العدد 398 -

السنة الرابعة والثلاثون – ربيع الأول 1441هـ – ت2 2019م

صور من حياة الخليفة عمر بن عبد العزيز

صور من حياة الخليفة عمر بن عبد العزيز

يوسف أبو إسلام

 

الناظر في أحوال المسلمين اليوم وما هم فيه من مآسٍ يدرك مدى حاجة الأمة للخلافة. فالخلافة كانت حافظة للدين والدنيا؛ حيث تَنَعَّم في عدلها البشر والشجر والدوابُّ. وقد مرَّ بالمسلمين دوران من أدوار الخلافة، الراشدة والعضوض، والمسلمون اليوم وهم يكتوون بنار الحكم الجبري يرقبون على أحرّ من الجمر ذلك الوعد الرباني والبشرى النبوية بعودة الخلافة على منهاج النبوة. إن الأمة الإسلامية التي حكمت العالم بعدل الإسلام ما يزيد عن الثلاثة عشر قرنًا من الزمان، قادرة وبعون الله أن تعود من جديد إلى قيادة العالم.

من هنا كان لا بد من إعادة ثقة الأمة في موعود ربها وبشرى نبيها وبقدرتها على النهوض من جديد، ولا بد كذلك من عودة الثقة بالله وبنصره لهذه الأمة وأن الخير باقٍ فيها إلى يوم الدين، وأن الخلافة الموعودة ليست أي خلافة، بل هي خلافة على منهاج النبوة، وأنها فرض الساعة الذي لا يجوز التواني عن القيام به، كما يجب أن يعلم المسلمون اليوم، أن الخليفة القادم ستكون سيرته إن شاء الله تعالى كما كانت سيرة أولئك الخلفاء الراشدين الأوائل، ومنهم سيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

ولعلنا في عرضنا لسيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز الذي جاء على فترة كان فيها شيء من الدخن نعيد الأمل إلى نفوس المسلمين حتى يعود لهم الشوق لماضيهم العريق فينهضوا لإعادته من جديد. والله نسأل أن يوفقنا في عرضنا هذا وأن يكرمنا بالخلافة على منهاج النبوة قريبًا، إنه سميع مجيب.

(عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس)

هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي (61هـ/681م – 101هـ/720م)، هو ثامن الخلفاء الأمويين. ولد سنة 61هـ في المدينة المنورة، ونشأ فيها عند أخواله من آل عمر بن الخطاب، فتأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، وكان شديد الإقبال على طلب العلم. وفي سنة 87هـ، ولّاه الخليفة الوليد بن عبد الملك على إمارة المدينة المنوَّرة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، فصار واليًا على الحجاز كلها، ثم عُزل عنها وانتقل إلى دمشق. فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة قرّبه وجعله وزيرًا ومستشارًا له، ثم جعله ولي عهده، فلما مات سليمان سنة 99هـ تولى عمر الخلافة.

كان عمر بن عبد العزيز منذ صغره شديد الإقبال على طلب العلم، وكان يحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة، وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح، زاخرةً بالعلماء والفقهاء والصالحين. لقد تاقت نفسه للعلم وهو صغير السن، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصُه على العلم ورغبتُه في الأدب. جمع عمر ابن عبد العزيز القرآن وهو صغير، وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ، وقد تأثر كثيرًا بالقرآن الكريم، وكان يبكي لذكر الموت مع حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: «ما يبكيك؟»، قال: «ذكرت الموت»، فبكت أمه حين بلغها ذلك.

عاش عمر بن عبد العزيز في زمن ساد فيه مجتمعُ التقوى والإقبال على طلب العلم، فقد كان عدد من الصحابة لا يزالون بالمدينة، فقد حدَّث عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحًا شرب منه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما أمّ بأنس بن مالك فقال: «ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله من هذا الفتى».

تربَّى عمر بن عبد العزيز على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها، فقد اختار عبد العزيز (والد عمر) صالح بن كيسان ليكون مربيًا لعمر، فتولى صالح بن كيسان تأديبه، وكان يُلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يومًا أن تأخر عمر عن الصلاة مع الجماعة، فقال له صالح بن كيسان: «ما يشغلك؟»، قال: «كانت مرجّلتي (مسرحة شعري) تسكن شعري»، فقال: «بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟»، فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولًا فلم يكلمه حتى حلق رأسه. ولما حجَّ أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: «ما خبرت أحدًا الله أعظم في صدره من هذا الغلام».

من شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيرًا، ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: «لَمجلسٌ من الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليّ من ألف دينار» وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، قال عنه الزهري: «كان عبيد الله بن عبد الله بحرًا من بحور العلم».

عندما تولَّى عمر بن عبد العزيز ولاية المدينة قام بتكوين مجلس للشورى بالمدينة سمي بـ«مجلس فقهاء المدينة العشرة»، فعندما جاء الناس للسلام على أمير المدينة الجديد وصلّى بهم، دعا عشرة من فقهاء المدينة وهم: (عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت)، فدخلوا عليه وجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانًا على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني».

تميَّزت خلافة عمر بن عبد العزيز بعدد من المميزات، منها: العدلُ والمساواة، وردُّ المظالم التي كان أسلافه من بني أمية قد ارتكبوها، وعزلُ جميع الولاة الظالمين ومعاقبتُهم، كما أعاد العمل بالشورى، ولذلك عدّه كثير من العلماء خامس الخلفاء الراشدين، كما اهتم بالعلوم الشرعية، وأمر بتدوين الحديث النبوي الشريف.

استمرت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، حتى قُتل مسمومًا سنة 101هـ، فتولى يزيد بن عبد الملك الخلافة من بعده. قال عنه مالك بن دينار رحمه الله: «الناس يقولون عنِّي: زاهد، وإنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها».

روي أن أحد عمال عمر بن عبد العزيز على أحد الأقاليم كتب إليه يشكو خراب مدينته ويسأله مالًا يحصنها به، فكتب إليه عمر: «قد فهمت كتابك، فإذا قرأت كتابي فحصن مدينتك بالعدل ووثق طرقها من الظلم فإنه حرمتها… والسلام».

بهذه الكلمات الموجزة يقدم الخليفة الزاهد النصح للولاة ويدعوهم إلى العدل ونبذ الظلم، وقد قيل: لا ملك إلا بالجند، ولا جند إلا بالمال، ولا مال إلا بالبلاد، ولا بلاد إلا بالرعايا، ولا رعايا إلا بالعدل، فالعدل أفضل بكثير من جمع الأمراء أموالًا حتى للمدينة نفسها.

قيل لعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: يا أمير المؤمنين بيدك المال ولسنا نرى في بيتك شيئًا مما تحتاج إليه. ويحتاج إليه البيت فقال: «إن البيت لا يتأثث في دار النقلة، ولنا دار نقلنا إليها خيرنا، وإنا عن قليل إليها لصائرون».

وهذا موقف آخر يدعو للتدبر فكيف تصرف عمر عندما أتت إليه الخلافة. هل فرح فرحًا شديدًا؟

عندما تلقى عمر بن عبد العزيز خبر توليته (للخلافة)، انصدع قلبه من البكاء، وهو في الصف الأول، فأقامه العلماء على المنبر وهو يرتجف ويرتعد، وأوقفوه أمام الناس، فأتى ليتحدث فما استطاع أن يتكلم من البكاء، قال لهم: «بيعتكم في أعناقكم، لا أريد خلافتكم»، فبكى الناس وقالوا: «لا نريد إلا أنت»، فاندفع يتحدث، فذكر الموت، وذكر لقاء الله، وذكر مصارع الغابرين، حتى بكى مَن بالمسجد.

عندما نقرأ أول ما فعله أمير المؤمنين عندما تولى الخلافة تقشعر أبداننا، ونعلم الفرق بين من أتته رغمًا عنه وبين من أتاها راغمًا.

نزل عمر بن عبد العزيز في غرفة في دمشق أمام الناس؛ ليكون قريبًا من المساكين والفقراء والأرامل، ثم استدعى زوجه فاطمة، بنت الخلفاء، أخت الخلفاء، زوجة الخليفة، فقال لها: «يا فاطمة، إني قد وليت أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام – وتعلمون أن الخارطة التي كان يحكمها عمر، تمتد من السند شرقًا إلى الرباط غربًا، ومن تركستان شمالًا، إلى جنوب أفريقيا جنوبًا – قال: فإن كنت تريدين الله والدار الآخرة، فسلّمي حُليّك وذهبك إلى بيت المال، وإن كنت تريدين الدنيا، فتعالي أمتعك متاعًا حسنًا، واذهبي إلى بيت أبيك»، قالت:»لا والله، الحياة حياتُك، والموت موتُك»، وسلّمته حليّها وذهبها، فرفَعَه إلى ميزانية المسلمين.

عاش عمر رضي الله عنه عيشة الفقراء، كان يأتدم خبز الشعير في الزيت، وربما أفطر في الصباح بحفنة من الزبيب، ويقول لأطفاله: «هذا خير من نار جهنم».

أتى إلى بيت المال يزوره، فشم رائحة طيب، فسدّ أنفه، قالوا: ما لك؟ قال: «أخشى أن يسألني الله عز وجل يوم القيامة لم شممت طيب المسلمين في بيت المال». إلى هذه الدرجة، إلى هذا المستوى، إلى هذا العُمق!

قالوا لامرأته فاطمة بعد أن توفي: نسألك بالله، أن تصِفي عمر؟ قالت: «والله ما كان ينام الليل، والله لقد اقتربت منه ليلة فوجدته يبكي وينتفض، كما ينتفض العصفور بلَّله القطْر، قلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما لي!! توليت أمر أمة محمد، وفيهم الضعيف المجهَد، والفقير المنكوب، والمسكين الجائع، والأرملة… ثم لا أبكي، سوف يسألني الله يوم القيامة عنهم جميعًا، فكيف أُجيب؟».

خرج سليمان ومعه عمر إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومن معه، فقال عمر: «إنما هذا صوت نعمة، فكيف لو سمعت صوت عذاب؟»، فقال سليمان: «خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها»، فقال عمر: «أوخير من ذلك يا أمير المؤمنين؟»، قال: «وما هو؟»، قال: «قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك»، فجلس سليمان فردّ المظالم.

عندما تولى الإمارة، فإن أول شيء فعله هو أن يأخذ بالمشورة والنصيحة من كبار العلماء وليذكروه بالله حتى لا تأخذه الإمارة عن أمر ربه فماذا فعل؟…

كتب إلى الحسن البصري يسأله في ذلك فأجابه الحسن: «الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارًا ويعلمهم كبارًا، يكتب لهم في حياته ويدخرهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين، كالأم الشفيقة البرّة الرفيقة بولدها، حملته كرهًا ووضعته كرهًا وربته طفلًا، تسهر بسهره وتسكن بسكونه. ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته وتغتمّ بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى، وخازن المساكين يربي صغيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده؛ يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملَّكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله».

كيف كان معيار الخليفة عمر بن عبد العزيز في اختيار الولاة والعمال؟

عندما تولى عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه وأرضاه، جاء فحجب الحاجب وقال: «اعزل نفسك»، قال: ولم؟! قال: «رأيتك تتستر في ظل الخيمة، والناس في الشمس في عهد الوليد بن عبد الملك، والله ما تكون لي حاجبًا أبدًا، تعالَ يا مزاحم، أنت حاجبي، فقد رأيتك تكثر من قراءة القرآن وتصلي الضحى في مكان لا يراك إلا الله».

وكان عمر يقدر الناس بقدر تقواهم، فقد وفد عليه ثلاثة شباب، قال للأول: «ابن من أنت؟» قال: أنا ابن الأمير الذي كان في عهد الوليد. قال عمر: «اغرب عني وأبوك، فإن أباك كان يجلد المسلمين». وقال للثاني: «وأنت ابن من؟». قال: ابن والي الكوفة. قال: «دعني منك ومن أبيك». وقال للثالث: «وأنت ابن من؟». قال: أبي هو قتادة بن النعمان الذي ضرب في عينه يوم أحد – ضربه مشرك فسالت عينه على خده – فردها محمد صلى الله عليه وسلم فكانت أحر من الأخرى. ثم قال الفتى:

أنا ابن الذي سالت على الخد عينه *** فردت بكف المصطفى أحسن الرد

فبكى عمر بن عبد العزيز وقال:

تِلْكَ الْمَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ *** شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالاَ

القَعْبان: (جمع قَعْب، وهو قَدَحٌ من خشب)

يقول: من أراد أن يفتخر فليفعل مثلك، أنت النسب، أنت البطل، أنت التقي. وليس الافتخار أن تتصدق بكوبين من لبن يخلطان بالماء ثم يُشربان ثم بعدُ يتحولان إلى بول يخرج من الجسد.

الخليفة عمر بن عبد العزيز يحاسب أحد عماله على تضييعه دينارًا من بيت المال

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رب متخوِّض في مال الله فيما شاءت نفسه له النار غدًا». كان وهب بن منبه أمينًا على بيت مال المسلمين في اليمن، فكتب إلى عمر رحمه الله: «إني فقدت من بيت مال المسلمين دينارًا») فكتب له عمر رضي الله عنه: «إني لا أتهم دينك ولا أمانتك، ولكن أتهم تفريطك وتضييعك، وأنا حجيج المسلمين في أموالهم، ولَأَخَسنهُم (أقل ما أنت ملزم به) عليك أن تَحْلِفَ والسلام” وأمره بردّ ما فقد من المال، فردّه وهب من خاصّة ماله! وكأنه يقول له عليك أن تحلف بالله لجميع المسلمين أنك أضعت هذا الدينار دون أن يكون منك تفريط أو تقصير… ابن الجوزي / سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز

– قال عطاء الخراساني: «أمر عمر بن عبد العزيز غلامه أن يسخن له ماء، فانطلق فسخن قمقمًا في مطبخ العامة، فأمر عمر أن يأخذ بدرهم حطبًا يضعه في المطبخ».

قال وهيب بن الورد: إن عمر بن عبد العزيز، اتخذ دارًا لطعام المساكين والفقراء وابن السبيل، قال وتقدم إلى أهله: «إياكم أن تصيبوا من هذه الدار شيئًا من طعامها، فإنما هو للفقراء والمساكين». فجاء يومًا فإذا مولاة له، معها صحفة فيها غرفة من لبن، فقال لها: ما هذا؟ قالت: «زوجتك حامل كما قد علمت، واشتهت غَرفة من لبن، والمرأة إذا كانت حاملًا فاشتهت شيئًا فلم تؤتَ به تخوفت على ما في بطنها أن يسقط، فأخَذْتُ هذه الغَرفة من هذه الدار». فأخذ عمر بيدها فتوجه بها إلى زوجته وهو عالي الصوت، وهو يقول: «إن لم يمسك ما في بطنها إلا طعام المساكين والفقراء فلا أمسكه الله» فدخل على زوجته فقالت له: ما لك؟ قال: «تزعم هذه أنه لا يمسك ما في بطنك إلا طعام المساكين والفقراء، فإن لم يمسكه إلا ذلك فلا أمسكه الله». قالت زوجته: رديه، ويحك واللهِ لا أذوقه قال: فردَّتْه.

استخدام مراكب الدولة لأغراض الخليفة الخاصة:

كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يعجبه أن يتأدم بالعسل، فطلب من أهله يومًا عسلًا فلم يكن عندهم، فأتوه بعد ذلك بعسل، فأكل منه فأعجبه، فقال لأهله: من أين لكم هذه؟ قالت امرأته: «بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد، فاشتراه لي» فقال: «أقسمتُ عليك لما أتيتني به». فأتته بعكة فيها عسل، فباعها بثمن يزيد، وردَّ عليها رأسمالها، وألقى بقيته في بيت مال المسلمين وقال: «أنصبت دواب المسلمين في شهوة عمر!»

وهناك مواقف مشرقة لعمر بن عبد العزيز مع أصحاب الحاجات:

لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مواقف بذلية فردية كثيرة طرق فيها أصحاب الحاجات باب أمير المؤمنين مباشرة، دون واسطة أو انتظار تصريح حاجب، وقد تجلت في تلك المواقف رحمة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وعظمته، ومن تلك المواقف:

صاحب الفاقة يطلب حاجته أثناء تشييع أمير المؤمنين لجنازة:

عن عامر بن عبيدة قال: أول ما أُنكر من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه خرج في جنازة، فأُتي ببُرد كان يُلقى للخلفاء كي يقعدوا عليه إذا خرجوا إلى جنازة، فألقي إليه فضربه برجله ثم قعد على الأرض، فقالوا ما هذا؟ فجاء رجل فقام بين يديه فقال: «يا أمير المؤمنين، اشتدت بي الحاجة وانتهت بي الفاقة، والله يسألك عن مقامي هذا بين يديك» وقد كان في يد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قضيب قد اتكأ عليه، فقال: «أعد ما قلت». فأعاد عليه فقال: «يا أمير المؤمنين، اشتدت بي الحاجة وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عن مقامي هذا بين يديك»، فبكى حتى جرت دموعه على القضيب ثم قال له: ما عيالك؟ قال: خمسة أنا وامرأتي وثلاثة أولاد، قال: فإنا نفرض لك ولعيالك عشرة دنانير، ونأمر لك بخمس مائة، مائتين من مالي وثلاث مائة من مال الله، تبلَّغ بها حتى يخرج عطاؤك.

وهذا موقف آخر، أبو البنات يبكي أمير المؤمنين:

عن موسى بن المغير قال: سمعت رباح بن عبيد الباهلي قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فجاء أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين: جاءت بي إليك الحاجة وانتهت بي الفاقة – أو قال الغاية – والله سائلك عني يوم القيامة فقال: ويحك أعد علي، فأعاد عليه، فنكس عمر رأسه وأرسل دموعه حتى ابتلت الأرض، ثم رفع رأسه وقال: ويحك كم أنتم؟ قال أنا وثماني بنات، ففرض له على ثلاثمائة وفرض للبنات – أو قال لبناته – على مائة، وأعطاه مائة درهم، وقال: هذه المائة أعطيتك من مالي، ليس من مال المسلمين، اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم.

وهذا موقف آخر، فرتونة السوداء والحائط القصير:

كان بريد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا خرج لا يرد أي كتاب يحمله إياه أحد من الناس، وهذا كان عرفًا سائدًا في عهده، وذات مرة خرج بريد من مصر فدفعت إليه امرأة من مصر تسمى «فرتونة السوداء» كانت مولاة شخص يدعى «ذي أصبح» كتابًا تذكر فيه أن لها حائطًا قصيرًا، وأنه يُقتحَم عليها فيُسرق دجاجها، فكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرتِ من قصر حائطك وأنه يدخل عليك فيسرق دجاجك، فقد كتبت كتابًا إلى أيوب بن شرحبيل – وكان أيوب عامله على مصر – آمره بأن يبني لك ذلك، يحصنه لك مما تخافين إن شاء الله»، وكتب رضي الله عنه إلى أيوب بن شرحبيل: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل، أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت تذكر قصر حائطها، وأنه يسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها»، فلما جاء الكتاب إلى أيوب ركب ببدنه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها، وإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصَّنه لها».

هذا غيض من فيض ذكرناه لكم من سيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز تتشوق به نفس كل مسلم للخلافة الراشدة الموعودة لعل هممكم تستفيق، ولعلكم أيها المسلمون تنهضون لنصرة دينكم فتعملوا مع العاملين لعودة الخلافة، ولعل رجالًا من أهل القوة والمنعة يقرؤون هذه الكلمات فتبعث فيهم حمية الإسلام، فينصرون هذه الدعوة حتى نحقق وعد الله وبشرى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن نقيم الخلافة على منهاج النبوة.

اللهم اشرح صدور المسلمين لدعوتنا، وأقبل بقلوب أهل القوة والمنعة ناصرين لدعوتنا حتى نقيم الخلافة على منهاج النبوة، إنك يا مولانا على كل شيء قدير.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *