العدد 398 -

السنة الرابعة والثلاثون – ربيع الأول 1441هـ – ت2 2019م

رياض الجنة

رياض الجنة

 

– عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (صفًا واحدًا بعضهم بجنب بعض). لاَ يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ (أي أن دخولهم يكون في وقت واحد) وَجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ”.

عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ (تصغير الرهط وهو الجماعة دون العشرة). وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلاَنِ. وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ؛ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ (العدد الكبير الذي يُرى من بعيد) فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هٰذَا مُوسَىٰ وَقَوْمُهُ، وَلٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ. فَنَظَرْتُ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيم، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ الآخَرِ؛ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ (جاء في رواية عند البخاري:« فرأيت سوادًا كثيرًا سد الأفق). فَقِيلَ لِي: هٰذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ». ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ. فَخَاضَ النَّاسُ (تكلموا وتناظروا وانتشر الصوت) فِي أُولٰئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟» فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ (لا يقرؤون على غيرهم بالرقية). وَلاَ يَسْتَرْقُونَ (لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، لقوة اعتمادهم على الله)، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ (مأخوذة من الطير، وأصله التشاؤم بالطير الذي كان منتشرًا في الجاهلية، ولكنه يعمُّ كل تشاؤم بمرئي أو مسموع أو زمان أو مكان)، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (وهذا هو الأصل الجامع الذي تفرعت منه الأفعال السابقة وهو التوكل على الله وصدق اللجأ إليه)». فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ» (وفي رواية البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم اجعله منهم») ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ». ولمسلم من حديث عمران: «وَلاَ يَكْتَوُونَ» (لا يطلبون من أحد أن يكويهم من باب العلاج)» وهي عند البخاري من حديث ابن عباس.

هذا الحديث فيه بيان علو مرتبة التوكل على الله في الآخرة؛ حيث إن صاحبه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ حيث تركوا الاسترقاء والتطير والاكتواء، فهو من كمال الإيمان وعلو درجة المتوكِّل على الله. ففي الحديث بيان لفضيلة النبي وشرفه بكثرة أتباعه، وبيان لفضيلة هذه الأمة على غيرها من الأمم، وبيان لفضيلة حسن التوكل على الله عند هذه الأمة. فالإيمان درجات ومن أعلاها حسن التوكل والاعتماد على الله…

  • أما الرقية فمشروعة، وتركها تفويضًا لله درجته عالية. وتكون الرقية بكلام الله تعالى أو بأسمائه أو بصفاته أو بما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب الاعتقاد بأن الرقية لا تؤثر بذاتها بل التأثير من الله تعالى. وقد كان للعلماء في الرقية كلام وهو:

– أن الرقية من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يرقي كما في الصحيحين من حديث عائشة، ورقاه جبريل كما في حديث عائشة عند مسلم، ورقته عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين من حديث عائشة.

– أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرقون، فقد رقت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ورقى الصحابة غيرهم كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتفق عليه في قصة الصحابي الذي رقى سيد الحي بفاتحة الكتاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أدراك أنها رقية”.

– أن الراقي محسن إلى غيره، فكيف يمنع هذا الفضل، وقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله أرقي؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل» رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «لابأس بالرقى ما لم تكن شركًا».

  • أما قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلاَ يَسْتَرْقُونَ» أي لا يطلبون الرقية من غيرهم، وفيه أن من أراد نيل فضل السبعين ألفًا بدخول الجنة بلا حساب ولا عذاب ألا يطلب الرقية، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَلاَ يَسْتَرْقُونَ» والألف والسين والتاء من (استرقى) تدل على الطلب، ومفهومه أن عدم طلبهم الرقية، مع جواز طلبها، هو من تمام توكلهم واعتمادهم على الله تعالى، وعدم تعلقهم بغيره. فالمسترقي يؤمن أن الرقية مشروعة، وهي بشروطها الشرعية تشفي إن أراد الله له الشفاء، ويؤمن كذلك أن الله هو الشافي وحده والمطلع على حاله والذي يدبر أمره ويصلح شأنه بما يعلم، والمسلم بتركه للاسترقاء يعني أنه يرضى بما يرضى الله له به، سواء بالشفاء أم بعدمه، فهو وكل أمره كله إلى ربه.

  • أما قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ “ (التطيُّر مأخوذ من الطير، وأصله التشاؤم بالطير الذي كان منتشرًا عند العرب، فإذا ذهب الطير ناحية الشمال أو رجع إلى الخلف تشاءموا، وإذا ذهب ناحية اليمين تفاءلوا، لذا سمي تطيرًا. ولا يلزم أن يكون التشاؤم بالطير، وإنما يعم كل تشاؤم سواء كان بمرئي كرؤية الطير، أو بمسموع كأن يسمع صوتًا يكرهه فيعلق عليه مصيره الذي صار إليه أو صار ينتظره، أو كأن ينتشر عند الناس معلومة لا حقيقة لها ويصدقونها فيتشاءمون بها، ومثله التشاؤم بأيام معينة، فكل تشاؤمٍ بمرئي أو مسموع أو معلوم فهو منهي عنه). والتشاؤم حكمه محرم؛ ولذا نهى عنه الإسلام ودعا إلى ضده وهو التفاؤل. ومما يدل على تحريمه ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة» وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل» قالوا: وما الفأل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الطيبة» متفق عليه. ففي الحديث ذم للتطير، والتطير ينافي التوحيد من وجه أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غيره، أو تعلق بأمر لا حقيقة له.

  • أما قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلاَ يَكْتَوُونَ» ففيه أن الاعتماد على الكي والاستشفاء به مانع من تحقيق فضل السبعين ألفًا، ووردت في الكي أدلة كثيرة منها ما يدل على ذمه، ومنها ما يدل على إباحته. ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كيٍ بنار، وأنا أنهى أمتي عن الكي»، وفي حديث جابر رضي الله عنه المتفق عليه: «وما أحب أن أكتوي». وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ رضي الله عنه لما رمي في أكحله، ولهذه الأحاديث اختلف العلماء في حكمه، والأظهر والله أعلم جوازه لاسيما عند الحاجة، ويحمل النهي على الكراهة، والأولى تركه. وجمع ابن القيم رحمه الله بين الأدلة بكلام جميل حيث قال: «تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: أحدها بفعله، والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى. فإن فعله صلى الله عليه وسلم يدل على جوازه، وعدم محبته لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعله خوفًا من الداء» [زاد المعاد].

  • أما قوله صلى الله عليه وسلم: «وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ “ففيه فضيلة التوكل على الله وعظم منزلته، وأنه هو الجامع للأوصاف التي سبقته «وَلاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» فإنهم امتنعوا عن ذلك لتمام توكلهم على الله تعالى. والتوكل هو: صدق الاعتماد على الله عز وجل، مع الثقة به، والأخذ بالأسباب. فصدق الاعتماد على الله يكون بأن يفوِّض أمره إلى الله تفويضًا كاملًا. والثقة بأنه سيكفيه ويكون حسبه كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُ﴾. ولا بد معه من القيام بالعمل المشروع لتنفيذه؛ ولأنه بلا عمل يكون تواكلًا وليس توكلًا. قال ابن القيم: «وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُنَافِي الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ. فَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إِلَّا مَعَ الْقِيَامِ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ بَطَالَةٌ وَتَوَكُّلٌ فَاسِدٌ» [مدارج السالكين]. ومن المشروع أن يقول المسلم توكلت على الله تعالى في عمل كذا؛ وذلك إظهارًا لقصده ولما فيه من تأكيد تحقيق عبوديته له سبحانه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *