العدد 337 -

السنة التاسعة والعشرون صفر 1436هـ – كانون الأول 2014 م

المجتمع المدني ومنظماته (5): دحض المفاهيم الغربية التي يقوم عليها

بسم الله الرحمن الرحيم

المجتمع المدني ومنظماته (5):

دحض المفاهيم الغربية التي يقوم عليها

د. ماهر الجعبري

ناقشت الحلقات السابقة الخلفيات المتعلقة بالمجتمع المدني، من حيث تاريخه ونشأته وتطوره، والمرجعية الفكرية العامة التي يستند إليها، والنواحي السياسية المرتبطة بتفعيله كأداة في سياق الهيمنة، ومن المعلوم أن هنالك منطلقات فكرية متعددة لتقبّل المجتمع المدني في العالم الغربي، وهي تستخدم لترويجه بين المسلمين: منها ما ينبثق عن الفكر الغربي المباشر، ومنها ما ينبني على أفكار إسلامية محوّرة (أو مهجّنة)، ومفصلة خصيصاً لهذا الغرض، تم تهجينها لتوافق الفكر الغربي. وقد برزت بعض هذه الأفكار ضمن السياقات السابقة في هذه السلسلة دون مناقشتها فكرياً وشرعياً. ولذلك تناقش الحلقات التالية حزمة من الأفكار الأساسية والرئيسة التي يستند المجتمع المدني إليها مع بيان الموقف الفكري والإسلامي منها.

لقد تبيّن من خلال السياقات السابقة ارتباط مفاهيم المجتمع المدني بالديمقراطية وسيادة الشعب، وما يتعلق بها من الحريات وحقوق الإنسان، وهي بالتالي تشمل التعددية والمشاركة السياسية وتداول السلطة والمواطنة والحداثة، ومنها الليبرالية والعلمانية والرأسمالية، وهذه المفاهيم متداخلة ومتصلة مع بعضها البعض، منها ما هو أصل ومنها ما هو فرع. وهي في مجملها تفريعات للفكر الغربي والمبدأ الرأسمالي، إلا أن بعضها قد تم تسريبه بمعزل عن الرأسمالية والعلمانية بحيث صار بعض الكتّاب من المسلمين يروّجونها بالقبول على أساس أنها «تعبيرات» أخرى عن أفكار إسلامية أصيلة، أو أنها لا تعارض مفاهيم الإسلام، أو أنها «حكمة» وردت من الغرب فلا تُردّ لأن «الحكمة ضالة المؤمن»، وبالتالي تجري محاولات التوفيق بينها وبين الأفكار الإسلامية. وسيتم تناول المفهوم «المأسلمة» التي تمرَّرَ لاحقاً بشكل منفصل، بينما تتناول هذه الحلقة مناقشة إجمالية مختصرة للمفاهيم الغربية العامة التي ينبني عليها المجتمع المدني.

بطلان المجتمع المدني من حيث استناده إلى العلمانية والرأسمالية والليبرالية:

الأساس المبدئي لانبثاق المجتمع المدني هو الرأسمالية ومرتكزها الجوهري وهو العلمانية، وهما جذران أساسيان في شجرة الفكر الغربي. إلا أنه ليس من الضروري هنا الخوض التفصيلي فيهما لوضوح مناقضتهما للمبدأ الإسلامي لدى غالبية المسلمين، وخصوصاً أن هذه العرض الفكري في هذه السلسلة موجّه بالأساس للمسلمين الذين لا يختلفون على رفض العلمانية والرأسمالية.

1) الرأسمالية:

الرأسمالية هي المبدأ الذي يبني عليه الغرب حضارته التي تقوم على عقيدة فصل الدين عن الحياة، أي أنها تقوم على عقيدة علمانية لا تثبت الدين ولا تنفيه، وبالتالي فهي لا تجيب الإنسان على الأسئلة الأساسية التي تتعلق بالوجود وما قبله وما بعده جواباً شافياً يحقق للإنسان طمأنينة في حياته، ولا تمكنه من الحصول على عقيدة تقنع العقل وتوافق فطرة الإنسان. ومن ثم فالرأسمالية تقرر أن لا دخل للدين في صياغة طريقة العيش للإنسان… بينما الإسلام يقوم على عقيدة «لا إله إلا الله  محمد رسول الله»، فهو يجيب الإنسان عن أسئلته حول ما قبل الحياة (من وجود الخالق) وما بعدها (من البعث والنشور) والعلاقة بينما (وهي الحساب على الأعمال والثواب أو العقاب في الآخرة)، جواباً شافياً واضحاً قاطعاً مقنعاً يحقق له متطلبات فطرته واحتياجه الغريزي لخالق يقدّسه فيؤدي إلى طمأنينة الإنسان. ومن ثم ينفي الإسلام الحاكمية عن غير الله سبحانه ويثبتها لله وحده. وليس المقام هنا مقام مناقشة فكرية تناظرية لهاتين العقيدتين، وبيان بطلان عقيدة المبدأ الرأسمالي وإثبات عقيدة المبدأ الإسلامي، فهذا المجال متوفر في العديد من الكتابات، وهي ليست محل خلاف بين غالبية المسلمين حتى ضمن من يرفعون شعار الاعتدال. وتكفي هنا هذه الإشارة المبدئية لإبراز التناقض بين الأساس الذي ينبني عليه الفكر الغربي والأساس الذي ينبني عليه الفكر الإسلامي.

هذا من حيث العقيدة والفكر الكلي، أما من حيث تنظيم الحياة، فالرأسمالية كمبدأ تتضمن تحديد طريقة عيش، ولكنها تترك هذا التنظيم للبشر ولعقولهم ليصوغوها كما يرتؤون، بينما الإسلام يُرجع ذلك للوحي. وهذا اختلاف جوهري يجعل من المستحيل إسلامياً تقبّل ما ينتج عن الفكر الرأسمالي من إفرازات حول طريقة العيش (كمثل المجتمع المدني) لعدم تجانس المصدر مع ثقافة الإسلام. ومن هذا المنطلق فإن الأصل في الموقف الإسلامي من المجتمع المدني الذي ينبني على الرأسمالية والعلمانية هو الرفض المبدئي والتشريعي لتناقض الأساس، وما بني على أساس باطل فهو باطل.

2) الليبرالية

تقوم فكرة الليبرالية بالأساس على الحرية والاستقلالية والفردية، وبالتالي فهي تأتي ضمن السياقات الفكرية للديمقراطية وحقوق الإنسان نفسها. وحول محورية الحرية، وينظر بعض المنظّرين لليبرالية على أنها الفلسفة (أو الفكر)، وللديمقراطية على أنها النظام السياسي الناتج عنها، ومن كليهما (فكر وطريقة عيش) ينتج ما يمكن تسميته بمبدأ الحرية أو الليبرالية.

ومن هذا المنطلق، فالليبرالية مرتكز رئيس من مرتكزات الفكر الغربي وإحدى إفرازات عصر النهضة الأوروبي، فهي (كغيرها من أسس الفكر الغربي الحديث) جاءت كردة فعل على تسلّط الكنيسة ونظام الإقطاع والملوك إبان التمرد الأوروبي الذي حصل أوجه إثر الثورة الفرنسية عام 1789م والتي أطلقت فكرة الحرية. ومن الناحية التاريخية، يرجع بعض المفكرين جذور الفكر الليبرالي إلى الفكر اليوناني الإغريقي، تماماً كالديمقراطية.

وتركيز الليبرالية الأساس هو الإنسان، وبالتالي فهي توصف بأنها مذهب قضيته الإنسان، حيث تجعله محور الحياة، ومن هذا الباب فهي توصف بالإنسانية، وجاء في الموسوعة الفلسفية العربية أن «جوهر الليبرالية التركيز على أهمية الفرد، وضرورة تحرره من كل أنواع السيطرة والاستبداد» (السياسي والاجتماعي). وبالتالي فالليبرالية تدعو للتحرر من كل سلطة خارجية أو إكراه، سواء أكان دولة أم جماعة أم فرداً، وهي تعمل على حماية الفرد والدفاع عن سيادته. وتتبلور الفكرة حول التمرد والرفض لكل أشكال السلطة الخارجية التي تحول دون تحقيق الاستقلال الذاتي الفردي، ومن ثم التصرف وفق طبيعة النفس ورغباتها. فهي فلسفة تمرّد على الضوابط مع ما ينتج عن ذلك من الانفلات نحو الحريات (ومن هذا الباب ترتبط الليبرالية بالديمقراطية).

وأصل كلمة الليبرالية (LIBERALISME) ليس عربياً، وهي تعني الحرية، وحول هذا المعنى تفيد الموسوعة الميسرة بأن «الليبرالية: مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي». وهذا التمرد والهروب من كل سلطان خارجي يفضي إلى ما يعتبره البعض «انكفاء على النفس» والداخل، وهو يتوافق مع «انفتاح تجاه القوانين التي تشرعها النفس» والتوافق مع رغباتها، وهذا أحد معاني طاعة «الهوى» الذاتي، وهو ينسجم مع تعريف جان جاك روسو: «الحرية الحقّة هي أن نطيع القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا». بينما يرى بعض المنظرين أن الحرية تكمن في التحرر من شهوات النفس.

وتوضح الموسوعة الحرة- ويكيبيديا الترابط بين الحرية والديمقراطية وبين الليبرالية حيث تعرّف الليبرالية على أنها أيديولوجيا أو تيار للفكر السياسي، والتي تسعى لتعظيم الحرية الفردية من خلال نظام ديمقراطي للحقوق تحت القانون. وتطرح الترابط مع حقوق الإنسان، فتفيد أن المبادئ الأساسية لليبرالية تتضمن الشفافية والحقوق الفردية والمدنية.

وتتوافق الليبرالية مع العلمانية وفصل الدين عن السياسة بل عن مجالات الحياة كافة، ومع النفعية (والتي هي مقياس الأعمال في المبدأ الرأسمالي)، ومع العقلانية (بمعنى إخضاع كل شيء لحكم العقل): فهي ترى أن العقل الإنساني ناضج إلى حد يؤهله أن يرعى مصالحه ونشاطاته، وبالتالي فالعقل هو المشرع فيها.

ويفصّل المنظرون عدة أنواع من الليبرالية منها الليبرالية السياسية التي هي نظام سياسي يقوم على العلمانية والديمقراطية والحرية الفردية، والليبرالية الاقتصادية التي تقوم على منع تولي ومباشرة الدولة للنشاطات الصناعية، والنشاطات التجارية، ومنعها من التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم.

هذا مجمل ما تطرح الليبرالية، وبالعموم فالليبرالية صورة من صور فكر الحرية والنهج الوضعي.

الموقف من الليبرالية:

من الواضح أنها تناقض الإسلام في كل شيء، والمدخل الوحيد للتضليل فيها قد يكون من باب خلط مفهوم حرية الإنسان (بمعنى أنها ضد العبودية للناس) وبالمعنى الوارد في قول عمر بن الخطاب «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» مع مفهوم الحريات الشخصية لدى الغرب. والصحيح أن الإنسان في الإسلام حر من حيث إن رقبته غير مملوكة لغيره، أي إنه ليس عبداً لأحد من البشر. هذا هو معنى الحرية في الإسلام ليس غير، وليس هذا المعنى هو ما تطرحه ثقافة الحرية في الغرب. وتتعارض فكرة الحريات الغربية مع مفهوم العبودية لله. وخصوصاً فكرة الحرية المطلقة التي لا تحتمل أي لبس في مناقضتها للإسلام الذي يفرض على المسلم التقيّد بالحكم الشرعي، الذي هو في الحقيقة قيدٌ وحدٌّ على الحرية المطلقة.  وستتم مناقشة مفهوم الحريات عند تناول الديمقراطية، وفيه يُنقض الفكر الليبرالي في معرض نقض الديمقراطية.  وكذلك الحال بالنسبة لحقوق الإنسان.

وإضافة لذلك يُدحض الفكر الليبرالي من عدة منطلقات أخرى منها الفكرية ومنها الشرعية، ولا يتسع المقام هنا للخوض في التفاصيل، ويكفي في الحقيقة أخذ فكرة واحدة من حزمة الأفكار التي تقوم عليها الليبرالية لنسفها فكرياً وإسلامياً. فمثلاً لتبيان التعارض مع الفكر الإسلامي يكفي تبيان كفر الفكر القائم على أساس فصل الدين عن الحياة (العلمانية) من منطلق قوله تعالى ]إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ[، وقوله: ] أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [.  ويكفي لدحض فكرة طاعة النفس (والهوى) قوله تعالى: ]أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [.  وبالعموم تُنقض الليبرالية إسلامياً من كونها تقر التشريع البشري الوضعي، وهذا يناقض مفاهيم الإسلام التي تُرجع التشريع لله من منطلق مفهوم الألوهيّة والحاكمية لله والعبودية من قبل البشر، وهذه المفاهيم تتضمنها الآيات الواردة أعلاه.

وكذلك تُنقض الليبرالية لدى محاكمتها الفكرية البحتة لوجود تعارض في الفكر ذاته، أي أنها فكر غير متجانس، وبالتالي فينهار أمام التنخيل الفكري الخالص. فالليبرالية تدعو للحرية المطلقة، وهذه الفكرة تتعارض مع قيم غربية أخرى كالعدالة والمساواة بين الناس، وتتعارض الحرية المطلقة مع حريات الآخرين، وبالتالي يعتبرها بعض المنظّرين انتكاسة حقيقية لمفاهيم حقوق الإنسان، ومن هنا فُرضت القيود على الحرية كحل ترقيعي للحفاظ على «عِقد المجتمع» وعدم انفراطها. وفي العادة فإن مثل هذا القيد غير محدد بحدود واضحة، ومن ثم فهو مفتوح للأهواء ولتقديرات المشرّعين البشر، ومن هنا فمن الطبيعي وجود خلاف حول معنى الحرية، وحد القيد المحدد للحرية.

وخلاصة هذه الحلقة أن استناد ترويج المجتمع المدني إلى الرأسمالية والعلمانية والليبرالية هو استناد لفكر غربي باطل فكرياً وإسلامياً، وستناقش الحلقة التالية بطلان استناد المجتمع المدني للأفكار المأسلمة، نحو اكتمال نسف الأساس الفكري له.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *