عدالة الإسلام في توزيع الثروة» (4): ميزات الأحكام الشرعية في توزيع الثروة
2014/12/15م
المقالات
5,024 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
عدالة الإسلام في توزيع الثروة» (4):
ميزات الأحكام الشرعية في توزيع الثروة
حمد طبيب – بيت المقدس
الإسلام نظام رباني سامٍ عظيم، من لدن خبير عليم حكيم؛ قال تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ). وقال: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ). وهو- الإسلام – ليس نظاماً بشريّاً صاغته عقولٌ بشريةٌ قاصرةٌ محدودة النظرة والتفكير؛ لذلك جاءت المعالجات المنبثقة من هذا الدين العظيم ساميةً راقيةً في كل جزئية من جزئياتها، تحقّق العدل والاستقامة والرفاه وبحبوحة العيش بين الناس!!..
لقد امتاز هذا النظام الرباني العظيم بميزات عامة – في جميع الأحكام- جعلته أهلاً لتحقيق العدل والاستقامة، وهذه الميزات هي:
أولاً: إنها أحكام كاملة وشاملة لكل أمور الحياة العملية، ولكل شؤون الإنسان، دون إهمال أي ناحية منها مهما صغرت، فبينت هذه الأحكام علاقة الإنسان مع نفسه، في جميع المجالات؛ في الحاجات العضوية في المطعومات والملبوسات والمشروبات..، والحاجات النفسية والجسمية، والتداوي والعلاج… وغير ذلك مما ينظم علاقة الإنسان بنفسه من أمور حياته. كما إنها بينت كيف تكون علاقة الإنسان مع غيره من البشر في كل أمر دون إهمال لأي ناحية، في كل شؤون المعاملات؛ في البيع والشراء والزواج والطلاق والميراث والقضاء والعقوبات… كما بيَّن الإسلام كيف تكون علاقة الإنسان مع خالقه جل جلاله في أمور العبادات والعقائد… قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ). قال الإمام القرطبي في شرح هذه الآية: «تفصيل كل شيء مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام والشرائع والأحكام»، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: «فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، والدلالة هنا إما نصاً أو جملة». يقول ابن عباس: «إن الله أتم لعباده هذا الدين وأكمله فلا يحتاجون إلى غيره أبداً».
يقول الأستاذ (سيد قطب) رحمه الله في كتاب (المستقبل لهذا الدين): «الإسلام منهج حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها… منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة (الوجود)، ويحدد مكان (الإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني… ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر؛ كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها، والنظام السياسي وشكله وخصائصه، والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته، والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته، والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته… ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا الاعتبار، باعتباره منهج حياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض، المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات (الإنسان) الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنسانية».
ثانياً: إن أحكام الإسلام جاءت دقيقة ومفصلة في كل المعالجات، ولأي أمر يحدث مستقبلاً، ويستجد في حياة الإنسان؛ فذكرت تفاصيل التفاصيل في المسألة الواحدة المتعلقة بالمعالجات، فعالجت الأمور التي تعترض حياة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل مفصل، ووضعت قواعد كلية عامة استنبطت منها أسس وقواعد فقهية للأحكام المستجدة، بحيث لا تخرج أبداً عن مبادئ وقواعد الأحكام العامة، ولا تخالف عقيدة هذا الدين، ولا تتعارض مع أحكام أخرى غيرها…
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان في كتاب (المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية): «لقد جاءت أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها شاملة لجميع نواحي الحياة، ومنظمة لجميع العلاقات، سواء أكانت هذه العلاقات بين الفرد وربه أم بين الفرد والفرد، أم بين الفرد والجماعة…» وقال: «إن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، لا تضيق بحاجات الناس وما يستجد من أحوالهم وأمورهم، ومحققة لمصالحهم».
ثالثاً: جاءت هذه الأحكام مناسبة لطبيعة الإنسان وخلقته، تحقق له المصلحة وتدفع عنه الضرر والمفسدة من حيث إشباعها لجميع الغرائز والحاجات العضوية إشباعاً كاملاً غير منقوص، ومن حيث إن هذه الأحكام تجلب الراحة والطمأنينة والسعادة لهذا الإنسان، وتنظم حياته بشكل منضبط مستقيم، يحقق العدل والاستقرار والاستقامة في كل مناحي الحياة…
فالأحكام الشرعية التي عالجت علاقات الإنسان مع نفسه ومع غيره ومع خالقه تعالى، -هذه الأحكام- لم تهمل أي شيء من أمور الغرائز أو الحاجات العضوية الموجودة في هذا الإنسان؛ فعالجت الأحكام المتعلقة بغريزة حب البقاء ومن مظاهرها التملك والانتفاع بالملك معالجة شاملة كاملة من جميع الجوانب، وبشكل مفصل، وعالجت غريزة النوع في أحكام الزواج والطلاق وعلاقات الرجل مع الأنثى… وغير ذلك من مظاهر هذه الغريزة، وعالجت الأحكام المتعلقة بمظاهر غريزة التدين في علاقة الإنسان بخالقه تعالى من حيث التقديس والعبادات والعقائد…
ومع هذه الإحاطة والشمول والتفصيل لشؤون الإنسان ولغرائزه وحاجاته العضوية، فإن هذه الأحكام تناسب هذا الإنسان، وتوافق خلقته التي خلقه الله عليها، ولا تتسبب له بالمشقة والعنت والتعب، بل إنها جميعاً تجلب الخير لهذا الإنسان، والسعادة والرفاهية والعدل، والسبب في ذلك أن هذه الأحكام هي من عند عليم حكيم، يعلم ما يسعد هذا الإنسان وما يشقيه، ويحيط إحاطة كاملة بخلقته وتركيبته النفسية والمادية…
وهذا بعكس النظام الرأسمالي وغيره من نظم – كما ذكرنا – والذي صاغته عقول قاصرة محدودة النظرة غير محيطة بما يصلح أحوال الخلائق من معالجات؛ فجاءت الأحكام ناقصة غير محيطة لجميع شؤون الإنسان، وقاصرة أيضاً عن معالجة الأمور المستجدة، بشكل ينسجم مع أسسها وقواعدها ولا يخرج عنها، ومعوجة لا تجلب السعادة ولا الطمأنينة في الحياة لا للفرد ولا للمجتمع، وغير شاكلة لكل مناحي الحياة، وغير دقيقة في طريقة عرض المعالجات للمشكلة الواحدة…
قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في (المستصفى): «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة» ثم قال: «وهذ الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح».
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى في (شجرة المعارف): «اعلم أن الله سبحانه لم يشرع حكماً من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة، تفضلاً منه على عباده»، ثم قال: «وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا آجلة، لكنه دعاهم إلى كل ما يقربهم إليه».
ويقول ابن القيم في (إعلام الموقعين): «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة».
ويقول الشيخ تقي الدين النبهاني في كتاب (نظام الإسلام): «وأما الحاجات العضوية والغرائز فقد نظمها الإسلام تنظيماً يضمن إشباع جميع جوعاتها من جوعة معدة أو جوعة نوع أو جوعة روحية، أو غير ذلك؛ ولكن لا بإشباع بعضها على حساب بعض، ولا بكبت بعضها وإطلاق بعض، ولا بإطلاقها جميعاً، بل نسقها جميعاً وأشبعها بنظام دقيق مما يهيئ للإنسان الهناءة والرفاه، ويحول بينه وبين الانتكاس إلى درك الحيوان بفوضوية الغرائز».
وقد امتازت الأحكام الشرعية التي عالجت مسألة (توزيع الثروة) بأمور عامة (خطوط عريضة) وأحكام تفصيلية جعلتها تحقق العدالة والاستقامة في التوزيع لكل فرد من أفراد المجتمع، وفي نفس الوقت تحقق مسألة الرعاية والقوامة على المجتمع للدولة، بشكل يضمن إشباع الحاجات الأساسية للأفراد فرداً فرداً، ويساعد الدولة على إشباع الحاجات الكمالية لجميع أفراد الرعية، وبشكل يمكن الدولة كذلك من القيام برعاية شؤون الناس العامة في الخدمات والمرافق وما يلزم لأمور الحياة العامة.
فالثروة -من خلال أحكام الإسلام- تتفتت بين أيدي الناس إلى أكبر قدر، وعلى أوسع شريحة من الناس، حتى إنها تطال الجميع دون استثناء ليأخذ كل إنسان حاجته وكفايته من هذه الثروة، ويفتح أمامه الباب دون استئثار أو محاباة لأحد من الناس ليتمكن من حيازة ما يريد مما أباح الله حيازته والانتفاع به، وتجعل للدولة مصادر لحيازة هذه الثروة، في الملكيات الخاصة بها أو بعموم المسلمين -الملكيات العامة- للقيام بواجبها الرعوي.
ومن هذه الأحكام العامة التي امتازت بها هذه الأحكام الربانية العادلة، وتحقق العدالة في التوزيع:
1-تمكين جميع رعايا الدولة ومساعدتهم من الانتفاع بكل أنواع الثروات المباحة على وجه الأرض وبداخلها مما سمح الشرع بالانتفاع به، دون محاباة ولا تمييز ولا إيثار أحد على أحد بسبب القدرة أو الغنى أو المناصب السياسية…
2- تحديد وبيان كل أنواع الثروات التي أباح الشرع حيازتها والانتفاع بها بشكل مفصل دون إهمال لأي نوع من هذه الأنواع…
3- بيَّن الإسلام الأحكام الشرعية المنوطة بالدولة في تمكين الأفراد من حيازة الثروة والانتفاع بها ومساعدتهم لتحقيق هذه الغاية .
4- أوجبت الأحكام الشرعية على الدولة الإسلامية رعاية الملكيات العامة وقيامها بتوزيع هذه الثروة على الأفراد فرداً فرداً دون تمييز…
5- فصلت الشريعة في الأحكام الشرعية الخاصة بموضوع نفقة الفرد على نفسه، ونفقته على من تجب عليه نفقتهم، وما فرضه الله تعالى على المجتمع من مساعدة للفرد المحتاج، وفصلت في أحكام الزكاة التي تعطى للفقراء والمستحقين، وأحكام الغنائم وغير ذلك مما يتعلق بأحكام النفقات على أصحاب العوز والفقراء…
6- أوجبت الأحكام الشرعية على الدولة رعاية الحاجات الأساسية لكل فرد من أفراد الرعية (فرداً فرداً) دون تمييز بينهم…
7- وضعت الشريعة باباً وأحكاماً لمعالجة موضوع الجوائج والمجاعات، وغير ذلك مما ينتاب المجتمع بشكل جماعي طارئ، يرفع الخلل ويزيل الشدة عن الناس…
8- فصَّل الإسلام أحكام الأرض وبيَّنها بياناً شافياً كافياً -من حيث توزيعها والانتفاع بها – لكل فرد من أفراد الرعية…
9- ما تقوم به الدولة من إيجاد التوازن الاقتصادي في المجتمع بحيث ترفع مستوى أناس معينين حتى لا يكون المال (دُولةً) بين أيدي طائفة من أفراد المجتمع…
10- ما تقوم به الدولة من أعمال تختص بالنواحي العلمية، ورعاية مراكز التطوير مثل مراكز الطاقة، ومراكز تطوير أساليب الزراعة والصناعة وغير ذلك…
فهذه الأحكام وغيرها مما يتعلق بموضوع رعاية شؤون المال في الدولة والمجتمع، تساعد وتمكن أفراد المجتمع- فرداً فرداً- من حيازة نصيبهم من الثروات الطبيعية التي حباهم الله بها، وتمكنهم أيضاً من استغلالها بأكثر قدر مستطاع، وتجعل الثروة من نصيب كل فرد من أفراد المجتمع، دون تسلط أو محاباة أو منع كما هو الحال في النظام الرأسمالي الظالم.
وهذا بعكس النظم البشرية الأخرى -ومنها هذا النظام (الرأسمالي) الشرير- حيث إنه يساعد على (احتكار الثروة) من قبل أصحاب رؤوس الأموال والمتنفذين في المجتمع، ويمنع الآخرين من هذه الحيازة، والسبب أن طبيعة هذا النظام بأحكامه التي عالجت موضوع الثروة، يعمل على تركز الثروة بأيدي قسم قليل من الناس، ويحرم باقي أفراد المجتمع من هذه النعمة الربانية…
أما ما يتعلق بهذه النقاط العشرة التي ذكرناها -وتساعد في تفتيت الثروة بين أيدي أفراد المجتمع- فسوف نذكرها بشيء من البيان في الحلقات القادمة بإذنه تعالى.q
(يتبع)
2014-12-15