العدد 398 -

السنة الرابعة والثلاثون – ربيع الأول 1441هـ – ت2 2019م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

 

(يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢٦٩ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ ٢٧٠ إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّ‍َٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ٢٧١)

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

   أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

( يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ ) أي يعطيها لمن يشاء من عباده.

و( ٱلۡحِكۡمَةَ ) في الأصل مأخوذة من الحكم وفصل القضاء، وهي مصدر على الإحكام أي الإتقان في العلم والعمل وسداد الرأي والإصابة فيها وما يمتنع به المرء من السفه. وهذا يقع في كلّ ما من شأنه الإتقان والإصابة والسداد في الرأي؛ ولذلك استعملها العرب في هذا الأصل وفي معانٍ مشتركة أخرى ضمن هذا الأصل، والسياق يعين المعنى المطلوب. فاستعملت في معرفة الله سبحانه، وفي القرآن وفي تدبره والنبوة والسنة، وفي العلم والحكم والفقه وغيرها.

والراجح في الآية الكريمة ( يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ ) أن الحكمة هنا هي أصل الاستعمال (السداد في الرأي والإصابة في القول والعمل) وقلت هذا لأن ذكر الآية بعدما سبقها ( وَلَسۡتُم بِ‍َٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيه) فيه دلالة على أنهم لو كانت لديهم إصابة في القول والعمل وسداد في الرأي لأدركوا أن ما لا يرضونه لقضاء حقهم من باب أولى أن لا يرضاه الله لقضاء حقه، فلعدم وجود حكمة لديهم تيمموا الخبيث فأنفقوا منه وفاتهم إدراك أنهم أعطوا الله من المال الرديء ما لا يقبلون هم أن يأخذوه. ثم يبين الله سبحانه بعد ذلك أن من أوتي الحكمة فقد فتحت السبل لديه إلى خير الدارين، فسداد الرأي والإصابة في القول والعمل ستمكنه من نوال خير الدارين بتوفيق من الله تعالى فينتفع بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويسارع إلى الخير آخذًا منه ما استطاع إليه سبيلًا.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله تعالى مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فيقضي بها ويعلمها[1] وهي هنا تعني تدبر القرآن والسنة والتفقه فيهما.

  1. بعد أن بيَّن الله سبحانه الصدقة المفروضة والوفاء بها بلا منٍّ ولا أذًى ولا رياءٍ، ومن طيب المال وجيده لا من رديئه، بين الله سبحانه في هذه الآية وجوب الوفاء بالنفقة التي يلزم العبد نفسه بها لسبب أي (النذر).

ثم تـوعـَّد سـبحـانه المنفقين في ما فرضه الله عليهم (وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ )، وفي ما ألزموا أنفسهم به وأصبح واجبًا عليهم ( أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ)، وتوعدهم بالعقاب الأليم إن وضعوا تلك النفقة في غير موضعها، وهذا يشمل كل من أنفق رياء أو بالمن والأذى، أو الخبيث من المال، أو النفقة في أية معصية، أو من امتنع عن الوفاء بالنذر، أو من بخلوا في إخراج الصدقات. كل أولئك توعدهم الله بالعذاب يوم لا يجدون ناصرًا ينصرهم من عذاب الله، فهم ظالمون يضعون الأمور في غير مواضعها (وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ) وهذا الوعيد قرينة على أن (النفقة والنذر) المذكورة في الآية هي النفقة الواجبة كالزكاة والنفقة على من يعول والنذر الواجب الوفاء، فهي التي يترتب على عدم أدائها عقوبة.

(فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ) كناية عن مجازاته سبحانه لكلّ أولئك، ففيه وعيد لمن خرج عن طاعة الله في الوفاء بما فرضه الله وبالنذور. و(الفاء) داخلة في جواب الشرط. (ما) شرطية. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه النسائي عن عمران بن الحصين: “النذر نذران، فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله تعالى وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك من الشيطان، ولا وفاء فيه، ويكفره ما يكفر اليمين[2].

  1. ثم يبين الله في الآية الأخيرة أن إبداء الصدقة وإظهارها خير إن خلا من الرياء، وإخفاؤها عند إعطائها للفقير أفضل. ويبشر عباده بأن الله سبحانه يكفر بصدقاتهم بعض سيئاتهم ( إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ ). وأنه سبحانه بما يعملون خبير، فلا تخفى عليه خافية، فيعلم النية الصادقة في الصدقة والإخلاص في الدافع لها، فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها سبحانه.

(إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ ) هذه الآية بيان للآية السابقة، وهي تعني مدح إبداء أو إخفاء إعطاء الفقير من الزكاة المفروضة أو النذر الواجب الوفاء للفقراء، غير أن إخفاءه خير من إبدائه، فهو أفضل وأحب لله سبحانه وأبعد عن الرياء بالنسبة للمعطي، وعن الحرج بالنسبة للفقير المعطى له. ولأن هذه الآية ( إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ ) بيان للآية السابقة ( وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ ) لذلك ترك حرف العطف بينهما.

وحيث إنَّ الآية بيان كما ذكرنا فإن (الصدقات المذكورة فيها) هي (النفقة والنذر) المذكورة في الآية السابقة أي النفقة الواجبة للفقراء والزكاة المفروضة والنذر الواجب الوفاء للفقراء كما بينّا سابقًا في مكانه.

وهنا تظهر مسألة وهو قوله سبحانه ( وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ ) فإن إيتاء المنفق للفقراء في حالة النفقة الواجبة للفقير الذي يعول مثلًا أو في حالة النذر الواجب وفاؤه للفقراء، هذا الإيتاء واضح ممكن من المنفق مباشرة. لكن كيف يكون إيتاء المنفق مباشرة للفقراء في حالة الزكاة؟ فهل يجوز له ذلك أم لا بدّ من دفعها للدولة وهي تؤتيها الفقراء؟

يقول أبو يوسف في الخراج: “إن زكاة النقدين يجوز أن يعطيها صاحبها إلى الفقراء مباشرة دون أن يدفعها للدولة وذلك بإذن من الخليفة” والدليل عليه إذنه صلى الله عليه وسلم لمن كان يدفع زكاة النقدين للفقراء وإقراره لهم.

فللخليفة أن يأذن للرجل بأن يدفع زكاة النقدين بنفسه للفقراء مباشرة وعندها تنطبق عليه الآية ( وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ ) لأن فعل الشرط ليس ( تُخۡفُوهَا ) بل ( تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ ) فالإخفاء أفضل إذا كانت الصدقة تعطى للفقير مباشرة من المنفق.

هذا في زكاة النقدين، فهي التي يجوز إعطاؤها الفقراء مباشرة من المنفق.

وأما في غير زكاة النقدين كالأنعام والزروع فلا يجوز لصاحبها إعطاؤها للفقراء مباشرة بل يجمعها ويدفعها إلى والي الصدقات أو المصدق أي عامل الصدقة، وفي هذه الحالة لا تنطبق الآية الكريمة بأفضلية الإخفاء، بل إن علانيتها في هذه الحالة أفضل من أن يأخذها صاحبها للوالي خلسة أو يدفعها خفية لعامل الصدقة، فإظهار الطاعة للخليفة في تنفيذ الأحكام أفضل من إخفائها. أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة أن أبا ذرّ قال: “يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة سرّ إلى فقير أو جهد مقلّ. ثم قرأ الآية[3]. وفي الحديث الصحيح: “سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظلّ إلا ظله … – ومنهم – ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه” و(صدقة) هنا مطلقة، الصدقة تشمل الفرض والنافلة. وجملة القول:

إن إخفاء الصدقة التي يعطيها صاحبها للفقير مباشـرة، فرضـًا كانت أو نافلة، أفضل من إبدائها، أما إذا كانت فرضًا يؤدى للخليفة أو عماله فإعلانها أفضل من إخفائها، ولعل هذا مدلول ما روي عن بعض الصحابة في ذلك: “فقد روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – صدقة السر من التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفًا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها خمسًا وعشرين ضعفًا” وتكون صدقة الفريضة هنا تعني تلك الصدقة – الزكاة – التي تؤدى للدولة الإسلامية، فإعلانها أفضل لأن إظهار الطاعة للخليفة في تنفيذ الأحكام أفضل.

(فَنِعِمَّا هِيَۖ ) نِعْمَ فعل مدح ماض مبني على الفتح، فأصله نِعم ثم بإدخاله على (ما) سُكنت الميم وكُسرت العين لالتقاء الساكنين.

(ما) نكرة تامة في محل نصب على أنها تمييز، وفاعل (نِعم) ضمير مستتر يعود على الصدقات مفسر بالتمييز بعده.

( هِيَۖ ) مبتدأ مؤخر عائد على إبداء الصدقات، وخبره مقدم وهو الجملة الفعلية قبله من فعل المدح والفاعل، أي فنعما إبداؤها لكن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمخصوص بالمدح ليس الصدقات وإنما (إبداؤها) كما بيناه. والدليل على أن المخصوص بالمدح هو إبداء الصدقات وليس الصدقات هو عطـف الإخفاء وإسناد الخيرية له (  وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ ) فهنا إسناد إلى الإخفاء وليس للصدقات، وهو في مقابل المعطوف عليه ( إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ ) أي أن الممدوح أولًا هو إبداء الصدقة، والأفضل من ذلك هو إخفاء الصدقة.

( فَنِعِمَّا هِيَۖ ) جملة في محل جزم جواب الشرط الأول ( إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ ).

( فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ ) جملة في محل جزم جواب الشرط الثاني ( وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ).

( وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّ‍َٔاتِكُمۡۗ ) ، ( مِّن ) هنا زائدة فالله يكفر كلّ السيئات، أو تبعيضية فالله يكفر بعض السيئات.

غير أن القراءة المتواترة {ونـكفر} بالنون وجزم الراء، وهذه القراءة – أعني بالجزم – تجعل التكفير للسيئات جوابًا لشرط إخفاء الصدقات، أي أن (التكفير من السيئات يترتب على إخفاء الصدقات) فإن كانت ( مِّن ) زائدة يكون المعنى أنكم إن أخفيتم الصدقات فإن ( سَيِّ‍َٔاتِكُمۡۗ) كلها سيتم تكفيرها، وإن كانت ( مِّن ) للتبعيض يكون المعنى أنكم إن أخفيتم الصدقات فإن بعض سيئاتكم سيتم تكفيرها، ولأن إخفاء الصدقات ليس موجبًا لتكفير كل السيئات بل بعضها من أدلة أخرى، فتكـون( مِّن )  هنا للتبـعـيض لا غـير، أي أن هـذه القـراءة تـفـيـد معنى محكمًا وهو (من للتبعيض).

أما القراءة الأولى ( وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّ‍َٔاتِكُمۡۗ ) فإن ( يُكَفِّرُ ) ليست معطوفة على محل جزم جواب الشرط لأنها مرفوعة بل هي جملة مستأنفة، وهي في هذه الحالة خبر من الله سبحانه أنه يكفر السيئات قد يكون كلها أو بعضها، فهذه القراءة تحتمل (مِّن) زائدة أي السيئات كلها أو (مِّن) للتبعيض أي بعضها، أي أن هذه القراءة من المتشابه.

والقراءة على الجزم تفيد أن (مِّن) للتبعيض كما بينا، وحيث إنَّ القراءتين متواترتان والمعنى واحد والمحكم قاضٍ على المتشابه فتكون (مِّن) للتبعيض، أي أن إخفاء الصدقة وإعطاءها للفقراء لا يكفر كل السيئات بل بعضها كما يتناسب معها حسب تقدير الله وحكمته. وهذا المعنى هو الراجح هنا وفيه من الحكمة ما فيه، ليبقى العباد حريصين على خشية الله سبحانه والإكثار من الحسنات والتقرب إليه، فلا يتكلوا على إخفاء الصدقات ظنًا منهم أنها كافية لتكفير كل سيئاتهم فيتجرؤوا على حدود الله ومعاصيه اتكالًا على ذلك، فإن أدركوا أن الصدقات تكفر بعض السيئات كما في تقدير الله وعلمه حرصوا على الإكثار من الحسنات والتقليل من السيئات ليفوزوا عند الله في الدارين، وذلك الفوز العظيم.

(وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ ٢٧١ ) أي مطلع على إعلان صدقاتكم وإخفائها وإخلاصكم فيها وصدقكم في التوجه إلى الله بها لا تخفى عليه خافية. 

[1]               البخاري: 71، 1320، مسلم: 135، الترمذي: 1859

 

[2]               النسائي: 3785

 

[3]               أحمد: 5/178، 179، ابن حبان: 2/76

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *