العدد 411 -

السنة الخامسة والثلاثون – ربيع الثاني 1442هـ – تشرين الثاني 2020م

الحضارة الرأسمالية وفساد نظرتها الداروينية للحياة1(1)

الساريسي المقدسي – بيت المقدس

صدم رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون مواطنيه بتاريخ 12/3/2020م بشأن وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)قائلًا: «سأكون صريحًا معكم، ومع كل الشعب البريطاني، عائلات كثيرة، كثيرة جدًا، ستفقد أحباءها قبل أن يحين وقتهم» وتحدَّث كبير المستشارين العلميين للحكومة البريطانية باتريك فالانس إلى احتمال ترك فيروس كورونا يصيب نحو أربعين مليونًا من سكان المملكة المتحدة، أي 60% من السكان، للوصول إلى «مناعة القطيع»، (الجزيرة نت: 15/3/2020م). وأشارت كبرى مجلات السياسة الخارجية الأمريكية «فورين بوليسي» في تقريرها إلى اعتراف حكومة جونسون بأن استراتيجيتها بالسماح للفيروس بالانتشار وبناء الحصانة كانت فاشلة. ونقل عن الدكتور تيدروس غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية: «فكرة أن البلدان يجب أن تتحول من الاحتواء إلى التخفيف هي فكرة خاطئة وخطيرة». (القبس: 14/3/2020م). فما هي خلفية سياسة «مناعة القطيع» البريطانية في إطار فلسفة الحضارة الرأسمالية القائمة؟ ولماذا فشلت وتراجعت بريطانيا عنها؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه بالغوص في المفاهيم المؤسسة لحضارة الرأسمالية.

تنهض هذه المقالة على فرضية أن جذر وأساس الرأسمالية فاسد، لأنه يقوم على النظرة الداروينية للحياة، والتي ولدت من رحم نظرية الحق الطبيعي ووهم التطور، وهذه النظرة الداروينية تلحظ في فكر العديد من المفكرين الغربيين – وخصوصًا الإنجليز- كآدم سميث واضع قواعد الاقتصاد الرأسمالي،

1 جدير بالتنويه أن مجلة الوعي في العددين رقم (394 و 395 ) نشرت موضوعًا بعنوان “فساد الحضارة الرأسمالية وقرب انهيارها” وذلك في شهري ذي القعدة وذي الحجة 1440 هـ الموافق شهري تموز وآب 2019م، وأجلى الموضوع فساد هذه الحضارة الرأسمالية، وأوضح بأن هذا الفساد قد بان لأهلها، وقامت محاولات لاستبدالها بحضارة غيرها وهي الحضارة الشيوعية، غير أن تلك الحضارة فشلت ثم انهارت. ولكننا في معرض تفصيلنا لذلك الموضوع في ذلك الحين، لم نقم بالتعرض لتفاصيل الفساد ومظاهره، لا في الفكرة الأساسية في الحضارة الرأسمالية ولا في الأنظمة المنبثقة عنها، حيث ذكر في حينه بأن أمر فساد الرأسمالية قضية واضحة عند الرأسماليين أنفسهم، وبرز ذلك بشكل جلي عند منظري المبدأ الاشتراكي.

وكذلك يمكن تتبع جذورها لدى منظري الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي ونشوء الدولة كتوماس هوبس وجون لوك وروسو ومالثوس، والتي طرحت كبديل لنظرية الحق الإلهي، وقد تبلورت هذه النظرة الرأسمالية الداروينية للحياة بشكل واضح لدى تشارلز داروين، ثم تفرعت عنها الداروينية الاجتماعية لاحقًا.

وتهدف هذه المقالة إلى تبيان أوجه ومظاهر الفساد في الحضارة الرأسمالية من زاوية نتائج المفاهيم التي تأسست عليها وهي (الداروينية، والحق الطبيعي، والعلمانية)، وكذلك تبيان فسادها من زاوية ما نتج عن تطبيقات الأنظمة التي انبثقت عن هذه القاعدة الفكرية. ونقصد بالفساد إخراج

الشيء عما أُعد له. والمقصود بفساد النظرة الداروينية للحياة هو فساد الأساس والأصل الذي قامت عليه، وكذلك فساد النتائج التي تولدت عن الحضارة الرأسمالية والتي كانت وما زالت خطيرة على البشرية جمعاء من حيث إفسادها للعيش ثم الشقاء النفسي وإتعاس الإنسان بدل إسعاده. 

لقد أنتجت النظرة الداروينية الرأسمالية للحياة الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأنتجت الحروب والصراعات ثم العنصرية والقومية وغيرها من الشرور، حتى أشار بعض الرأسماليين الغربيين أنفسهم إلى قبح وإجرامية هذه النظرة وبالأخص ما انبثق عنها من داروينية اجتماعية، والتي توجت بالأفكار العنصرية الأوروبية كالنازية والفاشية.

ثم تسعى المقالة إلى تبيان النظرة الداروينية الفاسدة للحياة بأنها روح تسري في جميع الأفكار والأنظمة الرأسمالية، ويمكن بذلك إدراك سبب تبني بعض الدول لسياسة «مناعة القطيع» في مجال الطب التي تقع في ذات السياق، ثم ندرك لماذا فشلت هذه السياسة كنموذج وتراجعت عنها بريطانيا وأمريكا. والخلاصة النهائية أنه ما لم تجتث هذه الروح الرأسمالية الشريرة الفاسدة، فلن تتخلص البشرية من هذا الفساد خاصة وأن هذه الداروينية غير مقصورة على الداروينية الاجتماعية فقط، وانما تجاوزتها لتصبح نظرة عامة للحياة، وروحًا تسري في جسد الحضارة الرأسمالية كلها من رأسها حتى أخمص قدميها.

الداروينية الاجتماعية الوجه الأقبح والأفسد للرأسمالية

نشأت الداروينية الاجتماعية معتمدة على قانون الانتخاب الطبيعي الذي نادى به عالم الأحياء الإنجليزي تشارلز داروين في تفسيره لخرافة تطور الكائنات الحية وقدرتها على التكيف والبقاء في الصراع، وقد نظَّر الداروينيون الاجتماعيون وأهمهم هربرت سبينسر ووالتر باغهوت لفكرة تفوق نخب مصطفاة من الجنس البشري مقابل تخلف أصناف أخرى منه، بالاعتماد على نظرية داروين وقانون الانتخاب الطبيعي ذاته.

لقد أكمل سبينسر مسيرة أستاذه داروين وأستاذ أستاذه مالثوس، معتبرًا أن بعض المجموعات البشرية استطاعت التكيف والتطور اقتصاديًا وعلميًا، مقارنة بمجموعات أخرى بقيت متخلفة، فيكون استغلال أو استعباد المجموعات المتخلفة من قبل المجموعات المتطورة في نظره أمرًا عاديًا، بل هو قانون الطبيعة الذي لا تجوز معاندته.

وقد ظهر مصطلح «الداروينية الاجتماعية» لأول مرة عام 1879م في مقالة لــ«أوسكار شميدت» ثم تم تداول المصطلح ودرج في العالم الناطق بالإنجليزية متأخرًا، فقام المؤرخ الأمريكي«ريتشارد هوفستاتر» بنشر مؤلفه «الداروينية الاجتماعية في الفكر الأمريكي» خلال الحرب العالمية الثانية عام 1944م. وذلك بالرغم من شيوع النظريات حول الارتقاء الاجتماعي والارتقاء الحضاري في أوروبا خلال عصر «التنوير» قبل داروين. وتتميّز الداروينية الاجتماعية بأنها تستمد أفكار داروين من حقل علم الأحياء في التطور والصراع والبقاء للأصلح وتطبقها على الدراسات الاجتماعية والمجالات السياسية.[1]

إن فساد النظرة الداروينية الاجتماعية للحياة وقبحها واضح وضوح الشمس حتى للرأسماليين أنفسهم، فهم يرونها نظرة عنصرية غير إنسانية، تقسم الناس على أساس العرق واللون والشكل الخارجي، وتؤجج الحروب والصراعات وتؤدي إلى الاستغلال والاستعمار وإلى الإبادات الجماعية للبشر، فكل الشرور تتجسد فيها؛ لذلك هم يحاولون التملص والتنصل منها ويدعون محاربتهم لها بلا هوادة!!

خطورة ما نتج عن النظرية الداروينية تاريخيًا

بسبب النتائج الخطيرة التي ترتبت على الداروينية السياسية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، والتي توجت بقيام حرب عالمية ثانية صارع فيها الرأسماليون بعضهم بعضًا، حيث هزم الطرف المنتصر الدول التي حملت أفكار النظرية الداروينية الاجتماعية للحياة كالنازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعنصرية اليمينية التي تفشت في كل أنحاء أوروبا، فلمس الغرب بيديه بل بدمه خطورة أفكار المدرسة الداروينية الاجتماعية والسياسية، وأخذ يعمل على محاربتها واستئصالها.

ولكن الغرب الرأسمالي بعدما رأى مكامن الخطر في هذه الفكرة الداروينية على الغرب نفسه، ادعى التخلي عنها ومحاربتها، بيد أنه لم يعالج هذا الفساد من جذوره بتحديد أصول هذه الفكرة وأسباب نشوئها ثم التخلص منها، بل اكتفى بترقيع نتائج هذه الفكرة التي ألحقت به أفظع الأضرار، وأبقى الجذور والأصول المولدة للداروينية كما هي. وهذا يدلنا على وجود خلل متأصل ما زال قائمًا في الحضارة الرأسمالية وفي طريقة تفكيرها، خصوصًا طريقة تفكيرها الفاسدة التي قُطعت عن السببية والغائية.

فعند النظر في الكثير من الأفكار والأنظمة التي انبثقت عن الحضارة الرأسمالية كالاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها، نجد أن روح النظرة الداروينية ما زالت تدفعها وتحركها. فالغرب ما زال يطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي، وعند التمحيص الحقيقي نجد أن النظرية الاقتصادية الرأسمالية تقوم على نفس النظرة الداروينية للحياة، وهو لا يقل خطورة في نتائجه عن نتائج الداروينية السياسية.

هذا غيض من فيض مما نتج من مخاطر -عبر التاريخ- عن النظرة الدراوينية للحياة، ومما حدث من مساوئ وجرائم وإجحاف وفساد على الغرب نفسه وعلى العالم؛ ولكن أهل هذه الحضارة الرأسمالية لم يريدوا أن يواجهوا حقيقة فساد الأصول التي قامت عليها حضارتهم؛ لأنهم قد ساروا أشواطًا بعيدة في تطبيق هذه الحضارة وفي فرضها على العالم بالقوة وبالاستعمار وبالإعلام المزيف وبجيوش العملاء الفكريين والسياسيين التابعين لهم؛ ولذلك هم لا يريدون التراجع عن فسادهم بسبب تحكم طغمة رأسمالية فاسدة ومستفيدة من هذه الأوضاع وهي لا تريد تغييرًا، وعامة الرأسماليين لا يميلون إلى القيام بالتغيير من الداخل بفعل قوة الاستمرار أو القصور الذاتي المؤثر على بقاء واستمرار وجود وجهة النظر وأنظمة الحياة.

إذًا، حتى وإن نبذ الغرب فكرة الداروينية الاجتماعية بعد أن اكتوى بنارها في حربين عالميتين، إلا أن تأثيرها الباقي في صور مثل الليبرالية الفردية والرأسمالية التي تركز القوة بيد الشركات الأقوى، والهوية الوطنية التي تركز فكرة الانتماء لجماعات بشرية تنظر لنفسها بصورة مستعلية على غيرها وما شاكل، يجعل التخلص منها أمرًا صعبًا؛ ولذلك هم بحاجة إلى حضارة أخرى تشكل بديلًا صالحًا، لتقلع حضارتهم من جذورها وتطهر الأرض من فسادها، وحتى ذلك الحين ستستمر عملية الترقيع للثوب البالي لهذه الحضارة الرأسمالية، ثم محاولات القيام بعملية التأقلم مع الظروف التي تواجهها في العالم تحت اسم التطور، وربما تنحط أكثر وينخرها الفساد أكثر وتتعفن أكثر وأكثر.

الداروينية السياسية والقومية العنصرية:

نجم عن فكرة الداروينية الاجتماعية فكرة الدراوينية السياسية، والتي أدت إلى بروز مفهوم الدولة القومية والأفكار العنصرية في أوروبا، فالشعور القومي يقوم في أساسه على فكرة تفوق (مجموعة عرقية أو دينية) على الجماعات الأخرى والأديان الأخرى والتي تحمل بذور العنصرية. وقد أدى صعود هذه الفكرة القومية إلى حدوث العديد من الحروب بين الدول الأوروبية ذاتها خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين والأحزاب القومية المتنامية حتى يومنا هذا.

وبالتحليل النقدي العميق والجذري لمنطلقات الحركات القومية كالنازية أو الصهيونية، يظهر أن «سوسة» الداروينية الاجتماعية قد نخرت فيها بشكل ظاهر وصريح، إما في أفكارها أو في ممارساتها، فهتلر زعيم النازيّة قام بإحراق أصحاب الإعاقات الدائمة والمرضى والضعفاء وكذلك الأجناس غير الأوروبية لأنهم لم يستطيعوا التطور والتكيف مع البيئة؛ وتم اعتبارهم كملوثات للمجتمع الألماني المتفوق. وكذلك نشاهد هذا الأمر في فكر الحركة الصهيونية التي قامت على فكرة أن يهود هم شعب الله المختار، وأنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم من الأمم؛ لأن الله خلق الأمم الأخرى «كالحمير لخدمتهم».

ولا يزال الغرب يتبنى فكرة القومية التي أنتجتها النظرة الداروينية، وما زال يقوم بالدعوة لها بالرغم من أزمتها وأزمة الدولة القومية. فقد فشل الغرب في حل المسألة القومية، وخاض الأوروبيون معارك وحروباً دامية لفرض الحدود بين القوميات. فالفكرة القومية والنزعة الوطنية قسمت أوروبا دولًا صغيرة وأوطانًا مجزأة. فهذه الروابط الوطنية والقومية هي من تجليات العنصرية وشعور بعض الأعراق البشرية بتفوقها على الأخرى.

كما ظهر من تصرفات الدول الأوروبية وأمريكا أثناء تفشي وباء كورونا، أن كل دولة تسعى وتتصارع مع الدول الأخرى للحصول على الأطباء والمعدات الطبية كالكمامات وأجهزة التنفس دون محاولة التعاون المشترك مع بعضها لمواجهة الوباء، وهذا ناجم عن الأنانية المستحكمة والسعي وراء المصلحة الخاصة لكل دولة، والذي هو نتيجة تحكم فكرة صراع البقاء الداروينية فيهم.

مركزية وتفوق أوروبا وعلاقته بالاستعمار:

نظرًا لشعور الرجل الأوروبي عمومًا -وخصوصًا الساسة والمفكرين منهم- بالتفوق والتعالي على الشعوب الأخرى، حيث إن الرأسماليين الغربيين بدأوا يرون أنفسهم كمخلوقات أكثر تطورًا وتقدمًا. فمثلًا المفكر الألماني الموسوعي ماكس فيبر في كتابه الأشهر والموسوم بعنوان «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» والذي اعتبر أن الرأسمالية كانت مستحيلة في مجتمعات ليست مسيحية بروتستانتية.

وقد انبثق عن ذلك مفهوم تقسيم العالم إلى عالم غربي متحضّر وشعوب أخرى متخلفة، وبرر لهم هذا المفهوم أحقية استعمار شعوب العالم غير الأوروبية بحجة أنها تنتمي للأجناس البشرية الدنيا التي لا بد أن يتم تطويرها حتى تستطيع حكم ذاتها، وأن الحضارة الغربية يجب أن تنتدب عليها بحجة ترقيتها وتطويرها وتحضيرها. وليس هذا وحسب بل في مرحلة مستقبلية سوف تقوم الأعراق البشرية المتحضرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية في شتى أنحاء العالم.

الجذور العميقة للداروينية في الفكر الرأسمالي:

عند النظر في مؤلفات أكبر المفكرين الذين أسسوا للأفكار والأنظمة الرأسمالية، نجد أنهم يشتركون في الأصول والمنطلقات التي أسست وشكلت وجهة نظرهم عن الحياة، ونلاحظ أن أركان هذه النظرة للحياة قد اكتملت عند عالم الأحياء الإنجليزي «تشارلز داروين» ولذلك لا بأس من إلقاء بعض الضوء على نظرية داروين، من أجل فهم حقيقة النظرة الداروينية للحياة.

تحاول نظرية داروين تفسير نشوء وتنوع الأشكال المختلفة من الكائنات الحية بأنها ترجع إلى قانون التطور التلقائي العشوائي، والذي ينتخب أفضل الأفراد ليورثوا صفاتهم للأجيال القادمة من خلال آلية طبيعية تسمى صراع البقاء والبقاء للأصلح. فنظرية داروين تنطلق من فكرة الصراع بين الكائنات الحية، سواء بين أفراد النوع الواحد أم بين الأنواع المختلفة من الكائنات.

وتدعي نظرية داروين أن سبب أو سر الصراع هو تزايد أعداد الكائنات الحية ومحدودية كميات الغذاء التي توفرها الطبيعة. فالأنواع الحية تتكاثر وفق قانون متواليات هندسية في حين أن تكاثر الغذاء يجري وفق قانون متواليات عددية، أي أن عدد الأفراد يزيد بشكل تصاعدي أكبر من تزايد كميات الغذاء المتوفرة. فالمشكلة إذن هي محدودية الموارد الطبيعية والصراع بين الأنواع الحية الكثيرة عليها، وهو صراع من أجل البقاء في ظروف صعبة، والذي يفوز في هذا الصراع هو الأصلح، فبالتالي يكون البقاء للأصلح، والأصلح هو الذي يمتلك القوة لحيازة الثروة ويستطيع الدفاع عنها، وهو الذي يستحق ويُنتَخب من قبل الطبيعة ليورِّث صفاته إلى الأجيال القادمة، وهذا القانون هو الذي يؤدي إلى تطور الكائنات الحية، دون الحاجة لتدخل فاعل من قوة خارجية (خالق)، بل كل ما يجري يحدث بفعل قوانين طبيعية داخلية.

وقد اعتمدت الأفكار والنظريات اللاحقة التي نشأت في أوروبا على نظرية داروين، بوصف هذه النظرية علمًا طبيعيًا له موثوقية وشرعية علمية لنظرياتها ولأفكارها التي بنيت على هذه النظرية، كالداروينية الاجتماعية والاستعمار والنظريات العنصرية كالنازية والفاشية والقوميات المتطرفة… إلخ. وكذلك تم صبغ نوع من الشرعية العلمية للأفكار التي سبقت نظرية داروين كنظرية مالثوس في السكان، ونظرية الاقتصاد السياسي لآدم سميث وغيرها.

وفي هذه المقالة سنقوم بإطلاق اسم محدد على الأسس التي قامت عليها المدرسة العلمانية الرأسمالية، وما تبعها من نظريات في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وعلى كل الأنظمة التي انبثقت عنها، وهو النظرة الداروينية للحياة. ولسنا نعني بها أن داروين هو الذي أنشأها أو أسسها، بل هي نظرة متجذرة ومتأصلة في المبدأ الرأسمالي منذ بذرته الأولى في القرن السادس عشر الميلادي، استقاها داروين من أسلافه ولكنه أكمل بنظريته أركانها ثم نشرها ودعا إليها تحت غطاء العلم الطبيعي، فأصبحت هذه النظرة الداروينية للحياة هي النظرة الرأسمالية للحياة.

وبعد أن تبنى الغربيون نظرية داروين وتشربت قلوبهم روحها، أضحت النظرية الداروينية الاجتماعية أمرًا عاديًا ومقبولًا في العلوم الاجتماعية؛ لأنها أصبحت ذات شرعية باستنادها إلى نظرية علمية (داروين) وإلى قوانين الطبيعة، وانبثق عن هذه النظرة الداروينية الكثير من الأفكار العنصرية كالنازية والفاشية، وتأثرت بها الفلسفات الاشتراكية والوجودية وفلسفة نيتشه وكذلك نظريات فرويد في علم النفس وبعض الاتجاهات الأدبية، وكذلك خدمت هذه النظرة الاقتصاد الرأسمالي وجعلته مدعمًا بالعلوم الطبيعية وقوانينها، تلك العلوم التي يقدسها الرأسماليون باعتبارها المرجعية الطبيعية للحق.

داروين ومفكرو الرأسمالية:

يلاحظ أن نظرية التطور التي تفسر تطور الحياة دون توجيهٍ مصممٍ حكيم (خالق) تشبه إلى حدٍّ كبير الطريقة التي يتطور بها اقتصاد السوق الحر، بحيث يبذل كل فرد أو شركة جهدهم لتحقيق الازدهار، دون الحاجة إلى مُخطِّطٍ مركزي (تدخل الدولة).

لقد كان تأثير الاقتصاديين السياسيين على داروين واضحًا تمامًا، فقد أمضى تشارلز داروين العديد من السنوات متجولًا فكريًا بين أفكار دافيد هيوم، وآدم سميث، وروبرت فيرغسون، وهتشينسون. وعندما كان في كامبريدج سنة 1829م كتب في رسالة: «تتكون دراساتي حول آدم سميث وجون لوك».

وقد كتب تشارلز داروين في سيرته الذاتية: في سنة 1838 بعد أن بدأت بحثي النظامي، قرأت كتاب مالثوس عن السكان، وكنت مهيأ لتقدير قيمة الصراع من أجل البقاء… من خلال ملاحظاتي المستمرة الطويلة لعادات الحيوانات والنباتات. لقد أذهلني أنه في ظل هذه الظروف فإن التغييرات الملائمة (المناسبة) ستسبب حفظ النوع، والتغييرات غير الملائمة ستؤدي إلى التدمير. ونتيجة هذه العملية هو ظهور أجناس جديدة. وهنا أمسكت بنواصي نظرية البقاء للأصلح.

ويقول مات ريدلي حول هذا الموضوع: «تتطور الأفكار بالنسب مع التغيير، مثلما تفعل الأجسام، وقد حصل داروين على الأقل على هذه الفكرة من الاقتصاديين، الذين حصلوا عليها من فلاسفة تجريبيين. من لوك ونيوتن إلى هيوم وفولتير إلى هتشينسون وآدم سميث إلى مالتوس وريكاردو إلى داروين ووالاس. قبل داروين كان المثال الأسمى لنظام غير مصممٍ هو اقتصاد آدم سميث الذي رأى أن تطور الاقتصاد يكون بشكلٍ تلقائيّ وعفويّ من خلال تصرفات الأفراد، بدلًا من أن يتحكم فيها ملك أو برلمان…فمثلما قام داروين بإزالة تحكم الله (الخالق) -في الأحياء-، قام سميث بإزالة تحكم الحكومة في الاقتصاد»

جذور النظرة الداروينية للحياة:

من الواضح تمامًا بأن النظرة الداروينية للحياة هي عينها النظرة الرأسمالية للحياة، وأن هذه هي النظرة المؤسسة التي قام عليها الفكر الرأسمالي، وهي فكرة وجدت جذورها عند فلاسفة الرأسمالية قبل نظرية داروين. فداروين نفسه لم يؤسس هذه النظرة للحياة، وإنما استخدم الأسس النظرية للرأسمالية كصراع البقاء والحق الطبيعي والندرة النسبية والتطور الطبيعي، وطبقها عمليًا على فكرة نشوء وتطور الكائنات الحية، ثم أنتج منها نظريته.

وبالتدقيق في نظرة داروين هذه للحياة، نجدها نظرة متأصلة عميقًا في الأفكار المؤسسة للرأسمالية عن الوجود والحياة قبل كتابة نظرية داروين سنة (1860م)، فقد سبقه قس يدعى توماس مالثوس (1789م) حيث وجدت بذور هذه الأفكار عنده، وسبقهما آدم سميث (1776م)، الذي يعتبر المؤسس لقواعد الاقتصاد الرأسمالي التقليدي في كتابه ثروة الأمم. وهي نظرة موجودة قبلهم عند جان جاك روسو (1770م) في نظرية العقد الاجتماعي، والتي تبلورت على يد جون لوك (1680م)، ووجدت جذورها الأساسية في فكر توماس هوبس (1651م) في بريطانيا.

وأيضًا تأثر داروين بمدرسة التطور الطبيعي الفرنسية، التي أنشأها الفرنسي جورج دي بوفون في عام (1780م)، وأيّد فيه فكرة تطور الكائنات الحية. وكان جون لامارك من العلماء الطبيعيين المتأثرين بدي بوفون، التي سُميت نظرية التطور (اللاماركية) باسمه، وله كتاب (التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية) صدر في عام (1820م).

نظرية الصراع والتطور: ماركس مفكر أوروبي، وهو ابن بيئته:

لقد ظهرت نظرية الصراع والتطور الطبيعي مرة أخرى -بالتزامن مع داروين- لدى مفكر الاشتراكية الأكبر كارل ماركس ومعلمه هيغل في القرن التاسع عشر وبالتزامن مع داروين. فكما طبق داروين نظرته الداروينية للحياة في مجال علم الأحياء (1860م)، قام ماركس بتطبيق ذات النظرة وذات الأفكار التي سادت عصره على الإنسان والتاريخ، وبنى عليها نظريته في حركة التاريخ والصراع الطبقي وتطور المجتمعات، والتي سميت بالمادية التاريخية (1848م).

وعليه لا بد من الانتباه إلى مسار تطور حركة الفكر الرأسمالي في أوروبا، لنلفت النظر إلى أن المادية التاريخية لماركس، هي جزء من هذا المسار تاريخيًا لا خروجًا ناشزًا عنه. فماركس أتى بطروحاته الفكرية في سياق أوروبي وكانت أفكاره جزءًا منها، وهذه إشارة نرسل بها إلى من يحمل لواء هذه الأفكار ويدعو لها، ويعتبرها علمًا يفسر حركة التاريخ، لحقيقة وجذور الأفكار الشيوعية كإحدى إفرازات تطور الفكر الرأسمالي الأوروبي المبني على النظرة الداروينية الفاسدة للحياة، فأفسدت كل ما بني عليها.

سقوط نظرية التطور الدراوينية

لا يُستغرب أن يستميت الرأسماليون -وإخوانهم الاشتراكيون- في الدفاع عن النظرة الداروينية للحياة وعن أساسها العلمي أي نظرية داروين، فيلاحظ وجود استماتة في محاولات ترقيع نظرية داروين -تحت اسم التطوير والتحديث- ومحاولات لأقلمتها مع التطورات العلمية الحديثة في علوم الأحياء، خصوصًا بعد أن ظهر فساد نظرية داروين التقليدية وسقوطها علميًا، حين تم اكتشاف سر الوراثة في علم الأحياء، فبان للعلماء أن صفات الكائنات الحية لا تخضع بتاتًا لدعاوى داروين حول صراع البقاء والبقاء للأصلح والانتخاب الطبيعي، واتضح أن هناك قوانين داخلية أصيلة في جوهر الكائنات تحكم الصفات الوراثية للكائنات الحية وهي الكروموسومات، وأنها هي المسؤولة عن تشكل الأعضاء في الأجسام وعن جميع صفات الكائنات الحية، ولا علاقة للظروف الخارجية بهذه الصفات بتاتًا كما ادعى داروين.

إذًا، اتضح لعلماء الغرب والشرق بأن هذه النظرية قد أسقطها علم الحياة نفسه والذي تطور في أوروبا نفسها، وبما أن الأسس الفكرية التي قامت عليها هذه النظرية فاسدة وساقطة علميًا، فيكون جميع ما بني عليها من نظريات وأفكار هي أيضا فاسدة -من وجهة نظرهم العلمية- خصوصًا وأن الرأسماليين يعتبرون أن قوانين الطبيعة هي المرجعية الوحيدة، وأن ما خالف تلك القوانين غير صالح بل هو فاسد، وبالتالي وجب عليهم أن يهدموا جميع العلوم الاجتماعية التي قامت على هذه الداروينية، وكذلك وجب عليهم أن يهدموا الاقتصاد الرأسمالي الذي أقام بنيانه على نفس منطلقات وأسس الداروينية. فهل فعلوا ذلك؟

كلا لم يفعلوا! بل أصروا على التمسك بحضارتهم وبكل أفكارهم ونظرياتهم وأنظمتهم الفاسدة، بعد أن بان لهم فسادها وزيفها، وجل ما قاموا به هو محاولات لترقيعها تحت اسم التطور والتحديث، فياللعجب!!!. 

[1]   للمراجعة يمكن الاستزادة من عبدالله صالومة، دراسة حول نظرية التطور والداروينية الاجتماعية بعنوان”قانون التطور”، 2010 .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *