العدد 337 -

السنة التاسعة والعشرون صفر 1436هـ – كانون الأول 2014 م

نظرات سياسية في قصص الأنبياء

بسم الله الرحمن الرحيم

نظرات سياسية في قصص الأنبياء

معاوية الحيجي أبو عبيدة

قال الله عز وجل مخبراً عن الأنبياء عليهم السلام: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ). ولو نحن تأملنا قصص الأنبياء المذكورة في القرآن الكريم فإننا نكاد نتلمس خطوطاً عريضة لهذه القصص أبرزها: أولاً: الموقع الجغرافي. ثانياً: ذكر القصة بما يناسب مرحلة حمل الدعوة. ثالثاً: ذكر الجوانب الأكثر بروزاً في المجتمع أثناء العمل على تغييره. رابعاً: عرض القصة بما يناسب قضية الصراع الفكري المحورية.

 أولاً: الموقع الجغرافي  ذكر الله لنا قصة ما يقارب من خمسة وعشرين نبياً كلهم تقريباً عاش فيما يسمونه بالمصطلح المعاصر الشرق الأوسط، بل في وسط وسطه؛ فجميع من ذكرهم الله تعالى من الأنبياء عاشوا في شبه الجزيرة العربية ومصر وبلاد الشام والعراق، ولا نجد ذكراً البتة لأي نبي عاش مثلاً في أفريقيا ولا حتى في شمالها، أو لنبي عاش في أوروبا، ولا لنبي عاش في آسيا،  فضلاً عن نبي عاش في أميركا أو أستراليا أو الهند أو اليابان… علماً أن الله تعالى قال: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ).

ذلك أن المتتبع لتاريخ البشرية قديماً وحديثاً يرى أن أكثر منطقة حدث فيها وعليها وبسببها صراع عسكري أو حضاري أو سياسي أو فكري هي منطقة الشرق الأوسط؛ فهذه المنطقة هي محور العالم وهي مركز الصراع بين الأمم والدول؛ وهي أكثر منطقة مرت فيها جيوش العالم وتقاتلت عليها؛ فمن ملك هذه المنطقة صارت بيده مفاتيح قيادة العالم. ولو عدت إلى التاريخ الإسلامي مثلاً وجدت أن أنظار المسلمين عامة كانت تتجه إلى هذه المنطقة بالذات وتعتبرها صدرها الذي تتنفس به؛ وتعتبره رئتيها اللتين تستنشق هواء الإسلام من خلالهما وتعتبره موضعاً لقيادتها وتتبعه فكراً وحضارة وسياسة…

 فهذه المنطقة (منطقة الشرق الأوسط) مركز الإشعاع الحضاري للأمة الإسلامية، ونبغ فيها أغلب علماء الفقه والحديث والتفسير واللغة؛ كما نبغ فيها عامة علماء العلوم الدنيوية من طب وهندسة وكيمياء وفلك… وكلامنا هذا لا يعني بحال التقليل من شأن بقية العالم الإسلامي، وإنما يعني أن منطقة الشرق الأوسط هي المركز والقلب النابض لبقية العالم الإسلامي. وفي العصر الحديث لازالت هذه النظرة موجودة لدى عامة المسلمين. فالعالم الإسلامي بأجمعه كالبحارة جاهزون للإبحار في سفنهم لكنهم ينتظرون هبوب رياح التغيير من هذه المنطقة بالذات.

فأرض الأنبياء المذكورين في القرآن (الشرق الأوسط) هي للعالم مثل مكة للعرب، أي كأم القرى للقرى. وقد قال تعالى: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا )  كما قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا). فكما كانت مكة للعرب أم القرى، فكذلك هذه المنطقة هي بمثابة أم القرى للعالم بشكل عام، وللمسلمين بشكل خاص.

ولعل هذه النظرة لدى المسلمين هي التي تجعلهم ينتظرون ما يحدث في هذه المنطقة ويتأثرون به أكثر من تأثرهم بما يحدث في بقية بقاع العالم الإسلامي.  فقضية فلسطين واحتلالها من قبل يهود أثرت في المسلمين أكثر من أي منطقة أخرى من بلاد المسلمين قام الكفار باحتلالها. وكذلك العراق حين دخلتها القوات الأميركية اهتز العالم الإسلامي واضطرب بشكل أكبر من اهتزازه واضطرابه لدخول القوات الأميركية الصومال أو حتى أفغانستان. وما يسمى اليوم بالربيع العربي فإن العالم الإسلامي كله يترقب ثورة أهالي سوريا خاصة دون سواها لعوامل كثيرة جداً. ومن هذه العوامل ما ذكرناه من أن هذه المنطقة هي بمثابة أم القرى للعالم الإسلامي. فالله عز وجل حين ذكر من الأنبياء من عاش في بقعة جغرافية معينة ولم يذكر من عاش في بقية أصقاع الأرض، إنما ذكرهم والله أعلم لما ذكرناه عن مكانة هذه المنطقة بالنسبة للعالم عامة وللمسلمين خاصة.

ثانياً: ذكر القصة بما يناسب مرحلة الدعوة: تأمل أخي المسلم عامة القرآن وقارن بين مواضيعه في مرحلة نزول القرآن؛ قارن بين المواضيع المذكورة في القرآن المنزل في مكة المكرمة قبل إقامة الدولة الإسلامية وبين المواضيع المذكورة في القرآن المنزل في المدينة المنورة أي بعد إقامة الدولة الإسلامية؛ ولو تمكنت من المقارنة بين المواضيع القرآنية في المرحلتين المكية (قبل إقامة الدولة) والمدنية (بعد إقامة الدولة) ستجد أن لكل مرحلة ما يناسبها من فكرة ومن موضوع؛ وهذا الأمر يشمل قصص الأنبياء بشكل عام. فأسلوب عرض القصص القرآني في مكة يختلف عن أسلوب عرضها في المدينة.

فقصص الأنبياء بشكل عام في القرآن المكي؛ حيث الصراع الفكري كان على أشده والكفاح السياسي في أعلى درجاته؛ في هذه المرحلة بالذات نجد مثلاً في قصص الأنبياء (هود وصالح ولوط وشعيب ونوح) تفاصيل علاقتهم بأقوامهم؛ من دعوة لأقوامهم،  وكذلك الأفكار التي كانوا يناقشونها معهم. ونجد إعراض أقوامهم عنهم وثبات الأنبياء على ما أمرهم الله به. ونجد أذى أقوامهم لهم وصبر الأنبياء على أقوامهم.

لكنك لو تأملت قصص الأنبياء (هود وصالح ولوط وشعيب ونوح) في المرحلة المدنية نرى أن قصصهم مذكورة على سبيل اللمح والالتفات وأخذ العبرة من مصير من أعرض عن دعوتهم، قال تعالى: ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ). على أننا نرى في المرحلة المدنية حيث العلاقات الاجتماعية بشكل تفصيلي مع الأسرة نرى مثلاً قصة نوح ولوط يعرض القرآن منها جانباً من علاقتهما بزوجيتيهما (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ).

ومثل ما سبق تقريباً قصة أيوب حيث ذكر في المرحلة المكية صبره والثناء على هذا الصبر، قال تعالى: ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ). وهذا يناسب مرحلة الصراع الفكري والكفاح السياسي لما تتطلبه المرحلة من صبر وثبات وعزيمة وعدم جزع؛ ولكننا لا نجد أي تفاصيل عن قصة أيوب عليه السلام في المرحلة المدنية

وسنأخذ على سبيل المثال وبشكل تفصيلي قصة ثلاثة أنبياء هم (آدم وإبراهيم وموسى) عليهم السلام، وسنقارن بشكل عام بين ما ذكره القرآن من قصصهم في مكة والمرحلة المكية قبل إقامة الدولة الإسلامية، وبين ما ذكره القرآن في المدينة المنورة بعد إقامة الدولة الإسلامية.

قصة آدم (عليه السلام): ففي قصة آدم عليه السلام في المرحلة المكية حيث الصراع الفكري بين الإيمان والكفر، بين الإيمان بالخالق عز وجل وبين عبادة الأصنام؛ يذكر القرآن من قصة آدم خلقه وتفاصيلها وأنه من حمأ مسنون ومن طين. قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ). تذكيراً لكفار قريش بأن خالقهم هو الله، ويذكر أصل خلقهم تنبيهاً لهم أن لا يتكبروا في الأرض لأنه ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ).

وفي هذه المرحلة أيضاً نرى القصة تعرض لتفاصيل الصراع الأول بين الحق والباطل، وتنبهنا إلى أن هذا الصراع باقٍ ومستمرٌ ومتكرر إلى يوم القيامة، وإن اختلفت أساليبه أو مسمياته. وتنبهنا إلى أن إبليس وجنوده من الإنس والجن مستمرون في هذا الصراع وفي عمل المكائد للمؤمنين، وغايتهم أن نكون مثلهم ومعهم في جهنم، وذلك كما قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ). هذا الذي ذكرناه كان من قصة آدم عليه الصلاة والسلام في مكة قبل قيام الدولة الإسلامية.

 فإذا ذهبنا إلى قصة آدم في المرحلة المدنية نجد هذه القصة معروضة من جانب آخر. ففي المدينة حيث التمكين والاستخلاف نجد قصة آدم معروضة بما يناسب هذه المرحلة؛ حيث نجد موضوع الاستخلاف في الأرض مذكوراً، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ).

وفي هذه المرحلة حيث العلاقات البشرية من معاملات وعلاقات اجتماعية ومن نظم إدارية ومن مسألة إقامة الحدود ومن سواها نجد قصة ولدي آدم وقصة قتل أحدهما للآخر وموقف الآخر منه، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ).

وأما قصة موسى (عليه السلام): ففي المرحلة المكية قبل إقامة الدولة الإسلامية؛ حيث الصراع مع الحكام الطغاة ومع الملأ من قريش، والصراع مع أنظمة الحكم القائمة، وحيث الكفاح السياسي لاستلام الحكم؛ نجد قصة موسى عليه السلام مع فرعون وصراعه الفكري معه، وكفاحه السياسي ضده. ونجد قصة موسى مع فرعون مذكورة بتفاصيلها المناسبة من ولادة موسى، إلى حياته في قصر فرعون، إلى هروبه من مصر إلى مدين، ثم عودته إلى مصر ونقاشاته مع فرعون وملئه وتحديه للسحرة وإيمانهم به، ثم هلاك فرعون…كل ذلك نجده مفصلاً في المرحلة المكية.

و لكنك في المدينة المنورة بعد إقامة الدولة الإسلامية حيث العلاقات البشرية والعلاقات الاجتماعية وحيث التمكين في الأرض؛ نجد قصة موسى عليه الصلاة والسلام معروضة من جانب آخر؛ هذا الجانب هو علاقته مع بني إسرائيل كيف فعلوا بعد التمكين وهلاك الطاغية؛ فنجد مثلاً قصة البقرة وموضوع قتلهم لنفس بشرية وكتمانهم اسم القاتل، كما نجد طلبهم رؤية الله عز وجل، ونجد قصة طلب موسى منهم دخول الأرض المقدسة ورفضهم ومن ثم عقوبتهم بدخول التيه، ونجد ذكر القرآن لنقض يهود المواثيق، ولأخذهم الربا وأكلهم السحت… كل ذلك نجده في المرحلة المدنية لمناسبة هذه المواضيع هذه المرحلة ليكونوا لنا عبرة وموعظة أن لا يكون المسلمون في المدينة مثل بني إسرائيل مع موسى. (لم نذكر الشواهد القرآنية على ذلك لكثرتها ولشهرة قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل)

وفي قصة إبراهيم (عليه السلام): ففي المرحلة المكية؛ حيث الصراع الفكري على أشده، وحيث مقارعة الأفكار الضالة والمنحرفة، وحيث عبادة الأصنام من دون الله عز وجل؛ نجد قصة إبراهيم عليه السلام معروضة من هذا الجانب جانب الصراع الفكري مع قومه، وجانب مقارعة الفكر المنحرف عن الصواب ومحاربة الباطل؛ فنرى من قصة إبراهيم نقاشاته لقومه في مسألة عبادة الأصنام وبيان أنها حجارة لا تضر ولا تنفع وأنهم في ضلالة وبعد شديد عن الحق، قال تعالى: (  وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، ونجد حواره معهم أن ربه الله لأن أمرنا بيده وحده؛ ونجد المفاصلة بين الحق والباطل وعدم اللقاء إلا في ساحة الصراع الفكري، وأن كل معبود من دون الله تعالى هو عدو له، قال تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ     ).

كما نجد قصة تحطيمه للأصنام وحواره لقومه عن هذه الأصنام أنها لا تضر ولا تنفع، ونجد تسفيه عقولهم ومحاربة قومه له ومحاولة إحراقه، ونجد نصر الله له وحفظه له. وهذه النقاط كلها أحوج ما كان إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته إليها في مكة، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ   )

وفي هذه المرحلة، المرحلة المكية؛ حيث الصبر على الأذى في طريق الدعوة، وحيث المطلوب التضحية من كل إنسان التضحية بأغلى ما يملك؛ نجد قصة تضحية إبراهيم بابنه ثمرة فؤاده؛ وصبره على ما أمره الله به. كما نجد موقف ابنه وامتثالهما لأمر الله عز وجل ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ).

ولكن إذا جئنا إلى قصة إبراهيم في المدينة المنورة بعد إقامة الدولة الإسلامية فإننا نقرأ بتمعن ما هو المذكور فيها، وما هي المحاور التي تم التطرق إليها؟ سنجد أن المذكور قصة بناء الكعبة ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ    ).

حتى قصة إبراهيم (عليه السلام) مع ابنه لن نجدها معروضة كما كانت معروضة في المرحلة المكية، وإنما يذكر لنا منها فقط بناء الكعبة ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ).

والخلاصة أن مواضيع القصص القرآني عامة والأنبياء خاصة في المرحلة المكية تعرض لنا جانباً معيناً يناسب طبيعة المرحلة؛ ولكن في المرحلة المدنية تعرض لنا جانباً آخر؛ بمعنى أن على حامل الدعوة أن يرى واقعه، وما هي مرحلة الدعوة التي يعيشها، وما هي المشاكل التي تقف في وجهه في هذه المرحلة؛ فيحاول إيجاد الحلول لها. فما كان معروضاً في قصص الأنبياء في مكة يناسب هذه المرحلة، وما كان معروضاً في المدينة يناسب غيرها من مرحلة. وكذلك حامل الدعوة يرى في أي مرحلة من مراحل حمل الدعوة يعيش هو ليختار الأفكار والأساليب التي تناسبها؛ لا أن يأتي إلى مشاكل كانت سابقاً موجودة في الأمة وماتت وما بقي لها من وجود سوى على صفحات كتب التاريخ، فينبشها ويدخل في صراع معها ليرد عليها أو ليناقشها أو ليبين وجهة نظر الشرع فيها. (كمن يقضي ساعات طوالاً للرد على من يقول بخلق القرآن مثلاً، وهؤلاء ليس لهم وجود) كلا، فالمسلم سياسي يعالج واقعه الذي يعيشه وليس واقعاً غير موجود.

ثالثاً: ذكر الجوانب الأكثر بروزاً في المجتمع أثناء العمل على تغييره: وتركيز الطرح والنقاش في الزاوية الهامة؛ أي على القضايا المصيرية في المجتمع، وعلى القضايا الأساسية والأكثر بروزاً وانتشاراً ؛ مع أن كل الأنبياء كانت دعوتهم إلى عبادة الله دون سواه وإلى التوحيد، ومع ذلك نجد أن القرآن عرض لنا في قصص الأنبياء المشاكل الأساسية في المجتمع والمشاكل الظاهرة والأكثر بروزاً على السطح. طبعاً مع جعل العقيدة هي الفكرة الأساسية التي تبنى أفكار الحياة وتصرفات الإنسان عليها.

فلو أخذنا مثلاً قصة لوط (عليه السلام) مع قومه لوجدنا الموضوع الأبرز الذي تم التركيز عليه يتناول مسألتين اثنتين هما: فعل الفاحشة وتشريعها بينهم وعلى قطع الطريق وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ).

وقصة شعيب (عليه السلام) مع قومه تقوم على التركيز على قضية التطفيف وقطع السبيل للصد عن سبيل الله وقضية الإفساد في الأرض، قال تعالى: ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ).

وقصة هود (عليه السلام) مع قومه عاد عامة نجد تركيز القصة على جبروتهم وشدة بطشهم وعلى عبثهم (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ).

وفي قصة صالح (عليه السلام) مع ثمود نجد التركيز على طاعتهم للمفسدين المسرفين وعلى ترفهم وغلوهم في إسرافهم، قال تعالى: ( أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ   ).

فالله عز وجل ذكر لنا الجانب الأبرز من قصص الأنبياء والمشكلة الظاهرة الواضحة، رغم أن دعوتهم جميعاً كانت إلى التوحيد ليعلمنا أنه على حامل الدعوة أن ينظر إلى المجتمع وما فيه من مشاكل جوهرية، وما فيه من قضايا هامة، وما فيه من أفكار هدامة… ليقف عندها معالجاً لها من زاوية العقيدة، وليبين حكم الله فيها؛ من هنا كان هناك فرق شاسع بين الدعوة إلى الإسلام بشكل مفتوح دون تركيز على القضية الأساسية للأمة، بل إن بعض الدعاة من يجعل بعض المسائل الثانوية في المجتمع هي قضيته الأساسية وتراه طوال حياته مشغولاً بمسألة فرعية أو جزئية لا تقدم في حياة الأمة شيئاً. بينما حامل الدعوة هو الذي يعيش بين الناس، ويرى مشاكلهم، ويرى ما يعانونه، ويرى مدى تطبيق الإسلام في أرض الواقع؛ فيسعى إلى معالجة ذلك كله.

 واليوم القضية المركزية للأمة الإسلامية هي إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؛ لذلك كان على حملة الدعوة تركيز عملهم وجهدهم ونشاطهم في هذا الاتجاه بالذات دون سواه. وعليه أن يرى العقبات الأساسية التي تقف في وجه إقامة الخلافة الإسلامية وأن لا ينشغل بقضايا جزئية عن هدفه الأساسي. فكما كان الأنبياء يناقشون أقوامهم في المسائل الأساسية في المجتمع كذلك يفعل حامل الدعوة اليوم بجعل كل تركيزه على القضية الأساسية في الأمة الإسلامية ألا وهي إقامة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة.

رابعاً: عرض القصة بما يناسب قضية الصراع الفكري المحورية: فقصة عيسى عليه السلام نجدها معروضة بالتفصيل من قبل ولادته، أي من حمله في بطن أمه ومن ثم ولادته ثم تكلُّمه في المهد؛.كما نجد بعض جوانب حياته في بني إسرائيل كإحياء الموتى بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وكقصة المائدة، ثم مسألة رفعه إلى السماء؛ ذلك أن القضية الأساسية في الصراع الفكري مع النصارى هي الرد عليهم في قضية صلبه؛ واعتقادهم بألوهيته وأنه ابن لله، أو أن الله ثالث ثلاثة (سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً) فكان لابد من ذكر هذه التفاصيل تأكيداً على بشرية عيسى، وأنه عبد الله ورسوله، وأن هذه المعجزات كانت بإذن ربه وليس لأنه إله كما يزعمون، قال تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ).

لكننا لا نجد هذه التفاصيل الدقيقة معروضة في قصة أي نبي آخر، فلا نجد مثلاً شيئاً عن ولادة أي نبي ولا عن طفولته؛ لأنها تفاصيل لا تلزم المسلمين، بينما نجد ذلك كله في قصة عيسى؛ لأنها تفاصيل تلزم المسلمين ويحتاجون إليها في قضية الصراع الفكري حول إثبات بشرية عيسى والرد على النصارى بزعمهم أنه إله. على أننا نجد نوعاً من التفصيل في قصة موسى مع فرعون كيف ألقته أمه في اليم خوفاً عليه، ثم التقاط آل فرعون له، ثم تسخير فرعون لتربيته، ثم هلاك فرعون على يد هذا الذي رعاه صغيراً؛ فكل هذه التفاصيل تلزم حامل الدعوة في عمله ضد الطغاة فتبعث فيه الصبر وتقوي عنده العزم وتغرس فيه الأمل وتكسر عنده اليأس والقنوط.

كلمة أخيرة: لعل المتتبع لقصص الأنبياء يجد خطاً واضحاً مشتركاً بين معظمها؛ وهي أن الأنبياء بمجموعهم لم يسلكوا طريقة الأعمال المادية في التغيير. وهذه القصص تذكر صبر الأنبياء في الدعوة وثباتهم على المبدأ وعملهم الدؤوب على تغيير المجتمع من غير كلل ولا كسل ولا ملل؛ وتذكر صراعهم مع أقوامهم لأجل التغيير ومحاربة أقوامهم لهم خاصة الملأ منهم؛ ثم نتيجة هذا الصراع هلاك من حارب الله ورسله وزوالهم من الوجود مهما عتوا وتجبروا وبقاء أهل الحق في حفظ الله ورعايته؛ وأن الأنبياء رغم ما مروا به من اضطهاد وصراع فكري مع أقوامهم وسخرية أقوامهم منهم ووقوف الملأ من القوم ضدهم وإيذائهم لهم بل ومحاولة قتلهم، ورغم تجمد المجتمع في وجوههم، ورغم كل شيء؛ فإنهم جميعاً لم يغيروا ولم يبدلوا طريقة التغيير مع أقوامهم، بل كان لسان حالهم يقول لأتباعهم: ( اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ).q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *