّون – يشكِّلون الطبيعة البشرية بأكملها. ومن خلال تبنِّي العلمانية كان الغرب قادرًا على إسكات الهجمات السياسية للمادية على المؤسسة الحاكمة في أوروبا.

إذا كان الغرب العلماني قادرًا على العمل لفترة طويلة بعد مثل هذه التسوية القبيحة، فهذا يرجع فقط إلى تأثره بوتيرة بطيئة للغاية بتراث الأفكار والقواعد التي لا تزال قائمة منذ العصر السابق، ليس تراث روما أو اليونان بل تراث الإسلام. إن الغرب مدين للإسلام ليس فقط في تقدمه في الرياضيات والعلوم الفيزيائية والتكنولوجيا… ولكن أيضًا في إنجازاته عبر الفنون في مجملها، وكذلك في الفكر والفلسفة وأنظمة الحياة، والتي استحوذوا عليها إلى حد كبير من المسلمين؛ ولكنهم أعادوا صياغتها في إطار نصراني غير إسلامي. لا يمكن معرفة مقدار مساهمة اليونان فعليًا في التعلُّم البشريِّ حيث لم تعد سجلات الحضارات السابقة متاحة، وعلى سبيل المثال فقدان المكتبة المصرية العظيمة بالإسكندرية في العصور القديمة. وعلى الرغم من أن روما كانت بالفعل القوة الرائدة في عصرها؛ إلا أن الانهيار المبكِّر للنصف الغربي من الإمبراطورية الرومانية، إلى جانب عاصمتها الأصلية روما، ترك حضارة الغرب في حالة تخلُّف. لقد كان صعود الإسلام في الواقع هو الذي أحيا الغرب من خلال تواصله مع المسلمين في الأندلس؛ حيث أثار الإسلام دهشة الغرب، ثم من خلال الاتصال بالحضارة الإسلامية في صقلية، والتي نقل حكامها اللاحقون النورمانديون إلى بريطانيا بعد أن غزا النورمانديون تلك الأرض أيضًا، ثم من خلال الاتصال العميق مع قلب العالم الإسلامي أثناء الحروب الصليبية، ثم من خلال الاتصال بالدولة العثمانية، والتي يمكن اعتبارها أول قوة عظمى عالمية حقًا، مع سيطرة كاملة على البر والبحر. استمر الغرب في العيش في ظل الإسلام حتى تسبَّب الضعف الداخلي الدخيل في سقوط الدولة العثمانية من موقعها كدولة رائدة. وفي ذلك الوقت فقط (في أواخر القرن الثامن عشر) تمكن الغرب من التفوُّق على المسلمين، ودخلت دوله في صفوف القوى العظمى، وانبثقت حضارته من ظل الإسلام لتتبع مسارًا مختلفًا تمامًا وغير ديني، بعد أن قام الغرب بالفعل بمساومة شريرة مع الفكر المادي. إنّ العقيدة الكاذبة التي يتبنَّاها الغرب مستمرَّة في تقويض أي خير بقي فيه من اتصاله بالإسلام، وتعثُّر الغرب واضح لأولئك القادرين على رؤية ما وراء التلقين والدعاية الغربية. ومع كل جيل جديد، يتبنَّى الغرب خزعبلات جديدة باسم اتباع الحرية والديمقراطية، فرفض الشباب أعراف كبار السن، ولم يعد كبار السن قادرين على قبول الاتجاهات التي يتبعها شبابهم أو فهمها. بالنسبة لأصحاب المعرفة لن تتمكن الحضارة الغربية من الاحتفاظ بسيادتها إذا وجدوا الحضارة الإسلامية كبديل حضاري.

لم تكن الخسارة السابقة لدولة الخلافة الإسلامية نتيجة لانحدارٍ حضاريٍّ لا مفرَّ منه، بل على عكس الغرب الكافر، فإن العقيدة الإسلامية صحيحة وستظل صحيحة، ومن الخطأ اعتبار الأفكار العقائدية مجرد تخمينات، فالطريقة الصحيحة في التفكير قادرة على إنتاج استنتاجات فكرية تتجاوز إدراك المرء للحسِّ المباشر. والعقيدة الإسلامية لا تعتمد على التعميم الاستقرائي التأملي ولا على فرضية بديهية غير مثبتة، بل تبني العقيدة الإسلامية استنتاجًا فكريًّا محدَّدًا من خلال الإدراك الحسِّي المباشِر، دون الحاجة لأيِّ تكهُّنات. لم يكن سقوط الدولة الإسلامية ناتجًا عن خطأ ما في حضارتها وعقيدتها؛ ولكن بسبب تراكم الأفكار الغريبة الفاسدة التي أحاطت العقيدة كما تحيط الأعشاب الجذور. إن هذه العقيدة الإسلامية الخالصة هي التي تشتعل الآن رغم الانحطاط المتراكم عبر العصور، وتنبئ بنهضة جديدة في الأمة الإسلامية، إن الفهم المتجدِّد لحقيقة الإسلام ينتشر في الأمة الإسلامية، وكذلك الوعي بخداع الغرب، ونظام الحكم في الإسلام أرقى بكثير من تلك النظم التي طوَّرها الغرب. ولقد كان النظام الاقتصادي في الإسلام، الذي طُبق في بلاد المسلمين، هو الذي أنتج ازدهارًا لا مثيل له أثرى حتى بلاد الغرب من خلال تجارتها في بلاد المسلمين. كما كان النظامُ الاجتماعيُّ الإسلاميُّ هو الذي أوجد الانسجام في المجتمع لبناء أسر وكيان قوي، وقد كان نظام التعليم في الإسلام هو الذي أرسى الأسس الحضارية المبنية على المعرفة والتعلُّم، والتي جذبت النخبة الغربية إلى بلاد المسلمين، وقد كان نظام العقوبات في الإسلام هو الذي مكّن شعوبًا واسعة ومتنوِّعة من العيش معًا في سلام وعدل آمنين وهم يعرفون أن حقوقهم مصونة، وكانت السياسة الخارجية في الدولة الإسلامية هي التي أوجدت الاستقرار في الشؤون الدولية، مقدمةً المصالحة السياسية على الاشتباك العسكري، وقصرت الحروب على الاشتباكات المهنية بين الجيوش المدرَّبة.

يعرف الغرب الآن أنه فشل في هزيمة الإسلام فكريًا، وأنها مسألة وقت قبل أن ينتصر الإسلام سياسيًا، وقد قامت أمريكا (زعيمة العالم الغربي الحالي) بمحاولة أخيرة لوقف الإسلام من خلال شنِّها حربًا تسمى «الحرب على الإرهاب» حيث جلبت مئات الآلاف من جنودها إلى بلاد المسلمين؛ ولكن الجيوش الغربية فشلت في قيادة المسلمين وإخضاعهم، وأُجبرت على المغادرة بأسرع ما يمكن للاحتفاظ بسلامتها، فاكتشفت أمريكا مرة أخرى ما عرفه أسلافها الغربيون الكفار منذ زمن طويل، وهو أنه لا يمكن هزيمة المسلمين في ساحة المعركة. وبعد كارثتي العراق وأفغانستان، تبنَّت أمريكا أسلوبًا جديدًا، وهو توظيف جيوش المسلمين ضد بعضها البعض، مستخدمةً تركيا للتدخل في سوريا، والسعودية للتدخل في اليمن، ومصر للتدخل في ليبيا، فهي خائفة حتى من الدول التي يحكمها عملاؤها، وتقوم بموازنتها ضد بعضها البعض، فتحرِّض السعودية ضد إيران، وتركيا ضد مصر… لكن إلى متى يمكن للغرب أن يستمرَّ في مثل هذه المكائد من بعيد غير قادر على الحكم مباشرة في بلاد المسلمين؟! بإذن الله، ستطيح الأمة الإسلامية عما قريب بالطبقة الحاكمة العميلة التي فُرضت عليها، وتعيد إقامة دولة الخلافة الإسلامية الراشدة على منهاج النبوة، التي ستستأنف الحياة الإسلامية بالكامل، وتوحِّد جميع بلاد المسلمين، وتحرِّر البلاد المحتلة، وتعمل مرة أخرى على حمل  نور الإسلام إلى العالم أجمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *